آخر الأخبار

لماذا يهدد ترامب بالحرب على نيجيريا؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

لا يكاد يخفى التأثير الكبير لقناة فوكس نيوز ذات التوجه اليميني المحافظ في الدوائر المحيطة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب . وبحسب "سي إن إن" تجلى هذا التأثير كأوضح ما يكون في الإعلان غير المألوف لترامب في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بخصوص نيجيريا، الدولة الواقعة في غرب أفريقيا على بعد آلاف الأميال من الأراضي الأميركية.

بدأ الأمر عندما شاهد ترامب تقريرا لفوكس نيوز على متن طائرته الرئاسية أثناء رحلة إلى فلوريدا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. ادعى التقرير وجود استهداف ممنهج للمسيحيين في نيجيريا وهو ما جعل ترامب "يستشيط غضبا"، طالبا من مرافقيه الاطلاع على مزيد من المعلومات حول القضية.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 قصة سائق الحافلة الذي يحارب الإمبراطورية الأميركية
* list 2 of 2 ستبقى أميركا في القلعة وعلى العالم أن يعتني بنفسه end of list

بيد أنه لم ينتظر المعلومات طويلا، فبعد فترة قصيرة من هبوط طائرته في ويست بالم بيتش، بدأ في النشر بحماس حول القضية على منصته "تروث سوشيال".

أعلن الرئيس الأميركي أنه سيصنف نيجيريا "دولة مثيرة للقلق بشكل خاص" (CPC) استنادا إلى قانون الحرية الدينية الدولية لعام 1998 الذي يمنح وزارة الخارجية الأميركية سلطة رصد الدول التي تنتهك حرية الدين والمعتقد، ومعاقبتها.

وكتب ترامب على منصته قائلا: "المسيحية تواجه تهديدا وجوديا في نيجيريا. يُقتل آلاف المسيحيين في البلاد، والإسلاميون المتطرفون مسؤولون عن هذه المذبحة الجماعية".

في الأيام التالية، تصاعدت حدة الخطاب أكثر، بعدما أعلن ترامب أنه إذا "استمرت حكومة نيجيريا في السماح بقتل المسيحيين"، فإن الولايات المتحدة "ستوقف فورًا جميع المساعدات والدعم المقدم لها، وقد تقتحم هذا البلد الذي بات ملطخًا بالعار للقضاء تماما على الإرهابيين الإسلاميين الذين يرتكبون هذه الفظائع المروعة"، بحسب قوله.

وقرر الرئيس الأميركي إرسال بعثة لتقصي الحقائق بقيادة عضو الكونغرس رايلي مور مهمتها التحقيق في مسألة اضطهاد المسيحيين في الدولة الأفريقية، فيما أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن بلاده ستفرض قيودًا على إصدار التأشيرات للأفراد الذين يقدمون المساعدة أو التمويل أو الدعم لقتل المسيحيين في نيجيريا.

إعلان

بالتوازي مع التحركات السياسية، رفع ترامب سقف التهديدات العسكرية، قائلا إنه أصدر تعليماته لوزارة الحرب بالاستعداد لأي تحرك عسكري محتمل، ربما يشمل غارات جوية وإنزال قوات برية، مشيرا إلى أن هذا التحرك "سيكون سريعًا وعنيفًا، تمامًا كما يهاجم الإرهابيون مسيحيينا الأعزاء".

هذا الخطاب، الذي جمع بين المواقف الدبلوماسية الصارمة والتلويح بالخيارات العسكرية الخطيرة والإطار الديني الإنجيلي، يشكّل أحد أوضح التهديدات العسكرية، وأكثرها مباشرة وخطورة ضد دولة أفريقية في التاريخ القريب للسياسة الخارجية الأميركية، وهو تهديد تطلقه القوة الأكبر في العالم، مغلفا بسردية دينية مستدعاة من غياهب العصور الوسطى.

ردت نيجيريا بحسم على ترامب على لسان الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو الذي رفض الاتهامات الأميركية، مؤكدا أن "وصف نيجيريا بأنها دولة غير متسامحة دينيا لا يعكس واقعنا الوطني"، ومشيرًا إلى "الجهود المتواصلة والصادقة" التي تبذلها إدارته لحماية حرية الدين والمعتقد لجميع النيجيريين.

