يُطلّ بهاء الدين قراقوش (ت 597هـ/1201م) من بين صفحات التاريخ الإسلامي بوصفه شخصية مثيرة للجدل، إذ تباينت حوله الروايات وتناقضت الأوصاف، فبينما صوّرته الذاكرة الشعبية في مصر رمزا للجور والبطش، بل كشفه المؤرخ الأسعد بن مماتي في كتابه "الفاشوش في حكم قراقوش" بوصفه رجل دولة مهرجا ساذجا تارة، وطاغية جبارا تارة أخرى، تكشف المصادر التاريخية الموثوقة عن مسيرة مختلفة تماما، مليئة بالكفاءة العسكرية والمهارة الهندسية.
فمَن هو قراقوش؟ وما علاقته بصلاح الدين الأيوبي؟ وما مسيرته العسكرية والهندسية بوصفه رجل دولة في عصر الأيوبيين وفي مواجهة التهديدات الصليبية وقتها؟
تشير العديد من المصادر إلى أنّ أصول قراقوش من قرية في الأناضول، ولما كبر وشبّ قصد دمشق ليستقر فيها، أما اسمه كاملا فقد ورد بصيغة: أبو سعيد قراقوش بن عبد الله، فيما كانت كنيته الشهيرة "بهاء الدين"، واسم قراقوش تركي يعني "الطائر الأسود" أو "العُقاب" أو "النسر الأسود"، وكلها تؤدي معاني القوة والهيبة والمكانة الرفيعة.
يذكر المؤرخ ورجل الدولة المصري أحمد بن عبد الوهاب النويري (ت. 733هـ/1333م) أنّ قراقوش توفي سنة 597هـ/1201م عن عمر ناهز ثمانية وثمانين عاما، وهو ما يعني أنّ مولده كان على الأرجح سنة 507هـ/1113م.
ورغم أن المصادر التي أرَّخت له مثل ابن خلكان وسبط ابن الجوزي وابن شداد والمقريزي وغيرها لا تحدد بدقة تاريخ وصوله إلى دمشق، فإنّ الوقائع السياسية تسمح بالترجيح أنّه جاء إليها بعد سنة 549هـ/1154م، وهي السنة التي استولى فيها نور الدين محمود زنكي (ت. 569هـ/1174م) على دمشق مُنهيا حكم البوريين أو آل طغتكين من قبله (494-549هـ/1104-1154م)، وفي تلك الأثناء يظهر قراقوش وقد التحق بخدمة القائد الشهير أسد الدين شيركوه بن شاذي (ت. 564هـ/1169م)، عمّ السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي سيقود مسيرة ضم مصر والسيطرة عليها بعد قليل.
وفي دمشق سرعان ما لفت قراقوش الأنظار بمهاراته، فدخل في خدمة شيركوه مملوكا له، حيث ترقّى بجدارة في صفوف "الأسدية"، وهم المماليك والفرقة العسكرية المنسوبة إلى سيّدها أسد الدين شيركوه، حتى صار قراقوش بعد مدة قائدا لها، ومن اللافت أن هذه الفرقة كانت ركيزة لانتصارات شيركوه، ورافقت سيدها في حملاته المتكررة على مصر.
وعند الحملة الثالثة والأخيرة التي جرت في أواخر سنة 564هـ/1168م، شارك قراقوش ضمن هذه الفرقة العسكرية إلى جانب سيّده وقائده شيركوه، حيث لعب دورا بارزا في الأحداث التي مهدت لاحقا لصعود الدولة الأيوبية وسيطرتها على مصر ثم بلاد الشام.
بعد وفاة سيّده شيركوه سنة 564هـ/1169م، ظهر قراقوش لاعبا أساسيا في مسرح الأحداث بمصر، فقد أسهم مع الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري (ت. 586هـ/1190م) في تمهيد الطريق لصلاح الدين كي يتولى القيادة العامة للجيش، ثم منصب الوزارة في عهد الخليفة الفاطمي الأخير العاضد لدين الله (555-567هـ/1160-1171م). وقد ساندهم في هذا المسعى شهاب الدين محمود الحريمي، خال صلاح الدين، ليكتمل بذلك الدعم العائلي والسياسي والعسكري الذي أوصل صلاح الدين إلى موقع الحسم.
