في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"إن لم يعد دعم إسرائيل عرفا سياسيا في نيويورك، فإنه لن يصبح إلزاميا في واشنطن عما قريب، وهو خبر سعيد للفلسطينيين".
بتلك الكلمات استهل كينيث روث، المدير التنفيذي السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش، والأستاذ الزائر بجامعة برينستون المرموقة بالولايات المتحدة، مقاله عن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك في مقاله بصحيفة غارديان البريطانية قبل أيام، مشيرا إلى أن نيويورك هي ثاني أكبر مدينة من حيث التعداد اليهودي في العالم بعد مدينة تل أبيب، وأن ممداني نجح رغم ذلك في زعزعة انحيازهم التقليدي لإسرائيل، وظفر بثلث أصواتهم، مما يشي بتغير اتجاهات الرأي العام اليهودي، وتراجع تأثير النخب اليهودية التقليدية التي طالما تبنت الانحيازات الصهيونية .
نحن إذن على مشارف نهاية العصر الذهبي لنخبة يهود أميركا القديمة، لا سيما الداعمين منها للصهيونية، بهذا المعنى يحذِر عديد من المفكرين اليهود الأميركيين من تفشي وانتشار ظواهر مجتمعية وسياسية لا تبشر باستمرار موقعهم السياسي والثقافي النافذ طيلة القرن الـ20، وذلك نتيجة لتحليل تحولات عميقة داخل المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة.
ويتخوف هؤلاء المفكرون مما ينتظر اليهود الأميركيين التقليديين في العقود القادمة، مؤكدين أن ملامح تلك المرحلة بدأت تتضح للجميع ممثلة في 3 عوامل أساسية: أولها ضعف يهودية يهود أميركا، وزيادة عدم الالتزام بالتعاليم والثقافة اليهودية، وثانيها تراجع الدعم لإسرائيل بين يهود أميركا، وتراجع علاقة الشباب اليهودي بإسرائيل، وأخيرا تراجع شعبية إسرائيل بين الأميركيين أنفسهم منذ هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
بدأت الهجرات اليهودية الأولى إلى الولايات المتحدة في منتصف القرن الـ17 على شكل جماعات صغيرة من الذين فروا من الاضطهاد الديني في إسبانيا والبرتغال، وتلتها موجة أكبر في منتصف القرن الـ19، ومن ألمانيا خاصة بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ثم جاءت الموجة الأضخم بين عامي 1880-1924، إذ وصل أكثر من مليوني يهودي من أوروبا الشرقية، خاصة من روسيا وبولندا، وأعقبها تدفق آخر بعد الحرب العالمية الثانية على خلفية صعود الفاشية في أوروبا.
أنشأ اليهود شبكة مجتمعية متماسكة من المعابد والجمعيات والمدارس اليهودية، وركزوا على التعليم، مما أسهم في صعود سريع في مجالات الفنون والعلوم والسياسة والمال طيلة القرن الـ20. وكانت العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بمثابة "حقبة الاندماج الذهبي" لليهود في المجتمع الأميركي، إذ صعدوا إلى الصدارة في ميادين الأعمال والإعلام والسياسة والأوساط الأكاديمية والفنون.
وقد ساهمت شخصيات يهودية أميركية في هذه الفترة في تشكيل طبيعة ووجدان الحياة الأميركية في مجالات مختلفة دون أن توصف باليهودية، بل أشير إليهم على أنهم أميركيون بالدرجة الأولى. ومن أبرز هذه الشخصيات روث غينزبرغ، قاضية المحكمة العليا التي توفيت عام 2020، و هنري كيسنجر ، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية السابق والمعروف الذي توفي عام 2023، والمخرج السينمائي الشهير ستيفن سبيلبرغ، والممثل التلفزيوني الشهير جيري ساينفيلد، وكذلك مارك زوكربيرغ، مؤسس منصة فيسبوك.
وكان معظم يهود الولايات المتحدة في أثناء الحرب الباردة منحازين للصهيونية وللدولة الإسرائيلية من منطلقات مختلفة، فبعضهم رأى فيها تجليا للاتجاه الليبرالي والتقدمي بالنظر لدورها في مواجهة الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية، وانحاز هؤلاء عادة إلى الحزب الديمقراطي، في حين رأى آخرون أنها تعبير عن هوية دينية محافظة، وثيقة الصلة بالمسيحية الأميركية، وانحاز هؤلاء عادة إلى الحزب الجمهوري .
من جهة أخرى، شهدت هذه الفترة تحول إسرائيل من كونها عبئا دبلوماسيا منذ تأسيسها عام 1948، إلى حليف إستراتيجي للولايات المتحدة، خاصة بعد حرب عام 1967، واعتبر مفكرون يهود أن مرحلة ما بعد ذلك الانتصار الإسرائيلي مثلت "العصر الذهبي الحقيقي" لهم، حيث وصلت معاداة السامية إلى أدنى مستوياتها، وكان دعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإسرائيل في ذروته، وبدت الجالية اليهودية الأميركية واثقة في نفسها وفي ثقافتها، ومتصلة بإسرائيل اتصالا وثيقا في الوقت نفسه، ومن ثم عادة ما كان الحديث عن الأصوات اليهودية يعني بالضرورة الالتزام بدعم إسرائيل.
يقدر عدد اليهود في الولايات المتحدة اليوم بنحو 7.5 ملايين شخص، أي ما يقرب من 2.1% من سكان البلاد البالغ عددهم 342 مليون نسمة، وفق البيانات الحكومية الرسمية. ويرى مفكرون -تحركهم نزعة قومية يهودية صهيونية قوية- أن هناك تراجعا كبيرا في يهودية اليهود الأميركيين، وفي درجة التزامهم بممارسة الطقوس اليهودية.
أخطر ما يثير قلق المفكرين اليهود التقليديين هو تفشي ظاهرة الزواج المختلط. فقد أظهرت دراسة لمعهد "بيو" عام 2020 أن أكثر من 70% من الزيجات اليهودية غير الأرثوذكسية تتم مع شركاء من ديانات أخرى، وأن نحو نصف الأطفال فقط في الأسر اليهودية يربون وفق الثقافة الدينية اليهودية.
ومع تراجع الهوية اليهودية، تضعف الروابط العاطفية والأيديولوجية المحتملة مع إسرائيل، مما يهدد مثلث القوة التقليدي الذي جمع على مدى عقود بين مجتمع يهودي واثق في أميركا، ودعم أميركي متعاطف، ودولة إسرائيلية تستفيد من نفوذ اليهود الأميركيين.
من هنا ينسب هؤلاء تراجع يهودية يهود أميركا لعدة عوامل، على رأسها ارتفاع معدلات الزواج المختلط، وما يستتبعه من أن عديدا من الأطفال لا يربون على هوية يهودية قوية أو شعور بالانتماء إلى المجتمع اليهودي، وثانيها تراجع الاهتمام بالتعليم الديني اليهودي داخل العائلات اليهودية، ومن ثم تزايد أعداد اليهود غير الأرثوذكس، الذين يشكلون جزءا كبيرا من اليهود الأميركيين لكنهم الأكثر احتمالا للاندماج أو الابتعاد عن التعاليم الدينية الصارمة.
يضاف إلى ذلك تراجع الالتزام الصهيوني ودعم إسرائيل في صفوف اليهود، بسبب الاهتمام الناشئ بالقضية الفلسطينية، وظهور نزعة نقدية لدى جيل جديد من اليهود تجاه إسرائيل وممارساتها، وتراجع فكرة دعم إسرائيل في صفوف التيار القديم داخل الحزب الديمقراطي، الذي بدأ يتجاوزه جيل جديد من اليسار، وانحصارها في صفوف الجمهوريين التقليديين، الذي بدأ يتجاوزه هو الآخر اليمين الجديد، لا سيما الداعم للرئيس دونالد ترامب .
يخشى قادة يهود أميركا من تلاشي الارتباط بإسرائيل بين الأجيال الشابة اليهودية، وهي ظاهرة قد تكون لها تبعات بالغة الخطورة في السنوات المقبلة. وتشير أحداث كثيرة إلى أن اليهود الأميركيين الشباب أقل تفاعلا مع إسرائيل مقارنة بالأجيال السابقة.
ويخشى كثيرون من أن يضعف هذا الاتجاه الدعم الرسمي لإسرائيل. ويلخص هؤلاء المفكرون مخاوفهم بالقول إن أميركا تشهد حاليا "حقيقة مزدوجة مزعجة"، إذ يتقاطع تآكل الهوية الدينية بين اليهود أنفسهم من جهة، مع تزايد العداء المجتمعي والسياسي لهم من جهة أخرى.
ويشير كثير من المفكرين القوميين اليهود إلى أن نجاح مرشح مثل زهران ممداني، الذي يعرف بخطابه المناهض لسياسات إسرائيل، وفوزه بمنصب عمدة مدينة بحجم نيويورك، مع حصوله على دعم أكثر من ثلث الناخبين اليهود، وأغلبهم من الشباب، إنما يجسد حالة الانقسام داخل المجتمع اليهودي الأميركي المنقسم سياسيا وثقافيا، والممزق بين الفخر بقوة إسرائيل من جهة، والقلق من ممارساتها اللاأخلاقية من جهة أخرى.
تتغير العلاقات الأميركية الإسرائيلية بشكل ملحوظ منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ورغم أن إدارتَي جو بايدن الديمقراطي ودونالد ترامب الجمهوري لم تختلفا كثيرا في دعم إسرائيل أثناء حربها على غزة، وما ترتب على ذلك من دمار هائل في القطاع مع سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، فإن العلاقات بين واشنطن وتل أبيب تتحول ببطء في مسار مقلق لإسرائيل.
لقد تراجعت نسبة التعاطف الشعبي الأميركي مع إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، وفشل اللوبي الصهيوني في وقف صعود شخصيات مثل زهران ممداني، رغم مواقفه المناهضة لسياسات تل أبيب. ولم يعد هذا اللوبي بالقوة نفسها التي تمتع بها في العقود السابقة، وهو ما أشار إليه ترامب حين قال في سبتمبر/أيلول الماضي: "كان لدى إسرائيل أقوى لوبي في الكونغرس، أقوى من أي شيء رأيته في حياتي، أما اليوم، فلم يعد لديها لوبي قوي".
وأوضح ترامب أن تراجع نفوذ اللوبي يعود إلى مشكلات في العلاقات العامة الإسرائيلية وتغير ديناميات السياسة الأميركية، مؤكدا أن نفوذ إسرائيل داخل الكونغرس قد انخفض بشدة. ورغم أن تحذير ترامب جاء في إطار عام، فإن خسارة إسرائيل تتعمق بين أوساط الشباب، ولهذا السبب حذر بعض المعلقين النافذين، ومنهم توماس فريدمان وفريد زكريا، من خسارة إسرائيل جيل الشباب الأميركي الحالي.
وفي ظل موقف إدارتي بايدن وترامب من حرب الإبادة في غزة، ودعمهما غير المشروط لإسرائيل تسليحيا ودبلوماسيا وماليا، برزت أصوات معارضة لهذه السياسات داخل الحزبين، في حين لا يترك أنصار إسرائيل فرصة إلا ويستغلونها لتبرير ما يعتبرونه تطابقا لقيم ومصالح الطرفين.
تاريخيا، لطالما كان الدعم لإسرائيل بين جميع الأميركيين مرتفعا، فبين عامي 2000-2019، أبدى 59% من الأميركيين تعاطفا أكبر مع الإسرائيليين، مقارنة بـ17% للفلسطينيين. وبحلول عام 2024، وقبل وقوع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان التعاطف مع إسرائيل قد انخفض قليلا إلى 56%، بينما ارتفع التعاطف مع الفلسطينيين إلى 26%. وبعد عامين من الحرب، وانتشار صور تدمير قطاع غزة والمعاناة الإنسانية غير المسبوقة، انخفض الدعم لإسرائيل إلى أقل من 40%.
كما توضح استطلاعات الرأي العام أن التغيير في الأجيال قادم بصورة ستعيد تشكيل سياسة واشنطن تجاه إسرائيل، إذ يظهر الشباب من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري تشككا في أخلاقية تقديم دعم أميركي غير مشروط لإسرائيل وجدواه بالأساس من منظور المصالح الأميركية. ومن هنا يرى مفكرون يهود أن اليهود الأميركيين باتوا يواجهون انتقادات غير مسبوقة، سواء من اليمين الجمهوري كما هي الحال مع تاكر كارلسون، أو من اليسار الديمقراطي كما هي الحال مع زهران ممداني.
يضاف إلى ذلك ما يتعرض له اليهود الداعمون لإسرائيل من ضغوط في الجامعات ووسائل الإعلام، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب على قطاع غزة طيلة العامين الماضيين، مثلما يظهر في موجة معاداة السياسات الإسرائيلية في صفوف الديمقراطيين وداخل حراك الجامعات المناصر لغزة، ومثلما يظهر أيضا في الزلزال الجمهوري المعادي لإسرائيل من أقصى اليمين الأميركي.
ينادي كثير من ممثلي تيار اليسار التقدمي في الحزب الديمقراطي بضرورة تحجيم العلاقات مع إسرائيل ووقف تصدير السلاح لها، بل ويطالب بعضهم بضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كما فعل عدد من أهم حلفاء واشنطن مؤخرا، ومنهم بريطانيا وكندا وفرنسا. ويعكس موقف الديمقراطيين حراكا في تآكل دعم إسرائيل بين الأميركيين، لا سيما طلبة الجامعات.
بعد يومين من وقوع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشر عدد من جمعيات الطلاب في جامعة هارفرد بيانا أدانوا فيه العدوان الإسرائيلي، وطالبوا بوقف الهجمات على المدنيين في قطاع غزة، وأرجعوا ما جرى إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ومنذ ذلك الوقت، تحولت الجامعات الأميركية لساحة ساخنة للتنافس بين الطلاب المناصرين للجانب الفلسطيني والمؤيدين لإسرائيل، في الوقت الذي تعرض فيه مبدأ "حرية التعبير عن الرأي" المضمون بموجب التعديل الدستوري الأول لاختبار عسير.
ولم تعد شعارات "حق إسرائيل في الوجود" و"الحرب على الإرهاب" و"معاداة السامية" تسيطر وحدها على المشهد الأميركي، بل تزاحمها الآن شعارات تسلط الضوء على الرواية الفلسطينية مثل "الفصل العنصري" و"الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي"، خاصة بين الشباب الأميركيين، وهم جيل لا يحصل على معلوماته من وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والشبكات الإخبارية الشهيرة على غرار فوكس نيوز أو "سي إن إن"، بل صارت وسائل التواصل الاجتماعي مصدره الأول للأخبار، وعلى رأسها منصة " تيك توك ".
وقد أكد آدم شابيرو، خبير العلاقات الدولية ومسؤول الملف الفلسطيني الإسرائيلي بمنظمة "الديمقراطية للعالم العربي الآن"، في حوار مع الجزيرة نت أنه "على صعيد السياسة الأميركية، ثمة تحول واضح في الرأي العام ضد إسرائيل، رغم التعتيم الإعلامي الواسع للإبادة الجماعية (الذي لا يشمل بالطبع وسائل التواصل الاجتماعي)".
وأضاف شابيرو أن "هذا هو الأكثر وضوحا في الحزب الديمقراطي، فلم يعد المرشحون الديمقراطيون يعملون بالطرق المتعارف عليها، وأصبح عليهم مواجهة اتهامات التيار التقدمي بالحزب في وقت يحاولون فيه تأمين تمويل ودعم منظمة أيباك الموالية لإسرائيل".
وأشار شابيرو إلى "أن الولايات المتحدة لم تشهد انتخابات على المستوى الوطني كانت فيها قضية فلسطين حاسمة حتى عام 2024.. حين أتت نتيجة الانتخابات الرئاسية بين كامالا هاريس ودونالد ترامب، وأظهرت تأثرا بالقضية الفلسطينية، وعلى الأرجح بانخفاض نسبة المشاركة لصالح هاريس، التي رجحت الكفة لصالح ترامب، إذ إن بعض الناخبين العرب والمسلمين ألقوا باللوم على بايدن في دعم أميركا للإبادة الجماعية، وهي المرة الأولى التي تؤثر فيها قضية فلسطين على انتخابات أميركية".
في الوقت ذاته، ثمة تحدٍ مزلزل داخل المعسكر الجمهوري، إذ ينتقد عدد من أهم رموزه ومؤثريه مسلمات العلاقة الخاصة بين تل أبيب وواشنطن، وعلى رأس هؤلاء الإعلامي الشهير تاكر كارلسون، ومستشار ترامب السابق ستيفن بانون، وعدد من أعضاء الكونغرس.
ويطالب هؤلاء، وهم رموز بتيار ماغا (MAGA)، بوضع "أميركا أولا" بدلا من تبني سياسة دعم إسرائيل بلا مقابل أو شروط واضحة، وقد أطلقوا على الوضع الحالي اسم "إسرائيل أولا"، في إشارة نقدية إلى تغليب مصالح إسرائيل على الولايات المتحدة.
وقد أثار كارلسون مؤخرا جدلا حادا بعد إجراء مقابلة مع نيكولاس فوينتيس، الناشط اليميني المتطرف والمعروف بآرائه العنصرية المعادية للسامية، وقد استمرت المقابلة أكثر من ساعتين في بودكاست يقدمه كارلسون، وأثارت تساؤلات سياسية جدية حول مسؤولية الإعلام ونشره الأصوات المتطرفة. وقد أنكر فوينتيس الهولوكوست، ومدح أدولف هتلر ، ولام اليهود على دورهم في مختلف المشاكل المجتمعية.
جاءت ردود أفعال الجمهوريين على المقابلة سريعا ومن جهات متعددة، فقد أدان محافظون بارزون، على رأسهم السيناتور تيد كروز، اللقاء بحجة فشل كارلسون في مواجهة تطرف فوينتيس على نحو حاسم، في حين دافع كيفن روبرتس رئيس مؤسسة هريتدج -وهي أحد أهم مراكز البحث الأميركية المقربة من ترامب- عن مقابلة كارلسون، واصفا إياه بأنه "صديق مقرب" ورفض "ثقافة الإلغاء" وأن تتمدد داخل اليمين الأميركي.
أما كارلسون نفسه فقد دافع عن قراره بصياغة المسألة على أنها حرية تعبير، ففي رأيه، تستحق كل الأفكار أن تطرح في أي حوار حتى لو كانت مسيئة، إذ إن هذه هي الطريق الوحيدة لكشفها ومناقشتها، على حد وصفه.
قبل ذلك، كان كارلسون قد شن طيلة الشهرين الماضيين هجوما ضاريا على إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ، وعلى ما يكرره البعض من أهمية إسرائيل للولايات المتحدة. وانتقد كارلسون الساسة الأميركيين لدعمهم إسرائيل، واصفا العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بأنها "سامة"، وألقى باللوم على قادة الولايات المتحدة لتحملهم "هذا الإذلال المستمر منذ عقود".
واعتبر كارلسون أن القادة الأميركيين يخدمون مصالح إسرائيل على حساب مصالح بلادهم، واصفا إسرائيل بأنها "دولة مارقة خارجة عن القانون وترتكب جرائم حرب هائلة، وتقتل الأبرياء المدنيين، بمن فيهم من أطفال ونساء وشيوخ".
كما اتهم كارلسون إسرائيل بالتدخل في السياسة الأميركية، وأنها تدفع الولايات المتحدة للتورط في حروب مكلفة في الشرق الأوسط، وجادل بأن الانقسام الحقيقي في السياسة الأميركية ليس بين مؤيدي إسرائيل ومعارضيها، لكن بين دعاة الحرب وصانعي السلام، وطالب كارلسون أيضا بتجريم خدمة اليهود الأميركيين في الجيش الإسرائيلي، وتساءل لماذا لا يخدمون جيش بلدهم الأم الولايات المتحدة، وكشف أنه في أيام الحرب بين إسرائيل وإيران، كان ضباط الجيش الإسرائيلي موجودين في البنتاغون ، وأغضب ذلك نظراءهم الأميركيين لتدخلهم وإصدارهم التوجيهات المستمرة بلا توقف.
كما شكك كارلسون في رواية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الإسرائيلية، وتساءل عن سبب ترسيخها رواية رسمية بهذه السرعة، وأكد أن "المعاناة الإسرائيلية" تحظى باهتمام غير متناسب مقارنة بالمعاناة الفلسطينية خاصة فيما يتعلق بقتل وتجويع أطفال صغار أبرياء، ونفى كارلسون وجود أي التزام ديني مسيحي بضرورة دعم إسرائيل، وسخر من ادعاء البعض أن "إرضاء الله ينبع من إرضاء اليهود".
على رأس قائمة المفكرين اليهود القلقين من التغيرات التي تواجه يهود أميركا، يأتي إليوت أبرامز، وهو مفكر يهودي شغل مناصب رفيعة في إدارات جمهورية سابقة، ويعد من رموز حركة المحافظين الجدد، ويعمل حاليا في مجلس العلاقات الخارجية، وقد أصدر أبرامز مؤخرا كتابا بعنوان "إذا شئت ذلك: إعادة بناء هوية الشعب اليهودي في القرن الـ21″، دعا فيه إلى مواجهة ما اعتبرها أزمة هوية تهدد يهود أميركا ومستقبل ارتباطهم بإسرائيل.
ويهدف أبرامز من كتابه إلى تعزيز الهوية اليهودية في ظل بيانات تظهر أن الشباب اليهود الأميركيين ينجرفون بعيدا عن مجتمعهم، وعن إسرائيل على حد سواء.
ويرى أبرامز أن "العصر الذهبي" لقبول اليهود ونفوذهم في الحياة الأميركية قد يتضاءل بعد حرب غزة، مرجعا ذلك إلى ما يعتبرها عودة معاداة السامية، وتعمق الاستقطاب السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وضعف الهوية اليهودية. وقد تساءل أبرامز قائلا: "هل بدأ التآكل في العلاقة الثلاثية التي تربط يهود أميركا بالدولة الأميركية وإسرائيل؟ وما الذي يمكن فعله لاستعادتها؟".
ويرى أبرامز أن معاداة السامية أصبحت ظاهرة مرئية من جديد، مدفوعة بتوترات سياسية وبالزيادة السكانية بين المسلمين الأميركيين، كما يشير إلى صعود الخطاب المعادي لليهود في أوساط اليمين المتطرف واليسار الراديكالي على حد سواء، وفي الجامعات على وجه الخصوص، مما جعل اليهود الأميركيين يشعرون بأن قبولهم في المجتمع لم يعد كاملا كما كان.
ويوضح أبرامز أن النشاط المناهض لإسرائيل داخل النخب الجامعية أسهم في تطبيع خطابات كانت تدان سابقا بوصفها معادية للسامية، ومن ثم تحولت الجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية، التي كانت يوما رمزا للاندماج اليهودي، إلى ساحات عداء للصهيونية، كما انخفض تمثيل الطلبة اليهود في الجامعات المرموقة بشكل لافت، مما يعكس تقلص نفوذهم في النخب الأميركية المستقبلية.
ويختم أبرامز كتابه بالدعوة إلى توجيه نصف التبرعات اليهودية على الأقل نحو قضايا تخص المجتمع اليهودي أو إسرائيل، مؤكدا أن "العصر الذهبي" ربما يكون قد انتهى بفعل التآكل البطيء للهوية اليهودية وتراجع النفوذ السياسي، لكنه يرى أن استعادته ممكنة. ويقدم وصفة تعتمد على إعادة بناء الشعب اليهودي، من خلال تعزيز الهوية والتعليم اليهودي، والمشاركة النشطة بتأسيس كيانات جديدة وتعزيز الدعم المجتمعي الداخلي، ومقاومة محاولات إسكات الأصوات اليهودية الداعمة لإسرائيل داخل الولايات المتحدة.
في مقالات عديدة منشورة على مدار العامين الماضيين، يتعمد داعمو إسرائيل الخلط بين تآكل التدين بين اليهود، وتراجع الدعم لإسرائيل، في إصرار صهيوني عنيد على أن دعم إسرائيل عرف يهودي أساسي، وهو خلط لا أساس له في الواقع، إذ إن تراجع تدين يهود أميركا ظاهرة مرتبطة بتطورهم الثقافي والاجتماعي، في حين أن تراجع دعمهم لإسرائيل مبني على وعيهم بالقضية الفلسطينية، وكيف أصبح من المشين، من وجهة نظرهم كونهم يهودا، أن يستخدموا وقودا لدعم ممارسات غير أخلاقية وإبادة جماعية غير مسبوقة منذ التسعينيات.
وليس أدل على هذا الوعي اليهودي الجديد، وتآكل سطوة النخب اليهودية التقليدية، وتراجع دور الصهيونية في المجتمع اليهودي، مما قالته الممثلة البريطانية واليهودية ميريام مارغوليس، التي انتشر لها مقطع على منصات التواصل الاجتماعي تناصر فيه غزة ختمته بقولها: "أنا قلقة بشأن غزة خاصة لأنني يهودية، ولأنني أعرف كم الشر والقسوة التي تعرض لها اليهود.. ولا يمكنني أن أحتمل أن أري إخوانا لي (من اليهود) وهم يقترفون الجريمة نفسها بحق شعب آخر.. ولذلك فإن قلبي محطم.. والحقيقة البشعة التي أواجهها الآن هي أن هتلر انتصر علينا، وغيرنا، وجعلنا مثله".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة