آخر الأخبار

إردام أوزان يكتب: تراجع القوة الناعمة.. التكلفة الاستراتيجية للغياب

شارك
مصدر الصورة Credit: OZAN KOSE/AFP via Getty Images

هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .

نظرة من مفترق طرق تركيا

في تركيا، البلد الذي تعلّم الموازنة بين الإقناع والقوة، والثقافة والاستراتيجية، والوساطة والمصداقية، لا يُعدّ تآكل القوة الناعمة مجرد نظرية مجردة، بل هو واضح في كل مكان. من غزة إلى الخرطوم، ومن كاراكاس إلى كييف، حلّت لغة القوة محل لغة الحوار. لم تعد القوة الصلبة الملاذ الأخير؛ بل أصبحت الأسلوب الافتراضي للحكم. عودة الإكراه ليست حدثًا عابرًا؛ بل هي منهجية.

هذا لا يعني انتصارًا للقوة، بل يدل على نقص في البدائل الموثوقة. الأدوات التي حافظت يومًا ما على الاستقرار في الشؤون الدولية، مثل الدبلوماسية والشرعية والتعددية والتعاون الاقتصادي، تتعثر بسبب الإرهاق والانقسام. القوة الناعمة، التي كانت في يوم من الأيام إطارًا للتأثير، تتدهور إلى مجرد مظهر.

من وجهة نظر أنقرة

من تركيا، يمكن للمرء أن يُرى كيف أصبحت القوة الناعمة مجرد استعراض للمظاهر. تستثمر الدول بكثافة في وسائل الإعلام، والفعاليات العالمية، ومراكز الفكر، وبرامج التنمية. ومع ذلك، لا يزال جوهر النفوذ والثقة صعب الفهم.

في العديد من العواصم، أصبح الظهور بديلاً عن المصداقية. ويُستخدم الإبراز المالي، والترويج الثقافي، والاستعراض الدبلوماسي للإشارة إلى الاستقرار والحداثة. ولكن عندما تُبنى الدبلوماسية على الأداء بدلاً من المبادئ، وعندما تُصبح المساعدات أو الاستثمار امتداداً للنفوذ بدلاً من التضامن، تُصبح القوة الناعمة هشة.

ما يبرز هو نوع من الإقناع السام: نفوذ بلا مصداقية، وحضور بلا تأثير. والنتيجة ليست عمقًا استراتيجيًا؛ بل تضخمًا في السمعة.

النمط العالمي والعواقب الاستراتيجية

يتكرر هذا النمط عبر القارات. في فنزويلا، فشل الضغط الأمريكي من خلال العقوبات والإشارات البحرية في استعادة الديمقراطية. بدلاً من ذلك، رسّخ النزعات الاستبدادية. في السودان، انهار الحكم الانتقالي في حروب بالوكالة مُعسكرة. في منطقة الساحل، ترفض المجالس العسكرية الجديدة الشراكات الغربية، وتختار بدلاً من ذلك القوة واستخراج الموارد. في غزة، يُذاع خبر موت الدبلوماسية يوميًا، وهو أوضح دليل على كيف أن القوة الصارمة تمحو الشرعية وتقوض السلطة الأخلاقية.

هذه ليست مآسي معزولة، بل هي علامات على عالم فقدت فيه القوة مركزها الأخلاقي، وحل الإكراه محل التعاون، وانفصلت فيه حتى القوة الاقتصادية عن المبادئ السياسية.

يتسارع التشرذم الدبلوماسي. المنصات متعددة الأطراف، التي كانت في السابق محركات للاتفاق، أصبحت الآن بمثابة غرف صدى للمواقف الوطنية الفردية. أصبح الحوار جامدًا بدلًا من كونه استشرافيًا. تحل الشراكات التكتيكية محل التخطيط الاستراتيجي.

ضعفت القوة الناعمة الاقتصادية. تتدفق الاستثمارات، لكنها تفتقر إلى الهدف. تنمو البنية التحتية، لكن المجتمعات تتدهور. يتحرك رأس المال أسرع من الثقة. فقد أساس الترابط أخلاقياته، وأصبح معاملات بحتة.

ونتيجة لذلك، فإن الشعور بغياب القوة الناعمة الحقيقية لا يظهر في الفقر، بل في التشاؤم واسع الانتشار. عندما يتوقف المواطنون والمجتمع المدني، وحتى النخب، عن الإيمان بصدق الحوار والتعاون، تصبح أزمة الشرعية حتمية.

هذا الفراغ يُنشئ تهديدات جديدة. تستبدل حرب الروايات محل التواصل الحقيقي. تستخدم الدول المعلومات كسلاح لتحل محل الحقيقة. تفقد المؤسسات، المُثقلة وغير الموثوقة، سلطتها. يضعف العقد الاجتماعي لأن الناس لا يرون في السياسة حمايةً، بل كواجهة للفضح.

يمكن للقوة الصلبة السيطرة على الأراضي، لكنها لا تستطيع خلق المعنى. القوة العسكرية والمالية دون شرعية لا تُؤدي إلا إلى سيطرة مؤقتة، لا إلى استقرار دائم. عندما تُجرد واجهة القوة الناعمة من الأخلاق والتعاطف، فإنها لا تُصبح أكثر من دعاية.

الخيار الاستراتيجي المُستقبلي

من موقع تركيا، المُستقرة بين القارات وفي خضم الأزمات، يتضح أن النفوذ في المستقبل لن يُحدد بمن يستطيع السيطرة على موجات الأثير أو تمويل مشروع إعادة الإعمار القادم، بل سيذهب إلى أولئك الذين لا يزالون قادرين على الإقناع من خلال العدالة والاستمرارية والتماسك.

القوة الناعمة ليست مجرد علامة تجارية؛ إنها تتعلق بالمصداقية. إنها تنبع من الهدف، لا من الثروة. إنها تتطلب الثقة، لا من الهيمنة. ولا يمكن أن توجد في ظل الإفلات من العقاب.

في زمنٍ تُشجع فيه الدول على التعاطف، لكنها لا تزال تُصدر الصراعات، فإن المقياس الحقيقي للقوة ليس في من يُسمع صوته، بل في من تُوثق أفعاله. لقد بدأت معركة الشرعية. وستكون هذه هي الجبهة الحاسمة لهذا القرن.

سي ان ان المصدر: سي ان ان
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا