في أن الوقت نحتاجه لمراكمة القوة لا الاستقرار، وأحيانا كثيرة يكون الاستقرار مراكمة لنقاط الضعف وانكشافاً على العدو.
في أن عدم الجاهزية للحرب يُحتم علينا تأجيلها، وتأجيلها يكون بالاستعداد لها، وطالما يرى عدونا رعبنا من اقترابها، فسيبقى يبتزنا بخوفنا منها، وهكذا يُقرّب خوفنا ما كنّا نُحاذر.
في أن "المشاغلة" بكل أنواعها، بأدوات الدولة وخارجها، قد تردع "إسرائيل" وتؤخرها عن مشروعها في سوريا، بل والمنطقة أجمع.
في أن فهم طبيعة "إسرائيل" الأصلية والمستأنفة "بعد الطوفان تحديدا" ضروري في إدراك ما هو قادم.
في أن "إسرائيل" ذاهبة لتأسيسها الثاني هربا من هشاشتها، والتأسيس الثاني يعني إخضاع الإقليم بالقوة.
في أن تقسيم سوريا قد بدأ، وأن المبالغة في مظاهر الاحتفال وتضخيم رموز الدولة لن يعوض نزف السيادة على الأرض.
في أن ما يحدث بسوريا يخصنا كلنا وبشكل شخصي.
ما إن وصلت إلى نقطة ما في حديثي، افترضت أنها مقدمة لما أريد قوله، حتى قاطعني صديقي بالجملة التي باتت متلازمة في مناخنا السياسي الجديد: "يعني بدك نحارب إسرائيل هسا؟" وأخذ يشرح لي الوضع الحالي الصعب لسوريا، وكم ساعة تأتي الكهرباء في اليوم، وإلى أي درجة مؤسسات الدولة منهارة، وحجم التفاصيل التي غرقت فيها التجربة الجديدة "خذ مثلاً مشكلة الطابو، أنت لا تعرف كم هي مشكلة حقيقية لدينا، إنها".
وعند هذه النقطة من استطراد صديقنا، بدأ صوته ينخفض تدريجياً في رأسي حتى استقرّ كموسيقى في الخلفية، إذ فقدت التركيز وراح خيالي إلى مكان آخر. كنت قادماً من "تل الجابية" تلك التلة المهيبة غرب دمشق والتي خطب عندها عمر بن الخطاب، مكان لقاء جيوش الإسلام، ومنطلق حشود فتح بيت المقدس ".. قد جنّدنا لكم جنودكم، وهيّأنا لكم مغازيكم، وأثبتنا لكم منازلكم، ووسعنا لكم ما بلغ فيكم وما قاتلتم عليه بأسيافكم، فلا حجة لكم على الله، بل لله الحجة عليكم".
وكثيراً ما أفكر في أن ما يجعل عملنا السياسي ثقيلا هو حجم الإرث الذي آل إلينا من غير وصية. إننا مثقلون بالمهمة، مثقلون بالأجداد، إننا لا نشبه أحداً، لقد فشلنا في التحول لدول حديثة، لكن هذا الفشل تحديداً هو ما يميزنا، فشلنا فشلاً ناجحاً، لم نخضع لهم، لدينا اقتراح آخر لسير التاريخ والسياسة، نفهم الاجتماع بشكل مختلف، بل وجئنا لننقذه من سطوة أهل المال والضلال، وبسبب هذا الاختلاف الجوهري هم يستبقون أي نهوض يخصنا، يكمنون لنا في كل ثورة، وقبل أن تنضج ثمرتها، يُصدّرون لنا ثمارا معلبة ومبكتة بشكل جيد، نتائج جاهزة تمنع التجارب كلها أن تأخذ صيرورتها الطبيعية التي تشبهنا، ننسى لماذا خرجنا، وفي سبيل ماذا سقطت كل هذه الدماء، وإلى أين كنا سنذهب؟ وهكذا من لم يُخضعه صاروخ "إف-16" يُخضعه ضغط الواقع المليء بالخطوط المعقدة التي تنتهي إليهم مجدداً.
وجرى تصميم الدولة ما بعد الاستعمار في منطقتنا لكي تزيد من نقاط ضعفنا، ولا يمكنك مقاتلة "إسرائيل" ببنية دولة، بل بمقدار ما تملك من قوى خارج الدولة، لن تتفوق عليها بأدواتها، بل بما يربك هذه الأدوات ويجرها إلى خارج منطقة راحتها. والمقرّات المكشوفة والوجوه المعروفة هو ما تُفضّله "إسرائيل" إذ يُسهّل عليها مهمتها، وفي مآل السلطة الفلسطينية كل العبر، إنها تجربة حزينة لتحول المقاتلين التدريجي إلى موظفي أمن لدى عدوهم.
"هل تفهمني؟" سألني صديقي دون أن ينتظر الإجابة. و"من أجل الذي ذكرته لك لا نستطيع محاربة إسرائيل اليوم، إنّنا نحتاج دورتين من الاستقرار أو أكثر، لكن "أنتم" (لا أعرف من يقصد بأنتم) لديكم تصور واحد لجريان الأمور، وهو الحرب. إنّنا بلا شك نتألم أمام ما يجري في غزة من إبادة، لكننا لا نستطيع المغامرة بتجربتنا كلها في خطوة غير محسوبة، بالذات بعد الذي رأيناه في غزة".
يكاد هذا الحوار يتكرر في كل جلسة تكون سوريا موضوعاً للنقاش فيها، وهو مقطعٌ واحد، قد تسمع شبيهه من سائق التاكسي وحتى صاحب القرار. لقد اختفت الحدود الفاصلة بين الثقافة الشعبية وضرورة إدراك النخبة لطبيعة ما هو قادم، والإشكال الأكبر في أن تمثيل الدور سرعان ما يختلط بتصديقه، فما تكرره تعتاده، ثم تصبح تستهجن غيره.
ولقد استقرّت لديّ قناعة أنّ أكثر حقل في الدنيا يحتاج إلى تزكية كنظرية معرفة، هو حقل السياسة، وأقصد بالتزكية كنظرية معرفة أنها تتيح لنا رصد النفس في لحظات التلبيس، كيف أنها تميل للتمويه والتهرّب من صلب الموضوع، وواحد من أشهر التهربات هو تضخيم الموضوع حتى يسهل التخلص منه دفعة واحدة "هل تريدنا أن نحارب إسرائيل اليوم؟".
وتبدو الإجابة عن السؤال سهلة، بالنفي، فالجيش مازال بطور التشكل، ومازال البلد لم يحسم أمنيا، فلدينا تهديدات في الساحل والجنوب والشرق، لكن ماذا لو كان هناك ألف خطوة تسبق خطوة الحرب؟ وقتها يكون من الضروري أخذها لتأجيل الحرب بالفعل، أو على الأقل، لنكون بجاهزية معقولة فيما لو أتت الحرب. وأما الحاصل، فهو أنّ كل الخطوات الممكنة للعمل تُطرح بعيداً خارج التفكير، ونتجمّد أمام ثنائية تبسيطية مُخلّة: الحرب أو التطبيع.
والحقيقة، أنّه على خلاف كل ما يمكن شراؤه، لا يُباع الوقت في البقالات، ولا يأتي بالمنح الدولية أو بالاستثمارات الخليجية. والوقت ليس هو ما يُشترى، بل هو العملة التي تشتري بها، وتشتري بها شيئاً واحداً، وهو "القوة الفعلية" لكن انتظار الوقت يمر، ولا يعني بالضرورة أننا سنزداد قوة، بل قد نزداد ضعفا، ويزداد عدونا قوة وتبصراً بنقاط ضعفنا. فمع الوقت أصبحت بنية مفاصل القرار مكشوفة لـ"إسرائيل" أكثر وأكثر، وما نشره معهد ألمى الإسرائيلي من هيكلية تفصيلية للقوة العسكرية الجديدة في سوريا يوضح الانكشاف السريع الذي حصل، كما أن القصف المستمر للمستودعات والمواقع العسكرية التابعة للإدارة الجديدة يستنزف أي مراكمة للقوة المفترضة بمعدل غارة كل 3-4 أيام تقريبًا.
لنفكّر بالتساؤلات التالية: ماذا لو قرّرت "إسرائيل" الإطباق على التجربة السورية بأكملها؟ ماذا لو استمرت في سيناريو تقسيم سوريا؟ ما هي أدواتنا لمواجهة ذلك الآن؟
إنّ الألف خطوة التي تسبق الحرب هي درجات "المشاغلة" وهي تمتد من مركز الدولة إلى أطرافها، من أدوات الدولة إلى أساليب يمكن أن ترعاها الدولة خارجها، وأخرى تنشأ وحدها وتعيد إنتاج نفسها بمعزل عن الدولة. وليست الحرب دائماً خياراً صفرياً، بل هي درجات كثيرة من "المشاغلة" التي إن غابت ولم نمتلك أدواتها، فإنّ ذلك بالضرورة يغري خصومنا بإخضاعنا.
ولا تُنشئ طاولة المفاوضات واقعاً سياسياً جديداً، بل وظيفتها أن تتوج واقعاً قائماً بالفعل. ولقد خسرنا السويداء بكل بساطة لأننا لم نحسن قراءة "إسرائيل" ولم نفهم إلى أي درجة هي ذاهبة في محاربتنا، ونظن أنها تريد تأمين حدودها، وهذا صحيح فقط إذا عرفنا بالضبط ما هي حدودها، إنّ حدودها الإقليم كلّه!
ويبدأ التصدي لـ"إسرائيل" من التفكير خارج عقلية الدولة، أو بالأحرى، عدم التقيد بشكل واحد ومخصوص من دولة بلا أظافر، وسياسة بلا مغامرة. وثمة حاجة مُلحّة لإنشاء قوى مشاغلة في الجنوب، تُشعر "إسرائيل" بكلفة ما تنتظرها. إنّها كيان يُمثّل الجنون والقوة معاً، لكن قواها ضعيفة، أضعف من أي وقت مضى، وما يجعلها تبدو بهذه القوة هو عدم وجود أي قوة تهددها، ولذا فإن "المشاغلة" كفيلة بجعلها تعيد حساباتها، أما الذهاب إلى المفاوضات مهزومين وبدون أدوات، فمعنى هذا الركوب في القطار الشهير للمنطقة، الذي كانت كل محطة فيه نزولاً في السقف السياسي عما قبلها، خصوصاً إذا ما بدأ التفاوض بتنازل "اللقاء المباشر" الذي يُعد بذاته تنازلا رهيبا، ذلك أن "إسرائيل" كيان منبوذ يعيش على هذا النوع من الاعترافات.
إن "إسرائيل" اليوم على مفترق طرق حقيقي، إما تتمكن من تأسيسها الثاني الذي ستُخضع فيه الإقليم، وإما تقترب أكثر من باب فنائها.
ولقد عادت إلى نمطها الحربي القديم، حرب حاسمة يتخللها ضربات استباقية، من جز العشب إلى اقتلاع الجذور وزرع قواعد عسكرية مكانها، ومن الردع إلى الحماية المقدسة، وبحسب وصف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق عاموس يادلين "لقد انتقلنا من مبدأ الردع إلى مبدأ الوقاية المقدسة.. يجب القضاء على أي تهديد لموقع الهيكل، حتى لو كان محتملًا، قبل أن يتجسد" وتماما كما فعل فرعون في الماضي أراد أن يقتل (سيدنا موسى عليه السلام) "احتمال التهديد" فور نزوله من بطن أمه فأباد جيلا بأكمله.
ولذا هي اليوم دولة كانت تفكر بإستراتيجية وتدريج وتحييد واحتواء إلى دولة ذاهبة لحرب وجودية مفتوحة، وهذا يحتم علينا الكثير من العمل إذا أردنا النجاة بالفعل.
وفي ورقة بعنوان "لماذا فوجئ حزب الله وإيران من عمليات إسرائيل؟" كتبها مئير فنكل رئيس مجال البحث في "مركز دادو" تشرح أن عدم إدراك حزب الله وإيران لطبيعة التغير الذي حدث على عقيدة "إسرائيل" خصوصاً بعد "طوفان الأقصى" هو الذي أدى لتعرّضهم لخسارات متتالية.
وتريد "إسرائيل" أن تهيمن على المنطقة بأسرها، وهو ما علينا الاستعداد له. وهيمنتها هذه، ليست على قاعدة السلام والاندماج، بل على قاعدة إرعاب المنطقة وكسرها واختراقها أمنيا وعقديا، وهو طور من العلو كان قد سبق "طوفان الأقصى". وجاء الطوفان محاولاً كسره أو تبطيئه. وصحيح أنه اليوم آخذ بالتسارع، لكن تسارعه غير العقلاني يفتح ممكنات واسعة لمقاومته، وإن سوريا هي نقطة الانطلاق لمقاومته بشكل أساس.