تناول الباحثون هذه المرحلة بتقديرات مختلفة؛ فالمؤرخ التركي رمضان شَشَن وصف دور قراقوش في إيصال صلاح الدين إلى منصب الوزارة والهيمنة في مصر بقائد "المناورات السياسية الناجحة"، بينما رأى بعض مؤرخي الحملات الصليبية أنه كان شخصية فاعلة في صعود صلاح الدين، غير أنهم صوّروه خصيا قوقازيا وقورا ميالا إلى الشدة، بينما تكشف المصادر التاريخية الإسلامية على اعتباره أحد أمراء فرقة "الصلاحية" التي أسسها صلاح الدين، وهو ما جسّد انتقاله من صفوف فرقة سيّده السابق شيركوه إلى قلب الجيش الأيوبي الناشئ.
ومع تولي صلاح الدين الوزارة في مصر سنة 564هـ/1169م، اتجه إلى القضاء على خصومه في القصر الفاطمي، وكان أبرزهم المؤتمن أحد رجالات الدولة النافذين، الذي حاول التواصل مع الصليبيين طلبا لمساندتهم، وما إن علم صلاح الدين بخروجه في نزهة حتى انتهز الفرصة وأمر بالقبض عليه وإعدامه لخيانته، ولضمان ولاء القصر أقال كبار موظفيه الموالين للمؤتمن، ثم أسند مسؤولية إدارته إلى رفيقه المخلص بهاء الدين قراقوش.
على أن السيطرة الكاملة على القصر الفاطمي لم تمنع اندلاع تمرّد قاده الجنود السودان الموالون للمؤتمن، الأمر الذي اضطر صلاح الدين إلى مواجهتهم عسكريا، وبعد القضاء على ذلك التمرد، أشارت بعض المصادر إلى أن قراقوش تولى منصب أستاذ الدار خلفا للمؤتمن، وهكذا نراه يصعد في سلم الوظائف درجة بعد أخرى، فضلا عن قُربه من صلاح الدين.
وبحلول سنة 567هـ/1171م كانت مصر تدخل طورا جديدا، فمع اتساع نفوذ صلاح الدين وتوطيد سلطته، أخذ نفوذ الخليفة العاضد يتلاشى حتى انهار تماما، عندئذ أحكم صلاح الدين قبضته على القصر الفاطمي، وجعل من بهاء الدين قراقوش الرجل الأول فيه والمسؤول المطلق عن شؤونه.
يذكر ابن واصل في "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب" أنّ من أوائل المهام التي أُوكلت إلى بهاء الدين قراقوش بعد وفاة الخليفة العاضد لدين الله الفاطمي (ت. 567هـ/1171م) كانت تسليم خزائن القصر الفاطمي إلى صلاح الدين الأيوبي، ومنذ تلك اللحظة أخذ اسمه يقترن بالمشروعات العمرانية والهندسية الكبرى التي شهدتها مصر في العصر الأيوبي.
ففي سنة 573هـ/1177م أمر صلاح الدين بإجراء مسح شامل للأراضي في القاهرة وضواحيها لتوزيع الإقطاعات على قادة الجيش والجنود، وأسند هذه المهمة الدقيقة إلى قراقوش، وقد حظي هذا العمل باهتمام خاص بعدما تنازل قراقوش عن نصيبه من الإقطاع لصالح الفقراء والمحتاجين، وهو ما عكس جانبا اجتماعيا في شخصيته التي لطالما أُغفلت في السرد الشعبي.
ومن المهام الأخرى التي نجح قراقوش في إنجازها سريعا وبأمر من صلاح الدين أنه قام بتفكيك أجزاء من الأهرامات الصغيرة في الجيزة، واستخدم حجارتها في تشييد الأسوار والمنشآت العسكرية في القاهرة، في فترة اتسمت بتصاعد الخطر الصليبي من جهة القدس، وتنامي التهديدين البيزنطي والصقلي من جهة أخرى، حيث استُخدمت هذه الأحجار في بناء سور القاهرة الأيوبية، وسور الجيزة الكبير وتحصين السدود، كما استُغلّت في إقامة جسور وقناطر سهَّلت الملاحة في نهر النيل.
وكان من أبرز إنجازات قراقوش المعمارية إقامة الأسوار الممتدة على خط القاهرة–الفسطاط لمواجهة أي هجوم صليبي محتمل، فقد بادر صلاح الدين سنة 570هـ/1174م إلى تنفيذ مشروع دفاعي ضخم يحيط بالقاهرة ويستوعب الفسطاط داخل نطاقه، وأسند الإشراف إلى قراقوش.
وقد امتدت الأسوار حتى الموضع الذي كانت جيوش عمرو بن العاص رضي الله عنه قد استقرت فيه عقب فتحها مصر، وكانت من أعظم المهام التي قام بها قراقوش تشييده قلعة الجبل التي ستُعرف لاحقا بقلعة صلاح الدين، فوق هضبة المقطم سنة 572هـ/1176م، وقد أصبحت هذه القلعة المقرّ المركزي للحكم في مصر الأيوبية والمملوكية وحتى العصر الحديث.
وكان من أهم ما قام به قراقوش في قلعة صلاح الدين حفر بئر يوسف، التي وفرت المياه للقلعة عبر قناة تحت الأرض حُفرت في الصخور على عُمق 90 مترا، الأمر الذي اعتبره المؤرخ المقريزي من المعجزات الهندسية، كما يذكر المقريزي في الخطط أيضا أن قراقوش أقام عدة آبار وبرك لتخزين المياه، وأُثني عليه بسبب هذه الأعمال التي جلبت الخير للناس، وسهلت حياتهم، إلى جانب ذلك شيّد مبنى واسعا عُرف بـ"خان السبيل" خُصِّص للخيول وإطعامها.
وفي سنة 596هـ/1200م، أي قبل وفاته بعام واحد، أشرف قراقوش على بناء جامع القيطون خارج القاهرة بجوار الخليج الشرقي، ليكون مكانا للعبادة والخلوة، وقد حظيت هذه المنشآت، من القصور إلى الجسور والأسوار، بتقدير لافت حتى عند مؤرخي الحملات الصليبية الذين وصفوه بأنه "مهندس عظيم" استطاع أن يترك بصمته على عمارة مصر ودفاعاتها.
ومن اللافت أن صلاح الدين الأيوبي كان يعتاد في كل مرة يخرج فيها من مصر إلى الشام أو الجزيرة الفراتية في حملة عسكرية أن يترك في القاهرة أحد أقربائه ومعه قائد موثوق يتولى مهام النيابة عنه، ففي سنة 579هـ/1183م عندما توجه شمالا لحل نزاعاته مع خصومه، عهد بالنيابة إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب المتوفى سنة 615هـ/1218م وإلى حاجبه وقائد أسطوله حسام الدين لؤلؤ، وقبل ذلك بعامين في ربيع 577هـ/1181م خرج إلى الشام ليخضع أتابكة الموصل وحلب لسلطانه، فعيّن العادل ومعه بهاء الدين قراقوش نائبين عنه في مصر، وفي السنة نفسها أرسله إلى اليمن حيث تولى هناك النيابة لأخي السلطان شمس الدولة توران شاه، وتكشف هذه الأخبار التاريخية عن مكانة قراقوش المقرّبة وثقة صلاح الدين المطلقة به.
ويبلغ دوره ذروة أهميته خلال حصار عكا الذي استمر بين عامي 586 و588هـ/1189-1191م، وهو من أطول وأشرس الحصارات التي وقعت زمن الحروب الصليبية، ففي أوائل 585هـ/1189م عُيّن قراقوش واليا على عكا وأُسندت إليه مهمة ترميم أسوارها وتعزيز دفاعاتها، ويورد المؤرخ سبط ابن الجوزي في تاريخه تولي قراقوش مسؤولية التحصينات أيضا في هذه المدينة.
وعند وصول قراقوش في ربيع العام نفسه إلى عكا مصطحبا معه البنّائين والأسرى والدواب والآلات، بدأ بأعمال التحصين التي أتقنها ببراعة، حيث يشير أحد المصادر اللاتينية كما ينقل عنه هيو كينيدي في كتابه "القلاع الصليبية" إلى صلابة أسوار عكا، وقد وصف الحصن باسم "تشيبستو" (Chepstow)، وهو اسم قلعة شهيرة في ويلز بإنجلترا، كانت معروفة بقوة تحصيناتها ومتانة جدرانها، واستخدام هذا التشبيه من الكاتب اللاتيني يعكس مدى الانبهار بالتحصينات التي أشرف عليها بهاء الدين قراقوش في عكا، حتى قورنت بواحدة من أقوى قلاع أوروبا في العصور الوسطى.
وكما يذكر المؤرخ أبو شامة في كتابه "الروضتين"، كان أول ما قام به قراقوش حفر خندق عميق حول الأسوار لتعطيل آلات الحصار الصليبية، ووضع على التحصينات الرماة والمجانيق لصد محاولات ردم الخندق، وقد شهدت تلك المرحلة مواجهة متواصلة بين هندسة الحصار والهندسة المضادة، حتى وصف بعض المؤرخين الغربيين المعاصرين مثل ستانلي لين بول في كتابه "صلاح الدين وسقوط القدس" الحصار بأنه "حصار هندسي"، ولم يقتصر نشاط قراقوش على البناء، فقد ابتكر وسائل اتصال مع معسكر صلاح الدين باستخدام السباحين وحمائم الزاجل.
وفي محرم 587هـ/سبتمبر/أيلول 1190م أرسل إلى السلطان يبلغه بنفاد المؤن واقتراب المجاعة في المدينة، وكان مجرد وصول الرسول نجاحا يدل على حُسن إدارته وقدرته على تجاوز الأزمات.
ومع ازدياد الحصار والضغط الصليبي في الحملة الصليبية الثالثة قُبيل قدوم ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وملك فرنسا فيليب أوغست، أظهر قراقوش براعة في تصنيع الأسلحة الثقيلة التي عطَّلت آلات العدو، وعندما دفع الصليبيون بأبراج حصار ضخمة في 27 رجب 586هـ/3 مايو/أيار 1190م نحو أسوار عكا أُصيب المسلمون بقلق بالغ، إذ لم تؤثر فيها النيران الإغريقية ولا المقاليع لأنها كانت مكسوة بجلود منقوعة بالخل ومحاطة بشباك من الحبال، عندئذ أظهر صانع النحاس والتراكيب الكيميائية ابن عارف الدمشقي براعة حين طلب من قراقوش فرصة لتجريب تركيبة جديدة.
وقد ذكر سبط ابن الجوزي في تاريخه أن ابن عارف كان مولعا بالنفط وصنعته، فمزج مواد خاصة بالنفط وحولها إلى خليط أشد اشتعالا، وما إن قُذفت هذه المادة على أبراج الحصار الصليبية حتى التهمتها النيران واحترق الجنود الصليبيون بداخلها وسط صرخات مدوية، وهكذا تحطم هجوم كان يُرعب المدينة بفضل ابتكار ابن عارف وإشراف قراقوش على تنفيذه.
لا ريب أن بهاء الدين قراقوش أبرز في حصار عكا خلال الحملة الصليبية الثالثة سنة 587هـ/1190م قدرة مميزة على إدارة المعارك الهندسية وقيادة الدفاع، فحين عمد الصليبيون إلى بناء منجنيقات ضخمة هددت أسوار المدينة، قاد قراقوش سلسلة من الإجراءات الدفاعية بالتعاون مع الأمير الكردي حسام الدين أبو الهيجاء السمين زعيم أكراد الهكارية، ومعه خبراء النفط، وتشير رواية سبط ابن الجوزي في تاريخه "مرآة الزمان" إلى أن هجوما مباغتا أشرف عليه قراقوش أدى إلى إحراق منجنيقات عملاقة وقتل نحو سبعين من نخبة فرسان الصليبيين، بل إن منجنيقا ضخما بناه هنري دي شامبان لم يصمد سوى دقائق قبل أن يتحول إلى رماد.
وتوضح بعض المصادر اللاتينية أن براعة المسلمين في استعمال النفط المشتعل كان امتدادا لتقليد قديم يعود إلى عهد الأمير عماد الدين زنكي، وهو ما يربط خبرة قراقوش بتراث عسكري متجذر، كما لم يقتصر نشاطه على الهندسة العسكرية، بل لجأ إلى أساليب الحرب النفسية، فأمر بتعليق جثث قتلى الصليبيين على الأسوار لإضعاف معنويات خصومه، وعندما انهار جزء من أسوار عكا في 5 يناير/كانون الثاني 1191، تولى بنفسه صد الهجوم وأمر بسرعة ترميم الجدار، مبرزا مرة أخرى براعته في التنظيم والإدارة، وهو ما يذكره ابن شداد في "النوادر السلطانية".
وبوصول فيليب أوغست ملك فرنسا في ربيع 587هـ/أبريل/نيسان 1191، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا في ذي القعدة من العام نفسه، بلغ الحصار ذروته، وقد أشار المؤرخ رنسيمان في "تاريخ الحروب الصليبية" إلى تفوق آلات الحصار الفرنسية والإنجليزية التي حملتها السفن الجنوية، كما ذكر أرنول الصليبي أن فيليب أوغست جلب منجنيقات ضخمة عبر أسطول بحري جُنوي.
وفي المقابل، أثنى المؤرخون المسلمون مثل ابن شداد والمقريزي على براعة قراقوش في استخدام المجانيق والنفط، واعتبروه الشخصية الأبرز في الدفاع عن المدينة، أما الشاعر الصليبي أمبروز الذي رافق ريتشارد في تلك الحملة فقد وصف قراقوش بـ"حامي عكا الذي لا يُنسى"، وهو وصف نادر لمهندس مسلم في المدونات الغربية بحسب ما يذكره نادر قراقوش في دراسته "بهاء الدين قراقوش: مهندس صلاح الدين الأيوبي".
ولكن مع اشتداد الحصار وتناقص الإمدادات اضطر بعض قادة الحامية إلى التفاوض مع الصليبيين منتصف 588هـ/1191، وكان من بين المفاوضين حاجب قراقوش الأمير أقوش الشمسي، وأسفرت المفاوضات عن تسليم وسقوط المدينة في يوليو/تموز 1191، ووقع قراقوش في الأسر، ويذكر ابن شداد أن صلاح الدين دفع عشرة آلاف دينار، وهو مبلغ ضخم، فدية نظير تحرير مهندسه وقائده البارز، فأطلق سراحه واستقبله في القدس معانقا إياه ومُبديا تقديره العميق له.
ومن اللافت أن سيرة قراقوش لم ترتبط فقط بأعماله العسكرية والعمرانية، فقد شُوِّه اسمه في كتاب ساخر ألَّفه القاضي ورجل الإدارة الأسعد بن مماتي المتوفى سنة 606هـ/1209 بعنوان "الفاشوش في أحكام قراقوش"، وقدم هذا الكتاب روايات مختلفة ومختلقة على سذاجة وبطش قراقوش، وظلمه وعسفه، وجهله بالإدارة والحكم.
لكنّ عددا من الباحثين المعاصرين، استنادا إلى ابن شداد والمقريزي وابن العماد الحنبلي وابن خلكان وابن كثير وغيرهم، يرون أن الكتاب وليد خصومة شخصية بين ابن مماتي وقراقوش، وأنه لا يعكس واقعا حقيقيا، بدليل أن صلاح الدين لم يكن ليُبقي إلى جانبه رجلا ضعيف الرأي أو فاسد التدبير أو ظالما عسوفا، ويرجح أن الكتاب كُتب بعد وفاة قراقوش سنة 597هـ/1201م.
ومما يؤكد ذلك ما ذكره المؤرخ ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، حيث قال: "لما استقل صلاح الدين بالديار المصرية، جعله زِمام القصر (المسؤول الأول عنه)، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوّض أمورها إليه، واعتمد في تدبير أحوالها عليه، وكان رجلا مسعودا وصاحب همة عالية". أما ابن كثير فقد وصفه في "البداية والنهاية" بقوله: "الأمير بهاء الدين قراقوش، الفحل الخصي أحد كبار كُتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهما شجاعا فاتكا، تسلّم القصر لما مات العاضد، وعمّر سور القاهرة".
كما نفى غير واحد من المؤرخين ما كتبه القاضي ابن مماتي في كتابه "الفاشوش"، حيث أكد ابن العماد الحنبلي قائلا: "الأمير الكبير الخادم بهاء الدين الأبيض فتى الملك أسد الدين شيركوه، وقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لمّا سلّم إليه عكا وغيرها، وكانت له رغبة في الخير وآثار حسنة".
ويعود ابن خلكان ليؤكد موقفه من كتاب "الفاشوش" قائلا: "وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته، ما فوّضها إليه".
توفي بهاء الدين قراقوش في القاهرة ودفن في مقبرة تُطل على جبل المقطم، حيث يمكن لمَن يقف عند ضريحه أن يرى القلعة التي بناها والسور الذي أحاط القاهرة والفسطاط، ويذكر المقريزي في الخطط أن اسم قراقوش ظل حاضرا في الذاكرة من خلال مواقع ارتبطت به، مثل ميدان قراقوش عند باب الفتوح، كما خلدته عكا عبر "باب قراقوش" في شمالها، حيث خاض إحدى أعظم ملاحم الدفاع ضد الصليبيين.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة