في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كان للمجاهد الليبي الكبير عمر المختار في تاريخ المقاومة الليبية عامة، وبرقة والجبل الأخضر خاصة دور ضخم في الوقوف أمام الاحتلال الإيطالي بصلابة كبيرة طوال 20 عاما حتى استشهاده، وكان المختار نتاج الحركة السنوسية الصوفية التي ترسخت في الأرض الليبية عبر عقود طويلة من العمل الديني والاجتماعي والسياسي.
وقد وجدت هذه المنظومة نفسها في مواجهة مباشرة مع السياسات الاستعمارية الإيطالية التي جمعت بين القمع العسكري والإجراءات الإدارية الهادفة إلى إخضاع القبائل وإعادة هندسة المجال الريفي بصورة قمعية واضحة.
وفي هذا السياق، لا يمكن فهم معركتي الرحيبة وأم الشفاتير إلا من خلال هذا الإطار الأوسع، وهو ما يوضحه المؤرخ البريطاني جون رايت في كتابه "ليبيا: تاريخ حديث" حيث يربط بين انتقال السنوسية من شبكة زوايا ريفية ذات طابع ديني إلى حركة مقاومة منظمة تعتمد أسلوب حرب العصابات وتستند إلى قيادة ميدانية تدرك طبيعة الأرض والبشر معا.
فكيف وقعت معركتا الرحيبة وأم الشفاتير؟ وما النتائج التي ترتبت عليهما في الواقع الليبي في عشرينيات القرن الماضي؟
لم يكن صعود الشيخ عمر المختار إلى موقع قيادة المقاومة الليبية في الشرق حادثا طارئا أو وليد مصادفة، بل هو نتيجة طبيعية لبنية اجتماعية ودينية متماسكة نسجتها الحركة السنوسية بين القبائل والزوايا.
ولم تكتف هذه البنية بتوفير الإطار الروحي والتعبوي، بل أنتجت أيضا شرعية اجتماعية وسياسية للمختار، جعلته في موقع القائد الشرعي الذي تلتف حوله القبائل.
ويشير الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه "الشيخ الجليل عمر المختار" إلى أن سر نجاح المختار كمن في مرونة قيادته الميدانية التي اعتمدت على التشكيلات القبلية المسلحة، واستخدامه بنجاح نظام التراتبية العسكرية العثمانية الذي سماه بـ"الأدوار"، مما أتاح إنتاج قيادة جماعية موزعة وقادرة على امتصاص الضربات المتلاحقة وإعادة بناء قدراتها بسرعة.
وقد مكنت هذه المرونة المختار من تحويل المساجد والزوايا إلى مراكز للتعبئة الروحية والعسكرية، والجبال والأودية إلى خطوط دفاع طبيعية يصعب على الآلة العسكرية الإيطالية تجاوزها، لتتحول الجغرافيا ذاتها إلى حليف إستراتيجي في معركة الاستقلال.
وبهذا المعنى فإن معركتي الرحيبة وأم الشفاتير لم تكونا مجرد مواجهتين عسكريتين، بل كانتا نتاجا مباشرا لهذه البنية الدينية والاجتماعية والسياسية التي وظفها عمر المختار بذكاء نادر.
وفي مقابل ذلك اتجه الاحتلال الإيطالي الذي اتخذ الأيديولوجية الفاشية نبراسا لتحركاته منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي إلى سياسة يمكن تلخيصها بعبارة "إخضاع دموي مستمر"، حيث مزجت سياسته بين كثافة القوة النارية وإجراءات عقابية جماعية بحق التجمعات القبلية.
ويوضح أنجيلو ديل بوكا في كتابه "الإيطاليون في ليبيا من الفاشية إلى القذافي" أن هذا التحول مثّل انتقالا واعيا من حملات موسمية متقطعة إلى مشروع استعماري أمني شامل يعيد تشكيل المجال والسكان معا.
وكان هذا الانتقال ضمن سياق أوسع لانتهاكات موثقة شملت القصف الجوي والاعتقال الجماعي والتهجير القسري وإتلاف مصادر العيش، وهي الأدوات نفسها التي ستظهر بوضوح في معركة أم الشفاتير لاحقا وتصبح جزءا من عقيدة الردع الاستعماري كما تقرأها المرويات الإيطالية والعربية.
وقد صنعت تضاريس الجبل الأخضر نصف تكتيكات عمر المختار، أما نصفه الآخر فكان معرفة دقيقة بخريطة الجماعات المحلية ومسارب الماء ومواطن الكلأ ومسارات الانتقال الموسمي، ويعرض نيقولا زيادة في كتابه "برقة الدولة العربية الثامنة" هذا التمازج بين المكان والبشر في صوغ شخصية المقاومة البرقاوية، موضحا كيف استثمرت القيادة السنوسية البنية القبلية لإدارة خطوط الإمداد وتنظيم المفارز سريعة الحركة، وتوزيع نقاط الرصد والإنذار المبكر.
وقبيل سنة 1927 كان الطرفان الليبي والإيطالي يعيدان التقييم، ويكشف جون رايت في كتابه "ليبيا: تاريخ حديث" لحظة انتقال القيادة الفاشية إلى نهج العمليات المتتابعة التي تُراكم الضغط وتستنزف الخصم عبر المطاردة والتطويق، في مقابل تمسك عمر المختار بإيقاع الكر والفر ومحاولة جر القوات الإيطالية إلى مناطق وعرة تبطل أفضلية المدفعية والطيران.
وفي هذه المرحلة نرى صراعا من المقاومة الليبية للاحتلال الإيطالي بين عقيدة نيران كثيفة، وعقيدة عسكرية تقوم على الحركة المرنة؛ ومن هذا المدخل تُفهم الرحيبة على أنها اشتباك اختاره الليبيون في أرضهم وبشروطهم التكتيكية قبل أن ترد روما بمحاولة فرض قتال جبهي في أم الشفاتير لاستعادة الهيبة الميدانية.
في صباح 28 مارس/آذار 1927 تقدمت قوة إيطالية كبيرة باتجاه معسكرات المجاهدين في دور العبيدات قرب حوض الرحيبة شرق ليبيا، ضمن خطة عسكرية هدفت إلى ضرب قواعد المقاومة وتطويقها بسرعة من الهضاب والجبال المحيطة.
غير أن ما جرى على الأرض كان مختلفا تماما، حيث يذكر خليفة التليسي في كتابه "معجم معارك الجهاد في ليبيا" أن القيادة الإيطالية قدّرت عدد المقاتلين الليبيين المرابطين بنحو 250 فقط، وهو تقدير اعتمدته في صياغة خطتها الميدانية، لكن سرعان ما انكشف خطأ الحسابات الإيطالية عندما أبدت المقاومة الليبية صلابة وتكتيكا قلب الموازين.
أما تفاصيل الاشتباك فتُبرز بصمة عمر المختار التكتيكية، حيث تُرك الرتل المهاجم يتوغل داخل المنخفض حتى يظن أنه بات مسيطرا على الوضع المحيط، ثم الانقضاض عليه بهجوم معاكس من الجبهة الشرقية، في الوقت الذي تتولى فيه وحدات جانبية قطع طرق الانسحاب.
وقد أدى هذا التكتيك القتالي للمجاهدين لليبيين إلى تقهقر القوات الإيطالية وتراجعها، ولكن يؤكد أحمد علي بوسقاوة في دراسته "معركة الرحيبة 28 مارس/آذار 1927″، أن قرار الانسحاب الإيطالي لم يكن اختياريا بل جاء تحت ضغط نيران مركزة من اتجاهات متعددة، وأن المطاردة المنسقة التي تلت ذلك كسرت القوة المهاجمة وحوّلت الهجوم الإيطالي إلى هزيمة واضحة المعالم.
أما حصيلة معركة الرحيبة فقد بدت فادحة قياسا بحجم القوة الإيطالية، حيث تشير العديد من المصادر إلى سقوط 6 ضباط وأكثر من 300 جندي من أصل قوة قوامها نحو 756 بين ضابط وجندي.
وتتسق هذه الأرقام مع رواية الحاكم العام الإيطالي لبرقة أتيليو تيروتسي في كتابه "برقة الخضراء" الذي يعرض أثر الصدمة على تقارير القيادة الإيطالية في برقة وقتئذ، وما مثلته هذه الحصيلة من إهانة لإيطاليا، كما أنها لم تعكس مجرد تفوق ميداني للمجاهدين فقط، بل كشفت أيضا عن خلل استخباري واضح في تقدير قوة الخصم وعدده.
ومن اللافت أن تداعيات الرحيبة تجاوزت حدود الميدان العسكري، فقد صرح أتيليو تيروتسي أيضا أن المعركة أوقفت بغير توقع مسار العمليات الإيطالية في برقة، وأحرجت الحكومة الفاشية في روما التي لم تعد تتحمل هزائم تمس سمعة جيشها أمام الرأي العام الأوروبي.
وهكذا كانت الخلاصة السياسية لدى القيادة الإيطالية واضحة وتشدد على ضرورة خلق معركة جديدة تستعيد الهيبة وتُرغم المجاهدين بقيادة عمر المختار على مواجهة مفتوحة بحيث تتفوق المدفعية والطيران.
وبهذا المنطق صيغت خطة معركة "عقيرة أم الشفاتير" بعد شهر واحد فقط، ذلك بأن البعد الدعائي كان جزءا أصيلا من القرار بدخول أم الشفاتير، حيث أرادت القيادة الإيطالية معركة تُرى وتُحكى في الداخل والخارج لإغلاق جرح الرحيبة في المخيال الاستعماري.
ولم يكن اختيار المكان تفصيلا عابرا، فمنطقة "عقيرة أم الشفاتير" تمثل نقطة مناسبة بالنسبة للإيطاليين على الطريق بين بنغازي وإجدابيا، حيث تتاخم سهلا مفتوحا يسمح لكتلة كبيرة من الجنود بالمناورة، ويتيح للطيران حرية الضرب والإسناد.
ويعرض محمد عبد الرزاق مناع في كتابه "جذور النضال العربي في ليبيا" لتفاصيل وتطورات هذه المعركة، مؤكدا أنها صُممت لتكون فاصلة في إعادة فرض السيطرة الإيطالية على برقة، وتُظهر معركة عقيرة أم الشفاتير حجم الاختلال في ميزان القوى بين الطرفين، إذ حشدت إيطاليا قوة كبيرة تضم وحدات نظامية من الجنود الإيطاليين والإريتريين، فضلا عن فرق غير نظامية من المرتزقة الأفارقة، بل وقوات ليبية موالية للاحتلال.
وعززت هذه التشكيلات بدبابات وسيارات مصفحة ووحدات للهجانة وبطاريات مدفعية ميدانية، بينما انطلق سلاح الطيران من قواعده القريبة ليغطي العمليات الجوية، وفي المقابل لم يتجاوز عدد المجاهدين ما بين 1500 و2000 مقاتل، ربعهم تقريبا من الفرسان، ترافقهم قوافل قوامها عدة آلاف من الجمال لتأمين التنقل والإمداد.
وقد نجحت الاستخبارات الإيطالية هذه المرة عبر شبكاتها من الجواسيس في رصد موقع المجاهدين عند عقيرة أم الشفاتير بدقة، فسارعت القيادة الفاشية إلى تطويقهم بحملة عسكرية ضخمة استغرقت يومين من التحرك.
وقدرت هذه القوة بحوالي 5 آلاف جندي، مدعومين بألف جمل وألفي بغل، إضافة إلى ناقلات ومدرعات، وأمام هذا المشهد اجتمع عمر المختار مع قادة المفارز، وكان على رأسهم الشيخ حسين الجويفي البرعصي الذي تولى القيادة الميدانية لهذه المعركة، وذلك لإعداد خطة دفاعية محكمة.
وعلى الفور حُفرت الخنادق لتأمين مواقع القتال، كما شُيدت خنادق أخرى خُصصت لحماية النساء والأطفال والشيوخ، ونُظم المقاتلون في تشكيلات قبلية، بحيث تمركزت كل عشيرة أمام ذويها الذين احتموا بالخلف، في توزيع يعكس التلاحم الاجتماعي بين المقاتلين وعائلاتهم.
وكما يذكر نيقولا زيادة في كتابه السابق، فقد اندلعت المواجهة سريعا، وأخذت الطائرات الإيطالية تقصف مواقع المجاهدين وملاجئ المدنيين، مما أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا بينهم نساء وأطفال.
ورغم الكلفة البشرية العالية، تمكن المجاهدون بفضل صمودهم من امتصاص الصدمة الأولى، ثم شنوا هجمات معاكسة أجبرت القوات الإيطالية على التراجع بعد أن تكبدت خسائر كبيرة، وقُدر عدد الشهداء الليبيين في هذه المعركة بنحو مئتي شهيد، كان من بينهم والد زوجة عمر المختار الذي رثاه الشيخ بحرقة كبيرة.
وقد خرجت القوات الإيطالية من معركة أم الشفاتير مثقلة بالإرهاق وفقدان القدرة على الاستمرار بعد سلسلة طويلة من الاشتباكات التي استنزفت طاقتها الميدانية.
وقد أبرزت نتائج المعركة لعمر المختار طبيعة الإستراتيجية الفاشية الجديدة التي لم تكتف بالمواجهة المسلحة، بل اعتمدت كذلك سياسة العقاب الجماعي، من تدمير البنية الاقتصادية المحلية إلى استهداف السكان المدنيين.
ويشير المؤرخ الإيطالي أنجيلو ديل بُوكا في كتابه "الإيطاليون في ليبيا" إلى أن هذه المرحلة شهدت تحولا واضحا نحو ما يشبه حرب الإبادة التي استهدفت الإنسان والموارد معا، وهو ما جعل المختار يعيد النظر في آليات الدفاع وطرق حماية الأهالي.
وفي مواجهة هذا التحول، اتخذ المختار قرارا حاسما بترحيل النساء والأطفال والشيوخ إلى منطقة السلوم الواقعة على الحدود المصرية، لتأمينهم من الغارات الجوية الإيطالية التي كانت تستهدف مناطق التجمعات، وتسهيل حركة المقاتلين بعيدا عن همّ حماية المدنيين.
ويبدو أن هذا الإجراء كان خطوة إستراتيجية قللت من قدرة الطيران الإيطالي على تحقيق مكاسب مباشرة، كما عززت من حرية حركة المجاهدين.
وعلى الصعيد العسكري أعاد المختار تنظيم قواته في شكل وحدات صغيرة قادرة على المناورة، تنفذ هجمات خاطفة على المواقع الإيطالية ثم تنسحب بسرعة قبل أن تتمكن المدفعية والطيران من إصابتها.
وقد مكّن هذا النمط من القتال المعروف بحرب العصابات الثوارَ من تقليص خسائرهم البشرية في مقابل رفع كلفة الاحتلال، ويصف جون رايت في كتابه السابق هذا التحول باعتباره نقلة نوعية في أسلوب القتال، حيث أصبح المختار يقود حرب استنزاف طويلة الأمد تهدف إلى إنهاك الخصم أكثر من تحقيق نصر سريع.
غير أن نشاط المختار لم يقتصر على ميدان المعركة فقط، بل تجاوزه إلى بُعد سياسي وإعلامي أوسع، فقد أدرك أن قضية برقة بحاجة إلى صدى في العالمين العربي والإسلامي، وكذلك في أوروبا، ولهذا السبب أوفد بعض رجاله إلى الخارج لتعريف الشعوب بما يجري من إبادة إيطالية، فضلا عن حشد الدعم المالي والسياسي.
وقد أسفرت هذه الجهود عن تكوين جاليات ليبية في المهجر تحولت إلى مراكز دعم، تجمع التبرعات وتنقل أخبار الثورة إلى الرأي العام العربي والدولي، مما جعل معركة الجبل الأخضر جزءا من قضية أوسع تتجاوز حدود ليبيا.
وفي الذاكرة الليبية، بقيت الرحيبة مرادفا للانتصار الملهم، في حين مثلت أم الشفاتير جرحا مؤلما، غير أن الجمع بينهما أفرز درسا تكتيكيا واضحا تمثل في ضرورة تجنب القتال الواسع المفتوح حيث تتفوق المدفعية والطيران، واعتماد مبدأ الاقتصاد في القوة مع تراكم الاستنزاف الذي يمنح زمام المبادرة لمن يعرف الأرض.