وأصدر الاتحاد الأفريقي بيانا رسميا يدافع عن سيادة نيجيريا ويحذر من "استغلال الدين كسلاح أو تبسيط التحديات الأمنية بشكل مفرط". ولكن في كواليس التهديدات الأميركية، تظهر -كما العادة- دوافع خفية يرجح أنها حركت الولايات المتحدة لإصدار تهديدات على هذا المستوى، وهي دوافع تتجاوز الاهتمام "المصطنع" بأوضاع المسيحيين الأفارقة على بُعد آلاف الأميال من أراضيها.

مصدر الصورة الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو (الفرنسية)

ما الذي يحدث في نيجيريا حقا؟

لا يمكن فهم السياق الكامل لتهديدات ترامب، دون إحاطة سريعة بالمشهد السياسي والديني في نيجيريا، وهو مشهد أكثر تعقيدا من سردية ترامب -المبسطة بشكل مخل- حول الصراع الإسلامي المسيحي واضطهاد المسيحيين في البلاد.

سياسيا، تعد نيجيريا جمهورية رئاسية اتحادية على غرار النظام الأميركي بموجب دستور عام 1999 الذي دشن رسميا عودة البلاد إلى الحكم الديمقراطي المدني بعد 15 عامًا من الحكم العسكري ودشن معها بداية الجمهورية الرابعة في نيجيريا، التي حافظت على هياكلها الديمقراطية الرسمية لأكثر من ربع قرن رغم التحديات المستمرة التي تواجهها.

يُقسّم النظام الاتحادي السلطة بين الحكومة الوطنية وحكومات الولايات (36 ولاية)، ويمنح الولايات استقلالية كبيرة في إدارة شؤونها المحلية، فيما تُمارس السلطة التشريعية في البلاد من خلال برلمان ثنائي الغرفة (مجلس الشيوخ ومجلس النواب).

ونيجيريا هي دولة علمانية رسميا بموجب دستورها حيث لا يوجد دين رسمي للدولة، على الرغم من أن الإسلام والمسيحية هما الديانتان الرئيسيتان في البلد الأفريقي وهما تؤثران بشكل كبير على الحياة العامة.

ورغم عدم وجود ترتيب دستوري ينظم ديانة الرئيس، تناوب رؤساء مسيحيون ومسلمون على المنصب خلال حقبة الحكم العسكري وحتى بعد الانتقال إلى الديمقراطية.

كان أولوسيجون أوباسانجو، المسيحي البروتستانتي، أول رئيس لنيجيريا في الحقبة الديمقراطية وتتابع من بعده الرؤساء من المسلمين والمسيحيين على السواء.

وبسبب التنوع العرقي والديني غالبا ما تسعى الأحزاب الكبرى لتقديم الرئيس ونائبه من ديانتين مختلفتين لضمان القبول الوطني، رغم أن الرئيس الحالي بولا تينوبو (مسلم) خرق هذا التقليد بتسمية كاشم شيتيما مصطفى (وهو مسلم أيضا) نائبا له خلال انتخابات عام 2023.

إعلان

اجتماعيا، يمثل سكان نيجيريا البالغ عددهم حوالي 230 مليون نسمة، أحد أكثر المجتمعات تنوعا دينيا وعرقيا في أفريقيا. ينقسم البلد بالتساوي تقريبا بين السكان المسلمين (53%) والمسيحيين (45%) بينما يعتنق بقية سكان البلاد (أقل من 2%) الديانات الأفريقية التقليدية.

ويتركز المسلمون بشكل أساسي في الولايات الشمالية، بينما يهيمن المسيحيون على المناطق الجنوبية، في حين تتميز منطقة "الحزام الأوسط" بتنوعها الديني.

إلا أن هذا الوصف الديمغرافي المبسط يخفي واقعًا أكثر تعقيدًا، فأبوجا تضم أكثر من 500 جماعة عرقية متميزة، وغالبًا ما يتقاطع فيها الدين مع العرق، مع التنافس الاقتصادي بطرق تتجاوز التصنيف الطائفي البسيط.

هذه العوامل المتداخلة تلقي بظلالها الثقيلة على العنف المزمن في البلد الأفريقي. وبحسب "بي بي سي" يمثل الشمال الشرقي أهم بؤر العنف حيث تنشط كل من جماعة "بوكو حرام" منذ عام 2009 و" تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا" (الذي انشق عن بوكو حرام عام 2016).

وهذان التنظيمان -رغم طابعهما الإسلامي المعلن- يستهدفان المسلمين والمسيحيين على السواء، فقد أطلقت الجماعتان نيرانهما على المساجد واختطفتا الفتيات والفتيان المسلمين من المدارس الثانوية، واستهدفتا المسلمين الذين تعتبرهم الجماعة مرتدين أو غير ملتزمين بما يكفي بتفسيرها للإسلام.

بالانتقال إلى الشمال الغربي، تتغير خارطة العنف وهويته بظهور ما يسمى محليا بـ"قطاع الطرق" وهم عصابات إجرامية منظمة تباشر عمليات اختطاف جماعي وتشن هجمات على القرى الريفية من أجل سرقة الأغنام واحتجاز الرهائن بهدف جمع أموال الفدية.

هذه الممارسات تطال المزارعين المسيحيين تماما كما تنال من مزارعي الهوسا المسلمين، مما يكشف أن العنف في هذه المناطق مدفوع في المقام الأول بالجريمة وسرقة الموارد وليس بالأيديولوجيا الدينية.

مصدر الصورة خريطة نيجيريا (الجزيرة)

أما في ولايات الحزام الأوسط فنجد صراعًا عنيفًا ودمويًا بين رعاة الماشية (مسلمين على الأغلب) والمزارعين (أغلبهم مسيحيون) لكنه صراع حول الأراضي والموارد والمياه والمراعي وليس حول الدين والهوية.

تمتعت هذه المجتمعات تاريخيا بعلاقات تكاملية، حيث كان الرعاة والمزارعون يبادلون الحليب بالحبوب، قبل أن يتسبب التغير المناخي والتصحر في تقليص مساحات الأراضي ويخلق تنافسا حول الموارد بين المزارعين والرعاة.

دفع هذا التنافس المزارعين المسيحيين لادعاء ملكية الأراضي المخصصة لحركة قطعان رعاة الفولاني (المسلمين)، بموجب نظام "البورتي" المبرم خلال الحقبة الاستعمارية لتنظيم حركة الماشية، ما تسبب في انهيار نظام اجتماعي راسخ منذ قرون.

في المقابل، اضطر رعاة الفولاني إلى النزوح جنوبا نحو مناطق كانت تُزرع تقليديا من قِبل مجتمعات مستقرة ذات أغلبية مسيحية، مما عمق التنافس العنيف حول الأراضي والموارد.

إلى الجنوب الشرقي يظهر نوع مختلف من العنف من حيث طبيعته وأهدافه. ويتمركز في تلك المنطقة الانفصاليون المسيحيون، من عرقية الإيغبو، الساعون لإحياء دولة بيافرا البائدة، وهي دولة انفصالية مؤقتة نشأت بين عامي 1967-1970 وتسبب إعلانها في نشوب حرب أهلية دامية.

هؤلاء الانفصاليون يسعون إلى أهدافهم من خلال العنف ضد المؤسسات الحكومية والمدنيين في المنطقة ومعظمهم من المسيحيين، وفي هذه الحالة فإن المسيحيين هم من يقتلون المسيحيين للتنافس على السلطة السياسية.

تُجسّد هذه الصراعات بامتدادها الجغرافي الشاسع، والاختلاف الواضح في محركاتها وأهدافها ثغرة واضحة في "الغلاف الديني" الذي يتبناه ترامب ورموز إدارته.

فالدوافع الرئيسية لهذا العنف لا تدور حول الأيديولوجيا الدينية، بقدر ما تتعلق بالتنافس على الموارد والصراعات على السلطة السياسية، وتباين الانتماء العرقي وحتى النزعات الإجرامية.

إعلان

هذه الدوافع تغذيها عوامل كامنة مثل الفقر، والتفكك الاجتماعي، وإخفاقات النخب الحاكمة وقصور النظام السياسي. وحتى حين يتم حشد الهويات الدينية والعرقية في روايات الصراع، فإنها تستخدم غالبا غطاء لتعمية الأسباب الجذرية الأخرى للعنف.

"الحقائق الزائفة".. ثغرة في الرواية الأميركية

تتغافل الإدارة الأميركية والإعلام اليميني المناصر لها عن كل هذه التعقيدات، ومنهم أصوات بارزة مثل مقدم البرامج التلفزيونية الأميركي بيل ماهر، الذي سبق أن وصف الإسلام بأنه "مافيا"، والذي حرص مؤخرا على تصوير إبادة جماعية مزعومة ضد المسيحيين في نيجيريا.

ولفعل ذلك، غالبا ما يُستشهد بتقارير غير دقيقة أو تفتقر إلى السياق السليم، ومنها تقرير لمنظمة "أبواب مفتوحة" المسيحية يتحدث عن مقتل 3100 مسيحي في نيجيريا بسبب معتقداتهم الدينية في الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وسبتمبر/أيلول 2024.

أما التقرير الأهم، والأكثر استشهادا في هذا السياق، فصدر عن منظمة إنترسوسايتي "الكاثوليكية" زاعما مقتل 7087 مسيحيا في أول 220 يومًا من عام 2025 فقط، أي ما يقارب 32 شخصا يوميا، كما تحدث عن تدمير أكثر من 19 ألف كنيسة، وتشريد أكثر من 1100 مجتمع مسيحي، والاستيلاء على 20 ألف ميل مربع من الأراضي المملوكة للمسيحيين، فضلا عن اختطاف 600 رجل دين مسيحي ومقتل العشرات منهم منذ عام 2009.

فنيا، تفتقر هذه التقارير إلى منهجية واضحة ولا تفصح عن طرق دقيقة للإحصاء ولا تتبين بشكل كاف من هوية الضحايا (صنفت الكثير من القتلى مسيحيين دون دليل) مما يجعلها موضع شك كبير، حتى من قِبَل الصحافة الغربية، مثل بي بي سي التي أشارت إلى أن تقارير إنترسوسايتي، التي استشهد بها سياسيون أميركيون بارزون مثل السيناتور تيد كروز والنائب رايلي مور (الذي سماه ترامب لتقصي الحقائق) لا يمكن الوثوق بها.

هذه التقارير تحتوي على لغة خاصة تحريضية دينية واضحة لا تتفق مع لغة التقارير المحايدة، وتتحدث حول خطة إسلامية، مدتها 50 عامًا، للقضاء على المسيحية في نيجيريا، مرددة خطابا دينيا شعبويا من ذلك النوع الذي تردده جماعات المناصرة الإنجيلية المسيحية دون دليل.

الأهم من ذلك أن التقارير الموثوقة الصادرة عن المصادر المستقلة تشير إلى حقائق مغايرة تماما. مثلا، يكشف مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة "أكليد" (ACLED)، الذي يرصد الخسائر الناجمة عن الصراعات، في تقريره الصادر عام 2022 أن "الهوية المسيحية كانت عاملًا في حوالي 5% فقط من حوادث استهداف المدنيين".

وتشير بيانات المنظمة نفسها بين عامي (2020-2025) إلى وقوع ما لا يقل عن 389 حالة عنف استهدفت المسيحيين أوقعت 318 قتيلا على الأقل، مقابل 197 هجومًا على مسلمين، أسفرت عن 418 قتيلا في أدنى التقديرات.

على نطاق زمني أضيق، تشير بيانات "أكليد" أنه من بين 1923 هجومًا على المدنيين في نيجيريا هذا العام (حتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، كان عدد الهجمات التي استهدفت المسيحيين في البلاد بسبب دينهم 50 هجومًا فقط.

وتظل الحقيقة الأهم، التي يقرها معظم المعلقين المحايدين هي أن عدد الضحايا المسلمين جراء العنف في نيجيريا يفوق عدد الضحايا المسيحيين بفارق كبير.

وكما يشير تحليل للبيانات في الإعلام المحلي، فإنه من بين حوالي 350 ألف حالة وفاة ناجمة عن العنف في نيجيريا منذ عام 2009، كان 75 ألفًا منهم فقط من المسيحيين بنسبة 22% تقريبا، وهو ما يتناقض جوهريا مع ادعاء ترامب بوقوع إبادة جماعية للمسيحيين.

وبحسب لاد سيروات، وهو كبير محللي الشؤون الأفريقية في "أكليد"، فرغم أن الجماعات المسلحة مثل بوكو حرام وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا يسوقون حملاتهم العنيفة بوصفها معادية للمسيحية والمسيحيين لكن عملياتهم في الحقيقة تتسم بعشوائية عنفها وتُدمر مجتمعات بأكملها دون تفرقة بين مسلم ومسيحي.

فعنف هذه الجماعات في حقيقته -بحسب سيروات- هو جزء من ديناميكيات الصراع المعقدة في نيجيريا حول النزاعات على الأراضي والانتماء العرقي والطائفي والصراع على السلطة السياسية.

والواقع أيضًا هو أن هذه الجماعات تعرف جيدًا كيف تموضع نفسها داخل خريطة المظالم الاجتماعية فمثلا في المناطق الوسطى بنيجيريا وعلى مدى العقدين الماضيين كان الاشتباك بين مزارعي المحاصيل والرعاة يحدث عبر العصي والأسلحة الخفيفة.

لكنه تحول مع الوقت لصراع فتاك تستخدم فيه بنادق متقدمة وأسلحة عسكرية، وهكذا، ظهرت إلى العلن ملامح التعاون بين الجماعات المسلحة وقطاع الطرق لاستغلال أزمة المزارعين والرعاة.

إعلان

وبسبب استغلال الجماعات المسلحة ذات الطابع "الإسلامي" تلك المظالم الاجتماعية، يتم تصوير العنف في نيجيريا خطئا على أنه ذو طابع طائفي. ولا ينفي ذلك عدم وقوع حوادث طائفية، لكن المؤكد أن الدولة لا تشارك في أي حملة لاستهداف المسيحيين بالإبادة كما يزعم المسؤولون الأميركيون.

بل إن نيجيريا حرصت على إجراء محادثات مع الولايات المتحدة الأميركية بعد هذه التطورات، حيث صرح وزير الخارجية النيجيري يوسف توغار بأنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة ستنفذ ضربتها التي هددت بها لأن نيجيريا تواصل الحوار مع الإدارة الأميركية، والنقاش من وجهة نظره يحرز تقدمًا.

عقيدة الإنجيليين أم المصالح الجيوسياسية؟

وإذا تخطينا مزاعم الإبادة، باعتبارها سردية لا تكاد تصمد أمام الأدلة، فإن فهم تركيز ترامب المفاجئ على نيجيريا يتطلب استكشاف علاقته بالإنجيليين البيض، الذين يروّجون هذه المزاعم، ويعتبرون ركيزة أساسية في قاعدة ترامب السياسية.

خلال انتخابات 2024، أيّد أكثر من 80% من هؤلاء الناخبين الإنجيليين البيض ترامب الذي منح الأولوية باستمرار لدعم القضايا والتوجهات المسيحية خلال ولايته الأولى، عبر سياسات مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس وإعلان ممارسات تنظيم الدولة ضد المسيحيين "إبادة جماعية"، وسياسات حظر السفر التي صممت لمراعاة مخاوف وانحيازات المسيحيين البيض.

تستند هذه السياسات إلى إطار ديني يتبنى بموجبه العديد من الإنجيليين المؤثرين قراءة لاهوتية تعلي من شأن معاناة المسيحيين ضمن سردية كونية للانتصار المسيحي وتحقق النبوءات.

وهي سردية بدأت تظهر في عبارات ترامب نفسه الذي وصف المسيحية بأنها "أكثر الديانات اضطهادًا على وجه الأرض"، خلال خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة . وهنا تحديدا تكتسب نيجيريا دلالة رمزية باعتبارها ساحة معركة في حرب دينية عالمية مزعومة.

تُظهر آلية قرار ترامب بشأن نيجيريا نفسها مدى النفوذ الإنجيلي، خاصة ما أوردته "سي إن إن" حول دور تقرير "فوكس نيوز"، وهي منصة ذائعة الصيت في صفوف الإنجيليين.

ورغم أن تلك الرواية تظهر أن قرار ترامب بشأن نيجيريا شابته مسحة الاندفاع التي تميز العديد من قرارات الرئيس الأميركي، فقد كان الإنجيليون يدندنون حول هذه القضية منذ أشهر على الأقل.

فقد قدّم السيناتور تيد كروز تشريعًا في سبتمبر/أيلول 2025 لتصنيف نيجيريا دولة منتهكة للحريات الدينية، ونسّقت نينا شيا، من مركز الحرية الدينية التابع لمعهد هدسون، ائتلافًا من الجماعات الإنجيلية، وأرسلت رسائل إلى الإدارة الأميركية تحثها على اتخاذ إجراء بشأن القضية.

وفي أعقاب قرار ترامب، شكرت بولا وايت-كين، القسيسة و"المستشارة الروحية المقربة" لترامب وكبيرة مستشاري "مكتب الإيمان" في البيت الأبيض ، ترامب علنًا على "موقفه الحازم تجاه اضطهاد المسيحيين في نيجيريا".

مصدر الصورة السيناتو الأميركي تيد كروز (رويترز)

هذا ليس مجرد اهتمام إنساني محايد، بل هو ضغط سياسي منظم من قاعدة ترامب الإنجيلية، يُوجه عبر منظمات ورجال دين وسياسيين جمهوريين، ويُترجم إلى إجراءات تنفيذية.

فقد وصفت، مؤخرا، المؤرخة والكاتبة أنثيا بتلر، المتخصصة في المسيحية الإنجيلية، نهج إدارة ترامب بأنه يوفر للإنجيليين "مساحةً لشن حرب مقدسة".

ويعني ذلك -وفق بتلر- أن تهديد ترامب لنيجيريا لا ينبع من اهتمام إنساني موضوعي بالمسيحيين، بقدر ما يستغل مزاعم اضطهاد المسيحيين لخدمة رؤية سياسية إنجيلية محددة وإرضاء قواعده الشعبية.

هناك ميزة أخرى لسردية الاضطهاد الديني وهي أنها تحجب المصالح المادية الكامنة وراء تهديدات ترامب لنيجيريا. وأهم هذه المصالح هي الطاقة، في ضوء كون أبوجا هي أكبر منتج للنفط في أفريقيا.

وهي تنتج خاما عالي القيمة لانخفاض محتواه من الكبريت وسهولة تكريره. وهذا ما يجعل نيجيريا جذابة لأسواق الطاقة الأميركية الساعية إلى مصادر متنوعة خارج الشرق الأوسط، وبعيدا عن المنافسة مع القوى العالمية الأخرى.

لطالما تمحورت العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ونيجيريا حول هذا الاهتمام النفطي الذي تسبب في تبادل تجاري ثنائي بقيمة تجاوزت 11 مليار دولار حسب بيانات عام 2023.

وتُعد الولايات المتحدة أحد أكبر الشركاء التجاريين لنيجيريا، كما أنها من بين أكبر المستثمرين الأجانب فيها باستثمارات مباشرة تبلغ 5.6 مليارات دولار.

والأهم أن واشنطن وافقت على صفقة بيع أسلحة لنيجيريا بقيمة 346 مليون دولار في أغسطس/آب 2025، وُصفت بأنها تهدف إلى "تعزيز القدرات الأمنية لنيجيريا ودعم أهداف السياسة الخارجية الأميركية الأوسع في أفريقيا جنوب الصحراء".

تعكس هذه الحقائق أهمية البلد الأفريقي في إستراتيجية أميركا بالقارة السمراء، في ظل رغبة واشنطن في الحفاظ على وجود عسكري لها في غرب أفريقيا، خاصة بعد "انسحابها" من النيجر عام 2023، وسعيها لإيجاد قواعد وشراكات بديلة لعمليات مكافحة الإرهاب والمراقبة الإقليمية.

ولا تزال نيجيريا، على الرغم من عدم استقرارها، منصة محتملة لمثل هذه العمليات. ويمكن أن يؤدي التهديد بالتدخل العسكري، متبوعًا بتهدئة مشروطة، إلى انتزاع حقوق الاستخدام العسكري أو توسيع نطاق اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخباراتية.

يتوافق ذلك أيضا مع القلق الأميركي بشأن الوجود المتزايد للصين في نيجيريا وأفريقيا بشكل عام، فقد استثمرت بكين أكثر من 14 مليار دولار في مشاريع الطاقة والبنية التحتية النيجيرية منذ عام 2018.

ومن وجهة نظر واشنطن، يُمثل هذا تهديدا إستراتيجيا، إذ يُعزز النفوذ الصيني على قاعدة الموارد الحيوية لنيجيريا، والأهم أنه يشجع السلطات في البلاد على تحدي الولايات المتحدة في بعض القضايا.

وقد حدث هذا التحدي في يوليو/تموز الماضي حين رفضت أبوجا بحسم ضغوط ترامب المتزايدة من أجل استقبال الفنزويليين المرحلين من الولايات المتحدة، وكما ظهر في إدانتها للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة أمام الأمم المتحدة، خلافا للسياسة الأميركية.

يتعين فهم التهديد العسكري الذي وجّهه ترامب ضمن هذا السياق الأوسع. فمن خلال التلويح بعمل عسكري ضد نيجيريا ما لم تمتثل الحكومة للمطالب الأميركية، يسعى ترامب إلى إعادة تأكيد الهيمنة الأميركية على عملية صنع القرار في الدولة الأفريقية.

إن نيجيريا الضعيفة وغير المستقرة التي تواجه ضغوطًا عسكرية، وعزلة دولية ستكون أكثر اعتمادًا على المساعدة العسكرية الأميركية وأكثر خضوعا للمطالب الأميركية فيما يتعلق بالوصول إلى النفط، والقواعد العسكرية.

في المقابل، فإن نيجيريا التي تقاوم الضغوط الأميركية وتُعمّق علاقاتها مع الصين وتنحاز اقتصاديا إلى تكتلات مثل " البريكس " تُمثّل خسارة إستراتيجية لا يمكن لأميركا أن تسمح بها.

نتائج غير مقصودة

الخلاصة هي أن التهديد الأميركي لنيجيريا يقدم نموذجا على كيفية توفير غطاء ديني لعملية استعراض فجة للقوة. والمشكلة أن هذا التهديد يشكل سابقة سيكون لها ما بعدها.

فإذا ما أقرت الولايات المتحدة أن ادعاءات الاضطهاد الديني (حتى غير الموثوقة منها) تبرر التهديدات العسكرية ضد دول ذات أهمية إستراتيجية، فقد يتوسع هذا المعيار ليشمل دولا أخرى، ويفتح الباب أمام عودة الحروب ذات الطابع الديني في عالم يعج بالصراعات.

علاوة على ذلك، قد تأتي تهديدات ترامب بنتائج عكسية. فمن خلال التهديد بالتدخل العسكري، تُخاطر إدارة ترامب بتسريع نفس النتائج التي تدّعي معارضتها.

فإما أن يزعزع ذلك استقرار نيجيريا ويفتح المجال لدائرة أوسع من العنف الطائفي الحقيقي بفعل استدعاء قوة أجنبية "دينية" إلى ميزان طائفي هش ونزاع إقليمي قد يُؤدي إلى نزوح المقاتلين للدول المجاورة، وإما أن يُسرّع من توجه نيجيريا، ومن ورائها العديد من القوى الأفريقية، نحو الصين وروسيا .

بالنسبة لنيجيريا، يُمثل هذا التهديد اختبارًا لسيادتها وقدرتها على المقاومة. وقد عرضت حكومة تينوبو تعاونا مشروطا مع الولايات المتحدة مع حد فاصل واضح وهو احترام سيادة أبوجا، في حين سارع الاتحاد الأفريقي للدفاع عن سيادة القارة معلنا رفض استخدام القوى الخارجية للخطابات الدينية سلاحا لتبرير التدخل العسكري.

تشير ردود الأفعال هذه، إلى أنه في حين أن خطاب ترامب قد يرضي قاعدته الإنجيلية ويحقق بعض المصالح الأميركية قصيرة الأجل، فإن تأثيره العملي هو المزيد من العزلة للولايات المتحدة والمزيد من الأفول لنجمها السياسي.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا