أحيت جيبوتي أمس الخميس الذكرى الـ25 لمؤتمر عرتا للمصالحة الصومالية، الذي أنهى عقدا من الحرب الأهلية في الصومال .
وكانت مدينة عرتا، الواقعة على بُعد 42 كيلومترا شمال العاصمة جيبوتي، قد استضافت عام 2000 مداولات المؤتمر، في حين لعبت حكومة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله آنذاك دور الوسيط والميسّر للمفاوضات، ما أثمر عن تشكيل أول حكومة صومالية معترف بها دوليا بعد سقوط نظام الرئيس سياد بري عام 1991.
وحضر الاحتفال قادة من منطقة القرن الأفريقي، بينهم الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود وسلفه شريف شيخ أحمد، و4 رؤساء وزراء سابقين للصومال، إلى جانب رئيس المفوضية الأفريقية محمود علي يوسف، والأمين التنفيذي لمنظمة الإيغاد ورقينه جيبايو، والأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية محمود العجوزي، فضلا عن مئات المواطنين الصوماليين من مختلف الشرائح، بينهم نواب شاركوا في مؤتمر عرتا عام 2000.
وافتتح الرئيس الجيبوتي نُصب السلام على هامش الاحتفال، وقد أُقيم على مرتفعات عرتا رمزا للأمل والمصالحة.
ويتكون النصب من ساحة واسعة تطل على الوادي، وفي وسطها شعلة برونزية، بالإضافة إلى قاعة داخلية تضم وثائق وصورا وشهادات تؤرخ للمؤتمر ومسيرة المصالحة الصومالية.
وفي كلمته، أكد الرئيس جيله أن الاحتفاء بمؤتمر عرتا ليس للتباهي بإنجازات جيبوتي، بل لتأكيد دور المؤتمر كنموذج حي يمكن استلهامه في حل النزاعات بالمنطقة، معلنا مبادرة لتحويل النصب إلى معهد إقليمي للسلام يعنى بترسيخ ثقافة الحوار والبحث في آليات التسوية السلمية.
وأوضح أن المعهد سيكون منصة دائمة للحوار السياسي وتدريب جيل جديد من القادة والوسطاء القادرين على مواجهة تحديات القارة.
واستعاد الرئيس لحظة ميلاد مؤتمر عرتا عام 2000، حين احتضنت جيبوتي مئات الشخصيات الصومالية من مختلف التيارات والفصائل، ونجحت في تشكيل أول حكومة صومالية معترف بها دوليا بعد سنوات من الفوضى والانقسام، مشددا على أن ما تحقق آنذاك كان ثمرة جهد أفريقي خالص قاده شعب جيبوتي بإيمان عميق بوحدة المصير الإقليمي.
وأكد جيله أن ذكرى مؤتمر عرتا يجب أن تظل منارة للأجيال المقبلة، ودليلا على قدرة الأفارقة على معالجة نزاعاتهم بجهودهم الذاتية، مشيرا إلى أن عرتا ليست مجرد ذكرى، بل رسالة متجددة بأن السلام يصنعه الإيمان بالحوار، وأن وحدة شعوب المنطقة هي الضمان لمستقبلها المشترك.
وعلى امتداد تسعينيات القرن الماضي، شهد الصومال 3 محاولات رئيسة للمصالحة، لكنها أخفقت جميعها في تحقيق نتائج ملموسة أو تأسيس سلطة شرعية معترف بها.
ففي عام 1991، أطلقت جيبوتي أولى المبادرات عقب سقوط نظام سياد بري، وأسفرت عن تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة علي مهدي محمد، لكنها انهارت سريعا بسبب رفض محمد فرح عيديد الاعتراف بها، ما أدى إلى تصاعد النزاع.
ثم جاءت المبادرة الإثيوبية عام 1996، حيث رعت أديس أبابا جولات تفاوضية جمعت 26 فصيلا صوماليا، لكنها أخفقت نتيجة الخلافات الحادة ومقاطعة بعض الأطراف، وسط اتهامات بتدخل إثيوبي مباشر في الشأن الصومالي.
وفي عام 1997، طرحت مصر مبادرة انتهت بـ"إعلان القاهرة" الذي وضع إطارا للحوار المستقبلي، إلا أنها لم تُترجم إلى نتائج فعلية بسبب غياب التمويل، وانقسام المليشيات، ومعارضة إثيوبيا التي رأت في القاهرة خصما سياسيا في الملف الصومالي.
ورغم تعدد المحاولات، ظل الصومال حتى نهاية التسعينيات بلا حكومة مركزية، غارقا في الفوضى، وسط سيطرة المليشيات المسلحة وتفكك مؤسسات الدولة، إلى أن جاءت المبادرة الجيبوتية الجديدة بقيادة الرئيس إسماعيل عمر جيله، لتكسر هذا الجمود وتفتح بابا حقيقيا للمصالحة الوطنية.
بعد توليه الرئاسة عام 1999، نجح جيله في استضافة أعمال مؤتمر المصالحة الوطنية الصومالية، في مدينة عرتا في مارس/آذار 2000، بمشاركة نحو 2500 ممثل عن مختلف القبائل والعشائر والهيئات المدنية والسياسية والدينية.
وتميز المؤتمر بكونه الأول الذي جمع مكونات المجتمع الصومالي كلها بعيدا عن سيطرة أمراء الحرب، كما شاركت فيه منظمات إقليمية ودولية مثل الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة الإيقاد.
واستمرت أعمال المؤتمر نحو 5 أشهر، جرى خلالها تقسيم المداولات إلى 3 مراحل مترابطة: بدأت أولا بمرحلة المصالحة القبلية التي وُضعت فيها أسس التفاهم بين العشائر، ثم انتقلت إلى مرحلة صياغة الدستور المؤقت التي تولتها لجنة من 67 شخصية صومالية، قبل أن تختتم بمرحلة تشكيل البرلمان والحكومة، حيث جرى انتخاب 245 نائبا، واختيار عبد القاسم صلاد حسن رئيسا مؤقتا للبلاد في أغسطس/آب 2000، ليصبح أول رئيس صومالي منذ أكثر من عقد.
وحظي المؤتمر بدعم سياسي واسع، إذ شاركت في مراسم تنصيب الرئيس الجديد إثيوبيا والسودان واليمن وإريتريا، كما رحبت مصر والسعودية وقطر والكويت والإمارات بنتائجه، معتبرة إياه إنجازا أفريقيا في حل نزاع طويل بدون وصاية خارجية.
أما الأمم المتحدة فأعلنت رسميا عودة الصومال إلى عضويتها الكاملة، بينما أكدت منظمة الوحدة الأفريقية والإيغاد أن الخطوة تمثل عودة الدولة الصومالية إلى الإطار الإقليمي.
جيبوتي.. دبلوماسية صغيرة في ملفات كبيرة
نجاح مؤتمر عرتا عزز مكانة جيبوتي كدولة ذات نفوذ دبلوماسي يتجاوز حجمها الجغرافي والديمغرافي.
فقد تمكنت من تحقيق ما وصفه الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بأنه "إنجاز تاريخي لدولة صغيرة استطاعت فعل ما عجزت عنه دول كبرى"، مشيرا إلى أن قيمة الدول تُقاس بمساهماتها لا بمساحتها.
مراسل الجزيرة (يسار) مع الرئيس الصومالي السابق الشيخ شريف الشيخ أحمد (الجزيرة)ورغم التحديات، فإن مؤتمر عرتا بقي حدثا مفصليا في التاريخ الصومالي الحديث، إذ أعاد الاعتراف الدولي بالدولة الصومالية، ومهّد لمرحلة جديدة من المبادرات الإقليمية التي استكملت لاحقا في كينيا عبر مؤتمر إمبغاتي عام 2004، الذي أفضى إلى تشكيل الحكومة الانتقالية الثانية.
وبعد مرور ربع قرن على مؤتمر عرتا، ما زال يُنظر إليه بوصفه أول تجربة أفريقية ناجحة في صنع السلام داخل القارة دون وصاية خارجية مباشرة، حيث مهد الطريق أمام مؤسسات الدولة الصومالية الحديثة، ورسخ مكانة جيبوتي كمنصة للحوار الإقليمي ووسيط موثوق في أزمات القرن الأفريقي.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة