آخر الأخبار

10 طرق لصيد أخطر الجواسيس والعملاء

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

كُلف رئيس قسم مكافحة التجسس في وكالة المخابرات المركزية جيمس أولسون، في عام 1998 بالالتحاق لمدة عامين بكلية بوش للحكم والخدمة العامة التابعة لجامعة تكساس أي آند إم، ضمن برنامج لإرسال ضباط من ذوي الخبرة من الوكالة إلى جامعات مختلفة لتعزيز تدريس الاستخبارات كتخصص أكاديمي، والمساعدة في تطوير برنامج دراسات عليا في دراسات الاستخبارات. وبعد نحو 20 عاما نشر أولسون كتابه "كيف تمسك جاسوسًا؟.. فن مكافحة التجسس"، الذي وضع فيه خلاصة سنوات خبرته المهنية الطويلة.

إن مكافحة التجسس يُقصد بها التدابير التي تتخذها الجهة المعنية لحماية عناصرها وأسرارها وتقنياتها من الجواسيس. وتبرز أهمية مكافحة التجسس عند النظر في عمليات تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي والاغتيالات الكثيرة التي قام بها الموساد وجيش الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، فضلا عن الضربات النوعية التي طالت قادة عسكريين وأمنيين إيرانيين في منازلهم ومقرات عملهم خلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل بطريقة أظهرت وجود مصادر بشرية وشبكات عملاء على الأرض داخل البلاد، ما جعل تفكيك تلك الشبكات أولوية لأجهزة الاستخبارات الإيرانية.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 لماذا حطّم الحبيب بورقيبة مشروع عبدالعزيز الثعالبي؟
* list 2 of 2 الخوتسبا الصهيونية.. الوقاحة كسلاح ردع! end of list

وبالعودة إلى ما كتبه أولسون، نجد أنه قدم 10 توصيات مهمة في مكافحة التجسس، مع التطرق لأمثلة حقيقية تساعد في فهم إخفاقات ونجاحات أجهزة مكافحة التجسس الأميركية، وتضع الأصابع على جذور الخلل التي تؤدي إلى حدوث اختراقات ناجحة.

الوصية الأولى: كن هجوميا

تنظر أجهزة الاستخبارات للاختراق من طرف الخصوم على أنه أصل لا استثناء أو مجرد احتمال طارئ، لذا ترتكز الوصية الأولى على مفهوم "الهجوم خير من الدفاع"، فأغلب نجاحات مكافحة التجسس تقوم على تجنيد ضباط أجهزة الاستخبارات الأجنبية بهدف الكشف عن الجواسيس الذين يشغلونهم في بلدك، بينما الجهود التي تركز على الدفاع السلبي عبر إجراءات الحماية تمثل جزءًا ضئيلا من المهمة، ومردودها عادة ما يكون محدودا.

إعلان

فالنجاح في تجنيد حالة واحدة من ضباط الخصم يختصر الكثير من الجهود والأموال، وبالأخص في حال النجاح بتجنيد ضابط منخرط بفريق العمل الذي يشرف على ملف البلد المعني، فهو يمثل عندئذ منجما ذهبيا يرسم خريطة شبكات العملاء.

يضرب أولسون مثالا بالصين التي نجحت خلال الفترة بين عامي 2010 و2012 في إعدام أو سجن ما بين 18 إلى 20 من أبرز جواسيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية داخل الصين، ما أثار المخاوف داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي من وجود اختراق صيني يشبه الاختراق الذي أتاح لموسكو تصفية جل عملاء "السي آي إيه" داخل الاتحاد السوفياتي واحدا تلو الآخر، عقب تجنيد ضابطي الاستخبارات الأميركيين إدوارد هوارد وألدريتش أميس، لصالح الاستخبارات السوفياتية. فأميس عمل -قبل اكتشافه لصالح الروس- منذ عام 1985 إلى 1994، وساهم بمفرده في توقيف نحو 30 روسيًا عملوا سرًا لصالح "السي آي إيه"، ما قضى آنذاك على عمليات الاستخبارات الأميركية البشرية والتقنية في روسيا.

أما ضابط الاستخبارات الأميركي هارولد نيكلسون الذي عمل في مديرية العمليات التابعة "للسي آي إيه" لمدة 16 عامًا، وترأس محطتها في بوخارست، فقد تجند لصالح الروس منذ عام 1994 إلى 1996، واستفاد من عمله في مقر تدريب ضباط الوكالة الشهير باسم "المزرعة"، لإمداد الاستخبارات الروسية بأسماء وهويات ضباط "السي آي إيه" الجدد قبل وصولهم إلى مواقعهم الخارجية الأولى، ما أدى إلى كشفهم وحرق أعمالهم أمنيا.

مصدر الصورة البيئة النفسية لمهنة مكافحة التجسس قاسية، فالضباط يعملون مع الشكوك اليومية تحت حالة ضغط مستمرة، وفي قلق دائم من وجود اختراقات في الأوساط المفترض أنها الأكثر أمانًا (رويترز)

وبحسب أولسون نفسه، فقد تلقى الضربة الشخصية الأقسى مهنيا في عام 1987 عندما انشق ضابط الاستخبارات الكوبي، فلورنتينو لومبارد، رئيس مكتب الاستخبارات الكوبية في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا آنذاك، حيث كشف لومبارد أن جميع الكوبيين البالغ عددهم 38 شخصا الذين ظنت "السي آي إيه" أنها جندتهم خلال الربع قرن السابق كانوا عملاء مزدوجين، وأن الرواتب والمكافآت وأجهزة التنصت التي مُنحت لهم انتهى بها المطاف في خزائن الاستخبارات الكوبية.

كما كشف لومبارد أن ضابط "السي آي إيه" السابق فيليب آجي تعاون مع الاستخبارات الكوبية وتقاضى منها راتبا بلغ مليون دولار، قبل أن يكشف في كتاب نشره بعنوان "داخل الشركة: مذكرات وكالة المخابرات المركزية" أنشطة وكالة "السي آي إيه" في أميركا اللاتينية، فضلا عن كشفه أسماء 1250 ضابطًا سريًا وعميلًا أجنبيًا للوكالة مما عرضهم للخطر، بمن فيهم رئيس محطتها في اليونان، ريتشارد ويلش، الذي قُتل في شوارع أثينا في ديسمبر/كانون الأول 1975، بعد وقت قصير من كشف آجي له.

الوصية الثانية: احترم محترفيك

تضع هذه الوصية إطارًا للمكانة المفترض أن يشغلها ضباط مكافحة التجسس داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي، فهم عادة ليسوا أصحاب الشعبية الأكبر، ولا يحظون بالمكافآت التي يحصل عليها العاملون في المهام العملياتية أو الخارجية أو الفنية، وهم الأقل حصولًا على الترقيات.

إعلان

يربط أولسون هذا الوضع بإرث خلّفه جيمس أنجلتون الذي قاد قسم مكافحة التجسس في "السي آي إيه" بين عامي 1954 و1975، حيث سيطر عليه شعور بوجود جواسيس روس داخل الوكالة في ستينيات القرن العشرين، ما أشاع أجواء من الشك المتبادل بين الضباط وعرقل عمليات الوكالة. وقد قال إنجلتون "إن مكافحة التجسس صحراء من المرايا تُنتج مشهدًا متغيرًا باستمرار حيث تتداخل الحقيقة والوهم".

تأثر إنجلتون بتحذيرات ضابط المخابرات السوفياتية أناتولي جوليتسين الذي انشق إلى الولايات المتحدة عام 1961، فبعدما قدّم معلومات حول اختراقات المخابرات السوفياتية للغرب، حذر من أن موسكو سترسل منشقين آخرين لتشويه سمعته، لذا عندما انشق ضابط المخابرات السوفياتية يوري نوسينكو في عام 1964 اعتبره أنجلتون منشقًا مزيفًا، ومن ثم تعرض لاستجواب قاسٍ وحُبس انفراديا قبل أن تفرج عنه الاستخبارات الأميركية وتعوّضه ماليا عما تعرّض له من إذلال.

إن البيئة النفسية لمهنة مكافحة التجسس قاسية، فالضباط يعملون مع الشكوك اليومية تحت حالة ضغط مستمرة، وفي قلق دائم من وجود اختراقات في الأوساط المفترض أنها الأكثر أمانًا، ما يولّد إرهاقًا ذهنيا وثقلًا نفسيًا يؤثر على صحتهم العقلية ومسارهم الوظيفي.

ويشير أولسون إلى أن عددًا كبيرًا من أفضل العاملين في "السي آي إيه" يحبذون الابتعاد عن هذا التخصص. وبالتالي فإن تجاهل هذه الفئة يمنح الخصوم ميزة حقيقية، لأن مكافحة التجسس تعتمد في جوهرها على الحسّ الذي يطوّره هؤلاء العاملون عبر سنوات من مراقبة الأنماط وتفسير السلوكيات التي لا تظهر على السطح، ما يتطلب إعطاءهم المكانة التي يستحقونها.

الوصية الثالثة: امتلك الشارع

لا يمكن لأي جهاز أن يحمي أسراره إذا فقد القدرة على الحركة في الشارع أو الميدان الذي يمثل المساحة التي تُختبر فيها المهارات الميدانية، وتتداخل عمليات المراقبة، وتُبنى العلاقات السرية، وتُلتقط الإشارات الأولى لأي محاولة تجنيد أو تواصل مع خصم خارجي.

إن امتلاك الشارع مهارة تحتاج إلى تدريب وموارد وفرق قادرة على الاندماج داخل البيئة المدنية دون أن تترك أثرًا يسهُل التقاطه. ويضرب أولسون مثالًا بقضية ضابط الاستخبارات الأميركي إدوارد هوارد، الذي استطاع الإفلات من مكتب التحقيقات الفيدرالي أثناء مراقبته له، والهرب إلى روسيا، وذلك بعدما كشف عمالته ضابط المخابرات السوفياتية فيتالي يورتشينكو المنشق في عام 1985، فهوارد سيطر على الشارع بشكل أفضل من الفريق المكلف بمتابعته.

الملفت أن أولسون يشير إلى أن مراقبة مشتبه به واحد على مدار الساعة، تتطلب ما يصل إلى 30 شخصًا مقسمين على 3 نوبات، مع مراعاة أن تتمتع فرق المراقبة بالتنوع بين الجنسين، والإثنيات، والعمر، والمستوى الاجتماعي، للاندماج بشكل غير ملحوظ في بيئة المراقبة.

الوصية الرابعة: اعرف تاريخك

يستدعي أولسون مثالا تاريخيا يرمز إلى جوهر الفكرة التي يريد ترسيخها، وهو فتح أحد الجنرالات بوابة من بوابات سور الصين العظيم ، ما مكن مقاتلي المانشو من دخول بكين، ما أثبت أنه يمكن لمنظومة حصينة ظاهريًا أن تسقط من الداخل، في مشهد يتكرر في عالم مكافحة التجسس؛ الذي تُكتسب خبرته بالتعلم أكثر من كونها موهبة فطرية. فأخطر ما يواجه ضباط مكافحة التجسس هو الجهل بتجارب أسلافهم، وعدم الاطلاع على الأدبيات المكتوبة في مجال عملهم.

يروي أولسون أنه حضر عدة مرات في مقر "السي آي أي" دورات قدّمها ديفيد ميجور، أحد أبرز خبراء مكافحة التجسس بمكتب التحقيقات الفيدرالي. وكان ميجور يفتتح كل دورة باختبار بسيط يقيس معرفة المتدربين بتاريخ الاستخبارات الأميركية، وكانت النتيجة واحدة في كل مرة: الرسوب شبه الكامل، حتى بين الضباط العاملين في المجال.

إن التاريخ يمثل مختبرا للكشف عن السلوك البشري في عالم التجسس، فالخيانة تبدأ من نقاط ضعف محددة، وأجهزة الاستخبارات عادة ما تكون لها أنماط ثابتة في عملها. لذا فالذاكرة المؤسسية داخل مجتمع الاستخبارات ضرورية، لأن المؤسسة التي تنسى تاريخها تقع في نفس الأخطاء التي سبق أن دمّرت عملياتها. وفي المجمل تساعد دراسة أدبيات مكافحة التجسس الضباط على التعلم من الأخطاء ومحاكاة النجاحات.

الوصية الخامسة: لا تتجاهل التحليل

تقدّم هذه الوصية ركناً مركزياً في مكافحة التجسس، فجمع المعلومات ليس هدفاً بحد ذاته؛ إنما تكمن القيمة الحقيقية في قراءة وتحليل هذه المعلومات بطريقة منهجية تساعد في اتخاذ قرارات مدروسة، فالتحليل يُعد جوهر العمل الأمني، وعنصرا لا يمكن تعويضه بأي مستوى من النشاط التشغيلي أو التقني.

إعلان

يسعى ضباط العمليات عادة إلى الحركة والمبادرة، ويميلون إلى الإيقاع السريع، ولا يجدون أنفسهم في العمل الذي يتطلب صبراً وتفكيكاً هادئاً للسلوك والوثائق والاتصالات. وفي المقابل، يُفترض بالمحللين امتلاك القدرة على التركيز، والشغف بالبحث، والقابلية للغوص في التفاصيل الصغيرة داخل تقارير العملاء والخرائط والاتصالات والقوائم والسجلات، ما يؤدي إلى تجميع لخيوط تبدو مبعثرة. لذا فالنقص في حجم الكادر التحليلي أو ضعف قدراته غالبا ما يهدر الجهد المبذول في جمع المعلومات.

إن غياب التحليل أدى في لحظات جوهرية إلى خسائر كبيرة. ففي هجوم بيرل هاربر، كانت المؤشرات على الهجوم موجودة ضمن كم هائل من تقارير التنصت والمعلومات التي جُمعت، لكنها لم تُحلّل بالسرعة والجودة الكافية. والمشهد نفسه تكرر في أحداث 11 سبتمبر /أيلول 2001، إذ كانت تحركات بعض المنفذين، خصوصاً تدربهم على الطيران داخل الولايات المتحدة، كافية لرفع مستوى التحذير لو تم ربطها بالمعطيات الأخرى في الوقت المناسب.

الوصية السادسة: لا تكن ضيق الأفق

تسعى هذه الوصية إلى تصحيح نمط فكري يتكرر في أجهزة الاستخبارات، وهو الميل إلى التركيز على مسار واحد من التهديد، وإهمال المسارات الأخرى التي تتحرك في الظل. ويلفت أولسون النظر إلى هذه النقطة بوصفها أحد أكثر الأسباب التي أدت إلى إخفاقات مؤسسية كبيرة، إذ تميل بعض الأجهزة إلى الانشغال بخصم محدد، أو جغرافيا معينة، أو طريقة واحدة لجمع المعلومات، بينما تتشكل التهديدات الحقيقية في أماكن لا تلتفت إليها المؤسسة بسبب ضيق الأفق الذي يقود تفكيرها. ففي مجتمع الاستخبارات الأميركي، نظرت بعض الأجهزة إلى أن الخطر الأكبر يأتي من روسيا والصين، ما مكن تنظيم القاعدة من تنفيذ هجمات 11 سبتمبر في ظل محدودية الاهتمام به قبل ذلك.

والخلل هنا لا يتعلق فقط بطريقة تقييم الخصوم، بل يتصل أيضًا بالتنظيم الداخلي. فالجهاز الذي يقسّم عمله ضمن هياكل جامدة ينظر كل منها إلى العالم من نافذة واحدة، يفقد القدرة على ربط الأحداث وتفسير الأنماط المشتركة. فالنشاط الاستخباراتي الناجح يتحرك في اتجاهات متعددة، ويجمع بين التقنية والعلاقات الإنسانية والواجهات الاقتصادية والحضور الثقافي.

مصدر الصورة يعتقد أولسن أن ضيق الأفق والتركيز على التهديدات الكبرى يسمح باختراقات ضخمة مثلما حدث في سبتمبر/أيلول 2001 (رويترز)

كذلك، قد يظهر ضيق الأفق داخل المستوى المهني، حين يتصور بعض الضباط أن خبرتهم في مجال معين تمنحهم القدرة على قراءة المشهد كله. هذا النوع من الثقة المفرطة يؤدي إلى تجاهل آراء الأقسام الأخرى داخل الجهاز الاستخباري، وإلى إضعاف قيمة المعلومات التي تأتي من مجالات لا تمت بصلة مباشرة إلى الاختصاص الضيق الذي يعمل فيه الضابط. ومع الوقت، يتحول ذلك إلى نمط مؤسسي يعمل ضد الجهاز، لأنه يمنع الاستفادة من وجهات النظر المتعددة.

ولهذا تبرز أهمية امتلاك عقلية تتعامل مع الخطر من زوايا متداخلة، وتمنح التحليل، والميدان، والتاريخ، والاستخبارات البشرية، والبيانات التقنية، الوزن نفسه. فالضابط الذي يعمل بعقلية واسعة يستطيع أن يرى الفرص التي يغفلها الآخرون، وأن يلتقط الإشارات التي لا تبرز في المجال التقليدي للرصد، ما يساهم في قراءة التحولات، وتوقع الاتجاهات، والاستفادة من كل مورد معرفي متاح، من أجل بناء صورة كاملة للتهديد قبل أن يتحول إلى واقع.

الوصية السابعة: درّب أفرادك

تركز هذه الوصية على عنصر أساسي لا يمكن لأي جهاز استخباراتي أن يعمل من دونه، وهو التدريب. يشير أولسون إلى أن تدريب الضباط داخل مجتمع الاستخبارات الأميركية ظل لسنوات طويلة يعاني قصورًا واضحًا، إذ غالبًا ما يدخل الضباط الميدان قبل أن يكتسبوا المهارات التي يحتاجونها لمواجهة خصوم محترفين يعملون بخبرة عميقة وبأساليب متجددة لا يمكن فهمها من خلال المحاضرات وحدها.

إن الاعتماد على القوالب النظرية فقط يبقي الجوانب العملية غائبة أو ضعيفة، فإدارة المصادر، أو رصد السلوكيات المريبة، أو تفسير الأنماط غير المعتادة، جميعها تحتاج إلى تدريب متواصل، وليس إلى دورة قصيرة تُقدّم ثم تُطوى. والتدريب المقصود هنا هو تدريب عملي في الشارع، وفي بيئات اجتماعية متعددة، ومع سيناريوهات واقعية. فالضابط الذي لم يختبر التعرّض للمراقبة المضادة، أو الخداع، أو الضغط النفسي، سيكون أقل قدرة على الصمود عندما يدخل هذه البيئات لأول مرة في الميدان.

إعلان

ولهذا يؤكد أولسون أن التدريب يجب أن يكون نهجا مستمرا، وأن يُصمم بطريقة تُخضع الضباط لمواقف حقيقية لا يمكن توقعها. فالجهاز الذي يستثمر في التدريب يبني قوة قادرة على قراءة الخطر من خلال إعادة بناء الصورة من أجزاء صغيرة متناثرة، والتقاط الإشارات التي يظن الخصوم أنها غير مرئية.

الوصية الثامنة: لا تُدفع جانبًا

تسلّط هذه الوصية الضوء على معضلة مؤسسية تتعلق بالموقع الذي تشغله مكافحة التجسس داخل هيكل السلطة والاستخبارات. ففرق مكافحة التجسس عادة ما تُستبعد من الاجتماعات التي تُناقش أكثر الملفات حساسية، وينظر لها على أنها "تعطّل الخطط"، لأنها تُثير الأسئلة الصعبة، وتحذر من المخاطر غير المرئية، وتدعو إلى مراجعة ما يبدو أنه يسير على نحو جيد. ويعترف أولسون بأن هذا الدور يثير حساسية لدى بعض الأقسام الأخرى.

إن المعلومات التي تُحجب عن ضباط مكافحة التجسس تمنعهم من رؤية الصورة الكاملة. وهذا الواقع، يخلق سلسلة من الإخفاقات الصغيرة التي تتراكم عبر الزمن وتوفر للخصوم المساحة التي يحتاجونها لبناء الشبكات أو تمرير الرسائل أو تجنيد المصادر داخل مؤسسات الدولة. ولهذا يدعو أولسون إلى جعل مكافحة التجسس جزءًا ثابتًا من البنية الأساسية لأي قرار يتعلق بالأمن القومي.

الوصية التاسعة: لا تبقَ طويلا

تتناول هذه الوصية جانبًا نفسيًا ومؤسسيًا يتمثل في أثر البقاء المطول في الموقع نفسه على قدرة الضابط على اكتشاف الخطر. فالضابط الذي يستقر سنوات طويلة في مهمة أو موقع حساس يتعرض لتغيرات تدريجية في طريقة قراءته للبيئة، إذ تتراجع حساسيته تجاه التفاصيل الصغيرة، ويتحول ما كان يثير انتباهه في بدايات عمله إلى جزء من المشهد المعتاد الذي لم يعد يستدعي التفكير أو الشك.

وهذه المشكلة تتعلق بالطبيعة النفسية للعمل نفسه. فالضابط الذي يتعامل مع شبكة معينة، أو أقسام محددة، أو ملفات متكررة لوقت طويل، يجد نفسه مندمجًا مع العلاقات اليومية التي تفرضها الوظيفة. ومع الوقت تتكون لديه ثقة غير مباشرة بمن يتعامل معهم، حتى لو لم يكن يقصد ذلك. ومن ثم يصبح الضابط أكثر قابلية للتنبؤ، ورصده أسهل، لأن تحركاته تصبح ثابتة: الأماكن التي يرتادها، الأشخاص الذين يقابلهم، أسلوبه في التواصل، وحتى سماته السلوكية التي تظهر تحت الضغط. وكلما امتد وجوده في الموقع نفسه، أصبح الخصم أكثر قدرة على بناء صورة دقيقة عنه، وهو ما ينعكس على نجاح محاولات الاستدراج أو الاستهداف.

ويؤكد أولسون أن التدوير الوظيفي يمثل ركيزة من ركائز مكافحة التجسس. فالمؤسسة التي تلتزم بتغيير مواقع الضباط تمنحهم رؤية جديدة، وتمنع تكلّس الروتين، وتُعيد تنشيط القدرة على الشك حين يدخل الضابط بيئة لا يعرفها جيدًا. كما أن التدوير يخلق شبكة داخلية من الضباط الذين يعرفون أكثر من منطقة داخل الجهاز، وهو ما يجعل محاولات الاختراق أصعب، لأن الخصم لا يستطيع الاعتماد على نمط ثابت.

إن بعض حالات التجسس الكبرى التي واجهتها الولايات المتحدة نشأت في مواقع لم يُجرَ فيها تدوير الضباط لسنوات، مما سمح للضابط المخترق بأن يطوّر علاقات واسعة داخل المؤسسة، أو أن يخفي مصادر دخله، أو أن ينشئ قنوات جانبية لم تُكتشف إلا بعدما أحدثت ضررًا كبيرًا.

الوصية العاشرة: لا تستسلم أبدًا

تمثل هذه الوصية خلاصة التجربة التي يعرضها أولسون. فمكافحة التجسس ليست طريقًا مستقيمًا يمكن الحكم على نتائجه في أيام أو أسابيع، وغالبًا ما تستغرق العمليات وقتا طويلا يكفي لخلق شعور بالجمود أو الإحباط، لأن الخصوم يتحركون ببطء، ويغيرون أساليبهم، ويقطعون الاتصال فجأة، ثم يعودون بطرق لا يمكن توقعها. ولهذا فالضابط الذي يفقد صبره، أو يعتقد أن الانقطاع علامة على الفشل، يمنح الخصم المساحة التي يحتاجها لإعادة بناء خططه.

إن قضايا مكافحة التجسس تشمل في كثير من الأحيان فترات طويلة من الصمت، أو معلومات غير مكتملة، أو نشاط غير واضح لا يدل بشكل مباشر على اختراق أو تجسس. وتبدو بعض العمليات كأنها تتحرك في دائرة مفرغة بلا نهاية واضحة. لكن تاريخ المجال يُعلّم أن الجهود التي بدت عقيمة في لحظتها الآنية مثّلت الأساس لخيوط لاحقة غيّرت مسار القضية محل الفحص.

وإن بعض أهم حالات كشف الجواسيس في الولايات المتحدة حدثت من تراكم إشارات صغيرة ظهرت على مدى سنوات، وتطلبت إصرارًا على مراجعة الوثائق القديمة، ومقارنة السجلات، وإعادة قراءة المراسلات، وتفكيك شبكات العلاقات، وهي جهود لم تكن لتنجح لو توقفت في مرحلة مبكرة. فقضية كبيرة محللي شؤون كوبا بوكالة استخبارات الدفاع الأميركية، آنا مونتيس، التي ألقي القبض عليها عام 2001 بتهمة التجسس لصالح كوبا لمدة 16 عامًا على الأقل، بدأت مع توافر معلومات عن جاسوس داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي يستخدم جهاز حاسوب محمول من نوع "توشيبا" للتواصل مع المخابرات الكوبية.

مصدر الصورة الجاسوسة آنا مونتيس (يمين) أثناء تسليمها شهادة فخرية من جورج تينيت، رئيس الاستخبارات الأميركية عام 1997 (وكالات)

إن الخصوم يعرفون أن أجهزة الاستخبارات قد تتباطأ بعد أشهر من المراقبة دون نتائج واضحة، وأن بعض الفرق قد تُنقل إلى مهام أخرى، أو أن الأولويات قد تتغير، ومن ثم يعيدون تنشيط خلاياهم في اللحظات التي يتراجع فيها الضغط، لذلك يصبح الصبر والإصرار جزءًا من نمط مواجهة خصم يحاول إزالة أثره في كل خطوة. فالاستمرار، وتكرار المحاولة، وإعادة بناء الفرضيات، والاستفادة من الإشارات الصغيرة، تساهم في إكمال العملية حتى نهايتها.

سلسلة مترابطة

تكشف الوصايا العشر التي عرضها جيمس أولسون أن مكافحة التجسس منظومة كاملة تتداخل فيها العوامل البشرية والتنظيمية والتاريخية. فكل وصية جاءت نتيجة أخطاء متكررة كان يمكن تجنبها لو أعادت الأجهزة الاستخبارية النظر في ثقافتها الداخلية وأسلوب تفكيرها ونمط عملها، فالأخطاء في تنظيم العمل تتحول بمرور الوقت إلى فجوات وثغرات، والافتراضات الخاطئة تعمي عن رؤية الواقع، والتعجل ونفاذ الصبر يسمحان بإفلات الخصم.

وتتضح الصورة النهائية عند النظر إلى الوصايا العشر بوصفها سلسلة مترابطة. فالعقلية الهجومية تحتاج تدريبًا، والتدريب يحتاج محللين جيدين، والتحليل يحتاج معرفة بالتاريخ والإخفاقات والنجاحات، وفهم التاريخ يتطلب عقلا منفتحا، والعقل المنفتح يحتاج بيئة مرنة لا تُقصي أصوات التحذير، والبيئة المرنة تتطلب تدوير الضباط قبل أن يصبحوا جزءًا من الروتين، وكل ذلك يتطلب إصرارًا طويل النفس لا ينكسر في مواجهة العقبات والتحديات.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا