آخر الأخبار

مجلس الشعب السوري بين صراع التأسيس وتحديات الحكم الانتقالي

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

بعد أن تخلصت سوريا من نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وُلد أول مجلس شعب جديد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي من رحم فراغ دستوري دام أشهرا. لم يكن هذا الميلاد حدثا عاديا، بل هو الرهان الأكبر على مستقبل الجمهورية، وهو يطرح السؤال المصيري الذي يحدد كل ما سيأتي بعده: هل هذه الهيئة التشريعية الجديدة هي مجرد أداة لتسيير شؤون الدولة تحت سلطة "الضرورة" المؤقتة، أم إن لها حق "السيادة" المطلقة لكتابة دستور دائم للبلاد؟

هذه ليست معضلة أكاديمية، بل هي نقطة غليان قد تحدد مصير الانتقال برمته، فقرار المجلس بتبني إحدى الصلاحيتين سيحدد مصير تفكيك ترسانة القوانين القمعية، ومستقبل العدالة الانتقالية ، والأهم من ذلك أنه سيحدد ما إذا كان الدستور القادم سيحظى بالقبول الشعبي الواسع أم سيكون مجرد وثيقة جديدة تفتقر للشرعية. لذلك يواجه النواب اليوم اختبارا تاريخيا: هل يعملون كممهدين حذرين، أم يغامرون كآباء مؤسسين في بلد لا يزال يقف على أرض مهزوزة؟

مصدر الصورة اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري أعلنت نتائج الانتخابات يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (رويترز)

السيادة في مواجهة الضرورة

لم يكن التحول الدستوري في سوريا عملية سلسة أو مخططا لها، بل بدأ بإعلان حاسم في 29 يناير/كانون الثاني 2025، حين أصدرت هيئة الحكم الانتقالي مرسوما قضى بإلغاء دستور 2012 وحل مجلس الشعب السابق، منهية بذلك الشرعية الدستورية القديمة بالكامل، ومُدخلة البلاد في مرحلة من الفراغ.

وفي 13 مارس/آذار الماضي، وقّع الرئيس أحمد الشرع " الإعلان الدستوري المؤقت "، والذي لم يقم بصياغة دستور جديد، بل حدد الإطار الزمني والوظيفي للمرحلة الانتقالية. هذا الإعلان هو الذي شكّل الأساس القانوني لإنشاء مجلس الشعب الحالي عبر انتخابات أكتوبر/تشرين الأول، وحصر مهام التشريع به بصفة مؤقتة. فالإعلان الدستوري المؤقت ينص في مادته الثالثة على تشكيل مجلس شعب يمارس السلطة التشريعية حتى اعتماد دستور دائم، مع تحديد ولايته بثلاثين شهرا قابلة للتجديد.

إعلان

هذه القيود الزمنية والشرطية تشكل أساس الجدل القادم بشأن صلاحيات المجلس الفعلية، حيث يرتكز الجدل على اتجاهين متصارعين يمثلان جوهر الصراع الدستوري في أي مرحلة انتقالية:

الرؤية الأولى: الالتزام بـ"الضرورة" وتجنب مأزق الشرعية

يستند هذا الرأي على أن أصول الفقه الدستوري تنص على أن تقييد ولاية الهيئة التشريعية بمدى زمني (30 شهرا)، و الإعلان المؤقت يعني بالضرورة أنها ليست هيئة تأسيسية ذات سيادة. لكن العامل الذي يفاقم من هذا القيد هو الشرعية التمثيلية الناقصة للمجلس نفسه، حيث جرت الانتخابات في ظل آلية خاصة وظروف استثنائية، شملت غياب النازحين في مناطق واسعة من البلاد، وعدم مشاركة فئات عريضة من الشعب السوري، فضلا عن ثلاث محافظات لم يمكن إجراؤها فيها. هذه القيود المزدوجة (الزمنية والتمثيلية) تجعل من المجلس هيئة "ضرورة" مؤقتة؛ تنتهي مهمته فور ظهور الدستور الدائم.

لهذا السبب تحديدا، يخلص مؤيدو هذا الاتجاه إلى أن المجلس يفتقد السيادة التشريعية الكاملة التي تتمتع بها البرلمانات المستقرة، ليصبح دوره محكوما بـ"الضرورة الإدارية والسياسية" لتسيير شؤون البلاد فقط. أي أن هذا الاتجاه يرى أن دور المجلس يقتصر على إصدار القوانين الأساسية والطارئة التي لا تحتمل التأجيل، بينما يُحظر عليه الدخول في مهمة صياغة الدستور.

الرؤية الثانية: المطالبة بـ"السيادة".. قوة الأمر الواقع والشرعية الثورية

وتنطلق هذه المقاربة من أن المجلس -لكونه نتاج ثورة وإلغاء للنظام القديم- يمتلك قوة تغيير استثنائية، أي أن ممارسته الفعلية لسلطة إلغاء القوانين وتفكيك ترسانة الاستبداد الموروثة تمنحه سلطة فاعلة ومؤثرة بحكم الأمر الواقع، حتى مع وجود الإعلان المؤقت. هذا الطرح لا ينفي القيد القانوني، بل يضع الشرعية الثورية كمصدر قوة موازٍ يتيح له تجاوز القيود الصارمة إذا تطلبت المصلحة الوطنية ذلك.

لكن هذا المسار يحمل سلبيات جمة، فهو قد يُعجّل بإنهاء المرحلة الانتقالية لكنه يولد خصومة سياسية ودستورية واسعة تهدد استقرار الدستور المكتوب، وأصحاب هذا الطرح يدعون النواب للتعامل مع هذه الصلاحيات بمسؤولية كاملة كما لو كانت سيادية.

إن التعارض بين مسار الالتزام بالضرورة ومسار الانحياز للتأسيس الفوري يضع المجلس السوري في مأزق حقيقي، فبينما قدمت الرؤية الأولى حماية للمؤسسة الدستورية بتسليم مهمة التأسيس لجهة أوسع شرعية، فإن الرؤية الثانية تكشف عن التكلفة الباهظة لاستحواذ هيئة ذات شرعية ناقصة على الصلاحيات التأسيسية، حيث يهدد الانقسام السياسي بانهيار العملية برمتها. هذا التحدي يفرض على النواب إيجاد توازن صعب: إما الاكتفاء بالحد الأدنى القانوني والتمهيد لمستقبل أكثر استقرارا، وإما المضي قدما في التأسيس وتحمل عبء الانقسام والمخاطرة بشرعية الدولة الجديدة.

مصدر الصورة ناخب يدلي بصوته في مدينة جبلة على الساحل السوري في أول انتخابات نيابية منذ سقوط نظام الأسد (غيتي)

ثلث بلا صناديق.. بوابة تمكين أم قيد رقابة؟

إن الصراع حول صلاحيات المجلس الدستورية (الضرورة مقابل السيادة) يتفاقم بسبب تحدٍ داخلي يمس شرعية تمثيله ذاتها، فإضافة إلى القيود القانونية الناتجة عن الإعلان المؤقت، يواجه المجلس تحديا هيكليا يتمثل في كيفية تشكيله، حيث نصّت القواعد الانتقالية في الإعلان الدستوري على أن يعين الرئيس أحمد الشرع 70 عضوا -من أصل 210 أعضاء- مباشرة، بينما ينتخب الثلثان الباقيان بانتخاب غير مباشر.

إعلان

ويُبرر النظام الجديد هذا التعيين بالحاجة إلى سدّ ثغرات التمثيل، ولا سيما فيما يتعلق بالمرأة والأقليات والكفاءات التي قد لا تصل عبر الانتخابات غير المباشرة بسبب الظروف الأمنية والسياسية القائمة، وعدم استقرار مناطق واسعة مثل الرقة والحسكة والسويداء.

نتائج الانتخابات التي أجريت لنحو 140 مقعدا، أظهرت بالفعل أن نسبة النساء مثلا لم تتعد 3%، وأن حضور الأقليات كان ضعيفا، وهو ما تسعى التعيينات الرئاسية إلى تداركه في محاولة لصبغ المجلس بصبغة أكثر شمولية وتمثيلا للكفاءات الفنية المطلوبة للمرحلة. هذا الأمر يُغذي جدلا واسعا حول مبدأ فصل السلطات، ويطرح علامات استفهام كبرى حول استقلالية المؤسسة التشريعية في مرحلة بالغة الحساسية.

وحول تداعيات هذا الثلث المعيَّن على استقلالية المجلس، يتبلور موقفان متقابلان في الساحة السياسية بشأن دوره المتوقع:


* فمن جهة، يرى المؤيدون أن هذا الإجراء ضروري لتحقيق التمكين والتضمين، فهو يمثل حلا سريعا لسدّ ثغرات التمثيل التي فشلت الانتخابات غير المباشرة في معالجتها.
* في المقابل، يخشى المشككون من أن يؤدي هذا التعيين إلى التقييد والتعطيل، لأن الأعضاء المعينين قد يشكلون كتلة تصويتية موالية للسلطة التنفيذية، مما يهدد استقلالية المجلس ويقيد دوره الرقابي الفعّال. كما يرى البعض أن هذا الثلث قد يتحول إلى "ثلث معطل" في القضايا الجوهرية التي تتطلب أغلبية واسعة، مما يعيق قدرة الثلثين المنتخبين على تمرير قرارات جريئة في ملفات مصيرية.

ويبقى مصير هذا الجدل مرهونا بمدى استقلالية الأعضاء المعينين وقدرتهم على أداء دور رقابي تشريعي فعّال، بعيدا عن ضغوط السلطة التنفيذية. إن استعدادهم لاستخدام صلاحياتهم في المساءلة والاستجواب والتحقيق في تجاوزات الحكومة، هو المؤشر الحقيقي الوحيد لمدى فصل السلطات في هذه المرحلة الحرجة.

تفكيك الإرث وبناء الدولة

تتجاوز المهام الملقاة على عاتق المجلس الصراع الدستوري إلى معركة كبرى مع الإرث القانوني والاقتصادي للنظام السابق، وهي مهام لا تحتمل التأجيل وتتطلب تركيزا تشريعيا جذريا. في هذا السياق، تُعتبر الأولوية القصوى للمجلس هي تبني أجندة "إلغاء التشريع"، حيث كان القانون في سوريا لعقود أداة للقمع والفساد، والشارع السوري ينتظر إلغاء لا تعديلا للعديد من هذه القوانين.

تنص هذه الأجندة على ضرورة البدء بالإصلاح القانوني الجذري وتفكيك قوانين القمع، وفي مقدمتها إلغاء جميع التشريعات المقيدة للحريات العامة، يشمل ذلك ما تبقى من نصوص مستمدة من "قوانين الطوارئ" القديمة، وتلك التي تُجرم التعبير عن الرأي. ويبرز هنا الخطر الكامن في قوانين مثل القانون رقم 20 لسنة 2022 الذي وسع من مفهوم الجرائم الإلكترونية بشكل فضفاض، مما يجعله أداة قمعية جاهزة للاستخدام.

وبالموازاة مع ذلك، يواجه المجلس تحدي تفكيك الترسانة البيروقراطية التي كرست الفساد وأعادت إنتاج الاستبداد عبر التعقيدات الإدارية. لمعالجة ذلك، يتطلب الأمر تبسيط الإجراءات الحكومية بشكل جذري، وإلغاء القوانين التي تمنح الإدارة صلاحيات تقديرية واسعة لتعطيل مصالح المواطنين. هذه الإصلاحات ستعزز الشفافية وتخلق بيئة مواتية لتطوير البنى التحتية والخدمات.

على الصعيد المالي، تُعدّ القوانين المتعلقة بالفساد تحديا أخلاقيا وقانونيا يتطلب سنّ تشريعات تضمن استرداد الأصول المنهوبة. إن معالجة الإرث المالي للنظام السابق تتجاوز مكافحة الفساد اليومي إلى تفكيك "اقتصاد الحرب" الذي كرّس منظومة هائلة من "الإثراء غير المشروع". يواجه المجلس تحدي إعادة بناء الثقة الاقتصادية عبر حزمة تشريعات عاجلة، تشمل التصديق على قانون موحد لحماية الملكية يوقف الممارسات غير القانونية التي سمحت بمصادرة ممتلكات المهجرين بحجج أمنية أو عقارية، والإلغاء الفوري لكل القوانين التي تسمح بإسقاط حق الملكية لمجرد الغياب أو الاتهام.

إعلان

السلم الأهلي وتوقعات الشارع

إن استعادة السلم الأهلي هي جزء لا يتجزأ من أجندة الإصلاح القانوني. تُسلط حوادث جنائية مؤلمة وقعت مؤخرا الضوء على تحدٍ يتمثل في هشاشة السلم الأهلي الذي تجب حمايته، خصوصا أن هذه الحوادث يمكن استغلالها طائفيا على منصات التواصل. لذلك، فإن على المجلس أن يولي الأولوية لسنّ تشريعات تضمن أن الجريمة تُعاقَب كجريمة ضد القانون العام، لا أن تُؤطّر كقضية انتقامية. هذا يتطلب إقرار قانون لمكافحة خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، وتفعيل دور القضاء لضمان أن تكون الإجراءات في هذه القضايا الحساسة شفافة وسريعة ومحايدة.

في النهاية، يرى السوريون في مجلس الشعب الجديد فرصة لإنهاء وضع مؤقت من الفوضى القانونية وتدني الخدمات. ومن بين المطالب الشعبية المرتفعة: تحسين جودة التعليم، وتطوير البنى التحتية، والأهم هو مكافحة الفساد بجدية وتقديم المجرمين للمحاسبة، وهذا متعلق بقدرة المجلس على فتح مسارات تشريعية جذرية تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتؤسس لمواطنة متساوية، وتحارب الفساد دون تردد.

في نهاية المطاف، لا يجد مجلس الشعب السوري نفسه أمام خيارات واضحة، بل أمام اختبار تاريخي قاسٍ: القيود القانونية المفروضة بالإعلان المؤقت تقف في وجه الاحتياجات الثورية الملحة لتفكيك الدولة القديمة وبنائها من جديد، والنواب المحاصرون بين واجب التشريع العاجل وتوقعات الشارع لتأسيس عقد اجتماعي يحمل اسم سوريا الجديدة.

المهمة اليوم ليست في صياغة مواد دستورية، بل في بناء الثقة المفقودة. وسواء اختار المجلس مسار الالتزام القانوني الحذر أم الإقدام الثوري، فإن نجاحه لن يقاس بكمّ القوانين التي يمررها، بل بمدى قدرته على تطهير تركة الاستبداد وتأمين الحد الأدنى من الكرامة والخدمات للمواطنين.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا