آخر الأخبار

"المجاهد الأكبر" الذي ظن أن باريس أقرب إليه من مكة

شارك

تفوح مدينة المنستير برائحة الملح والعطور السياحية. تأتي أمواج البحر على الحجر الجيري، وتلمع الواجهات تحت شمس تصقلها الريح. في روضة آل بورقيبة، وتحت ضريح استغرقَ بناؤه 10 سنوات، يرقد الزعيم.

هناك ستجد مشهدا معماريا مركبا: قبة ذهبية ومنارتين ورخاما أبيض وأسيجة حديدية، خليطا من مدارس مغاربية وأندلسية ومشرقية من جهة، وإيطالية وفرنسية من جهة أخرى، لكنه في المحصلة لا يغادر روح الفن التونسي.

سياح يلتقطون الصور، عامل ينظف الدرابزين النحاسي بعناية صائغ، هنا في هذا الضريح لا يعود مؤسس الجمهورية التونسية خطيبا أو إستراتيجيا أو "المجاهد الأكبر" الذي كان أحبَّ ألقابه إليه، بل يصبح سؤالا مفتوحا عن معنى الدولة والحداثة والتقاليد.

في الداخل، تَعرِض خزائن بلورية بعضا من ملابسه التي حفظها التونسيون: جبة وبلغة، وبدلة فرنسية وطربوش. على اللوحات المرمرية المثبتة أسفل المنارتين أبياتٌ محفورة تكشف عشق بورقيبة للمدائح التي صيغت فيه. ومن بين المنقوشات قصيدة بعنوان "تحية المجاهد الأكبر في عيد ميلاد الجيش الوطني" لجلال الدين النقاش، نُظمت في يونيو/حزيران 1956، مطلعها:

حيِّ يا شعبُ سيد القُوّادِ وافتخر بالحبيب رمز الجهاد

وُلد عام 1903 صبيًّا من المنستير، تعلم الكلام كما كان القدماء يتعلمون القتال. وحين توفي عام 2000 كان قد بنى دولة لكن فرّغها من الداخل، سلّح النساء بثورة قانونية ونزع سلاح السياسة بدولة الحزب الواحد، فاوض المحتل على الاستقلال قبل أن يحارب المعارضة حتى صارت همسا. إنه في آنٍ واحد مؤسس تونس الحديثة ودرسُها الأول الذي لم ينتهِ بعد عن المحرر المستبد!

مصدر الصورة الحبيب بورقيبة صبيًا في الرابعة عشرة (ويكيبيديا)

أسّس بورقيبة لنفسه صورة مركّبة: فيها من شارل ديغول محرّر فرنسا (المحرّر)، ومن جوزيبي غاريبالدي موحِّد إيطاليا (الموحد)، ومن أوتو فون بسمارك رجل القانون والإدارة وباني ألمانيا الحديثة (الباني)، وليس فيها أثرٌ من حنبعل المحارب نقيضِ المسالم، وإنْ استعار أحيانا من التاريخ شخصية يوغرطة المقاتل المفاوض، الذي عاش في الجزائر الحالية وقاد واحدة من أعظم الحروب ضد الدولة الرومانية قبل أن يُهزم. كان بورقيبة يقول: "أنا يوغرطة الذي انتصر"، لكن هل انتصر بورقيبة حقا؟ لقد شيّد دولة عربية بنصّ الدستور، تتكلّم الفرنسيةَ حول مائدة الطعام، وتتنفّسها في الإدارة والمدرسة.

إعلان

في هذه الصورة المركبة التي صاغها عن نفسه، يغيب أيُّ مُكوّنٍ رمزيٍّ من التاريخ الإسلامي والعربي: لا عقبة بن نافع الفاتح، ولا طارق بن زياد الغازي، ولا القاضي سحنون العادل، وحتى نبينا محمد ﷺ فقد تعامل معه باعتباره "راعيًا في الصحراء يُعيد رواية حكايات بيئته"، وهو قول استشراقي فرنسي جاهل راج زمنَ دراسته في باريس.

من الصورة ونقيضها، نفهم أنه لم يكن مَعنِيًّا بتقديم ذاته للشرق العربي، بل كان يبحث عن تزكية من الغرب؛ فتصرف كأن الشرق العربي غيرُ موجودٍ أو غيرُ مهمٍّ في ترتيب علاقاته الشخصية والدولية، مردِّدا لازمةً صارت دليلا عليه: "باريس أقرب إلينا من مكة ".

أمّا الداخل، فقد صاغ له سردية واحدة للعمل الوطني زمن الاستعمار ومعركة التحرير: تبدأ بأن بدايات الكفاح كانت نخبوية حضرية محافظة معزولة عن الشعب؛ فالقادةُ الأوائل غير مؤهّلين، ويجب الحلول محلّهم. ثم أضاف أن العاصمة غير ملائمة لقيادة الحركة، فنقل الثقل السياسي إلى الساحل، مسقط رأسه، ففتح ملعبا خاصا بلا شريك. هكذا كرّس تقسيم المجال السياسي للدولة بدلا من توحيده: منطقةٌ تقود بدل أخرى، وبقيت الدواخل تابعا أبديا لمركز سلطة متحرّك.

في السردية الرسمية، وهي مقررٌ مدرسي منذ الابتدائية، فشل كلّ عمل سياسي لم يخرج من رأس الزعيم، وكلُّ شخصيةٍ تُذكر تظلُّ ثانويةً يُشاد بجهدها اليسير ويُطلق اسمها على شارع لاحقا. أمّا الأسماء التي لم يتعايش معها، فمُحيت من الكتب لأن ذكرها يطعن في صدقية السردية.

وحين بلغ الحكم، رسّخ السردية بوسائل الدولة (التعليم والإعلام)، وأضاف فصل "الباني العظيم": الرجل الذي يمتلك ذكاءً استباقيا يعرف ما سيكون قبل أن يكون، فيُسارع إلى تنظيم النسل وضبط سوق الشغل، جامعا بين تحرير سياسي وتحرير اجتماعي.

تفوّقَ بورقيبة ثقافيا على كثير من ساسة المشرق، وساعده جهلُ بعض النخب العسكرية في الدول العربية على الظهور بمظهر الرئيس المدني المثقف في مقابل العسكري المتجبّر (شبه الأُمي).

وكان وجود نموذج معمر القذافي في ليبيا جارا مُفيدا لتكبير صورته وتحقير "العسكري العربي الغبي"، وقد أتقنت ماكينةُ الدعاية استثمار الصورة السالبة لجاره لتمجيد "العقلانية البورقيبية"، ولم يُخيّب القذافي ظنّ بورقيبة، فزوّد ماكينته الدعائية بمادة دسمة.

امتلك بورقيبة العبارة: خطيبٌ مفوّه بلسان يتأرجح بين الفصحى ولهجة حضرية، يُشعر سامعه بالقرب ووضوح الفكرة، ويقدّم حياته الخاصة بلا "بهرج إمبراطوري"، فترسّخت صورة "حبيب الشعب"، ومنع ظهور أيّ شخصيةٍ تُزاحمه.

مصدر الصورة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي (يسار) والرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة (غيتي)

وأسعفته قدرته، فخصومه عجزوا عن التحول إلى زعماء يضاهونه. لقد كانت خلطته خاصة: رجل وسيم، وعينان زرقاوان، يمتلك ذلاقة لسان، وذكاءً وقّادًا في المناورة، يعيش في تواضع من غير ابتذال، ويفتح للناس نوافذ مودةٍ عبر خروجات شعبية محسوبة؛ صورة لم يبلغها مسؤولٌ عربي من طبقته وجيله، حتى فَتحت له أبوابَ البيت الأبيض وزيارةَ جون كينيدي بجولة مكشوفة أمام الجماهير، قلّ أن حظي بها غيره. لكن ماذا كان خلف الصورة؟

ممر إلى عقل الرجل

قضى الحبيب بورقيبة إلى خالقه منذ 25 عاما، وغابت رئاسته عن المسرح منذ 38 عاما، لكن الكلام عنه لم ينقضِ، ولن ينقضي سريعا.

إعلان

فما زال يثير من الأقوال ما يتأرجح بين تقديس مطلق وشيطنة مطلقة، وبين الحدّين تضيع قراءات كثيرة لا تدري أين تُسكِن الرجل: أهو رجل دولة مؤسسٌ ذو مشروع واضح، أم سياسيٌّ مستبد ضيّق النفس؟

نعود إليه اليوم لنعيد بناء صورته بعد ربع قرن من رحيله من الحياة، ونصفِ قرن على خروجه الفعليّ من السلطة؛ إلى ذلك النسيان الذي رتّبه بعضُ مَن ربّاهم على السياسة، فجعل منهم قادة من بعده، فإذا بهم ينكرون فضله، ويُبعدونه إلى قريته الأولى كأن لم يكن يوما ملء السمع والبصر.

يوقظ بورقيبة دائما نقاش الدولة والسياسة في اللحظات المفصلية من تاريخ تونس وتاريخ العرب الحديث، مما يستدعي حاجة مُلحّة إلى قراءة أوسع لفكره ودوره ومساراته. وهذه محاولة متواضعة في هذا الباب.

وللقارئ المتخصص نقول: لقد تراكمت ببليوغرافيا واسعة حول الرجل، خاصةً بعدما أتاح الربيع العربي كسر حواجز المنع التي فرضها خلفاؤه، وهم جهتان: جهة مُقدِّسة حظرت الكتابة صيانةً لشخص ومشروع وُضِعا فوق النقد، وجِهةٌ مُهينة امتنعت حتى عن ذكر اسمه.

والجهتان من أبنائه السياسيين الذين بلغ بهم الخوف والإنكار حدَّ التخلّف عن جنازته رهبةً من خليفته بن علي، في مشهد فاضح لطبيعة الرجال الذين ربّاهم على منهجه السياسي والفكري، الذين حوّلوا ضريحه بعد انقضاء أسباب الخوف إلى مزارٍ يُخفي خذلانهم له في زمن احتاج فيه إلى قليل من رعاية طبية وبعض المواساة، بعد خروجه من السلطة.

قدّم بورقيبة نفسَه لتونس وللعرب وللعالم رجلا مثقفا لامعا وعمليا براغماتيا، ميّالا إلى السلام بين الشعوب، يُقدّم التفاوض على الصراع، ويزدري الحكم العسكري ويحتقر العسكريتاريا، العربيةَ منها خصوصا.

مصدر الصورة ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث، وزوجها دوق إدنبرة الأمير فيليب مع الحبيب بورقيبة (يمين) في زيارة لتونس عام 1980 (غيتي)

سعى كذلك إلى بناء فَرادته، ساترا شعورا داخليا بالتفوق على مَن حوله، وبنى بسرعةٍ آلةَ دعاية فعّالة حوّلت نرجسيته إلى زعامة أممية تنافس زعماء العالم. غير أنّ تلك الآلة لم تدرك أنّ أصداءها لم تتجاوز حدود القُطر التونسي، فالعرب من حوله ردّوا احتقاره لهم بمثله، وبقيت زعامته محليّةً لا صدى لها بعيدا عن تونس.

في سعيه إلى صناعة فرادته، اندفع بورقيبة إلى مشروع تحديث اجتماعي يستند قبل كل شيء إلى الخيال القانوني. فالمحامي الرئيس تولّى قيادة الدولة من خلف المكتب، وعبر النصوص والمراسيم، وبجيشٍ من رجال القانون، خُيِّل إليه أن التعليمات ما إن تُسنّ وتُعمَّم عبر الأجهزة، ستنفُذ تلقائيا إلى عقول الناس وقلوبهم.

هكذا أرسى "دولة التعليمات" التي واصلت حياتها بعده. وكان بوسعه -وهو الذي يَأْلف الفرنسية ويَأْنس بها- أن يلتقط مبكرا خلاصاتِ ميشال كروزييه، خاصة كتابه الصادر عام 1954، وعنوانه شديد الدلالة "المجتمعات لا تُغيّر بالمراسيم" (On ne change pas la société par décret).

مصدر الصورة الحبيب بورقيبة في سنته الأولى حينما كان طالبًا في فرنسا (ويكيبيديا)

والانتباه إلى هذا "العقل الهندسي القانوني" يفسّر ملامح سياساته الاقتصادية والاجتماعية، كما يفسّر مشروعه الثقافي والتربوي، وطبيعة الدولة التي بناها، والعقل السياسي الجمعي الذي قاد به الأجهزة وغرسه في الإدارة ونخبها الإدارية والسياسية، بل حتى في عقول بعض معارضيه الذين صاروا نسخا منه إلا قليلا نادرا.

وتلك بصمة عميقة لم ينقطع أثرُها بعده، وهي إنجازُه الأكبر الذي لا ينافسه فيه أحد، أمّا ادّعاءاتُ التميّز والاستثنائية والتميز الفكري، فقد عشنا حتى رأينا خواءها.

إن جوهر هندسة المجتمع بالقانون تفكير شمولي غير ديمقراطي، ومن طبيعة هذا التفكير أنه لا يصبر على التعدّد ولا يتسامح مع الاختلاف، وهذان هما فطرة كل مجتمع حيّ. لذلك قدّم الرجل وموظفوه -ولا أقول "رجال دولته"- الاشتغالَ بالقانون على علم الاجتماع، وفرضوا رؤيتهم في كل مجالات تدخّل الدولة: الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين.

إعلان

وانتهى المشروع إلى جهاز ردعٍ فعّال ساق الناس إلى فكرة الزعيم من غير اعتراض علني، لكنْ بعقولٍ تُضمر الألم والخيبة؛ فلم يبكِ لسقوطه أحد. أمّا نوستالجيا الزعيم التي عادت بعد الثورة، فتشهد على عجز الجهاز البيروقراطي عن الخروج من عباءة مديره أكثر مما تشهد على فرادة مشروعه.

المهندس السياسي الذي لا يحب الأفكار

لم يختلف الحاكم المدني المثقف الوسيم في أساليب الحكم غير الديمقراطية عن العسكري الانقلابي في الشرق، ولم تُفضِ ثقافته الخاصة إلى تشييد دولة ديمقراطية طالما رفضها العسكر حيثما حكموا. كان مدنيا في المظهر، لكنه حكمَ بعقل عسكري يعوض الدبابة بالنص القانوني، وتحولت ثقافته اللغوية إلى ستار يُموِّه أسلوبَ حكمٍ متجبّر.

قبل استيلائه على الدولة الوليدة، عرفت تونس خلال الاحتلال، خاصة في النصف الأول من القرن 20، حالةَ تعدّدٍ فكري وسياسي: تيارٌ إسلامي عمّقته "الزيتونة" وطلبتُها، يدور حول أفكار النهضة والإصلاح كما عبّر عنها مبكّرا الحزبُ الوطني الدستوري بقيادة عبد العزيز الثعالبي، وما بقي من أثر لزيارة محمد عبده ومجادلاته، وتيارٌ يساري نشر مبادئه الحزب الشيوعي التونسي (1920) الذي نشأ فرعا للحزب الشيوعي الفرنسي، عارض الاستقلال ثم بدّل مواقفه وشارك بقدرٍ في معركة التحرير بعد اغتيال فرحات حشاد (1953).

كما كانت تتخمّر أفكار يسارية اجتماعية في النقابات خارج حزب بورقيبة. وبدأ تيارٌ عروبي غير قومي يتأثر بالنكبة ثم بخطاب جمال عبد الناصر ويروّج لمعركة تحرير عربية شاملة، ووجد في صالح بن يوسف زعيما منافسا، بينما ظلّ المكوّن الرئيسي حزبَ بورقيبة متحالفا مع نقابة أنكرت آنذاك دمَ مؤسّسها.

لكن الزعيم، ووفق فكرته التوحيدية بالقانون والأجهزة الوليدة، محا هذه المكوّنات، وأسس "الجبهة القومية" التي كانت في عمقها حزبَ الرئيس، ومنظماتٍ مهنية وشبابية مواليةً له، فمنعَ التعدد من التطور إلى حالة ديمقراطية، إذ "لا تحتمل معركة البناء تعددا سياسيا"، بل يكفي الدخول تحت مظلته حتى "تنضج" شروط الديمقراطية، وهي شروطٌ لم تنضج حتى قضى الرجلُ نحبه.

سارت آلة الدعاية سريعا بفكرة تبسيطية سهلة على الناس: التونسيون شعبٌ قليل العدد، شديد التجانس مذهبيا وفكريا وروحيا، وكلُّ خلافٍ يُضعفهم. ثم إننا "نحن العرب لسنا في مستوى الديمقراطية"، فالأجدر أن نقف صفًّا واحدا خلف زعيمٍ مُلهَم "يحب الوطن والشعب"، وكلُّ معارضةٍ لمشروعه إضعافٌ للبلاد وتأخير لنهضتها.

مصدر الصورة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي (الجزيرة)

ساعد دخول الإذاعة كل بيت في ترسيخ هذه السردية وسط أُمّيةٍ شعبية خارجة من استعمار غاشم، وجوعى حفاة يعتمدون على المعونات، بينما بدا خطاب الديمقراطية غريبا على الآذان. أما مَن كان قادرا على المعارضة، فلم يبلور أفكارا تصمد أمام ماكينة الزعيم، ولم تبرز شخصية كاريزمية تعادله، فدُفن ذلك التعدد تحت الغبار الكثيف الذي أثارته حركة التوحيد والضم البورقيبي. غير أن الأفكار لم تمت؛ ظلت تعتمل تحت الرماد حتى خرجت معارضة جديدة بعد عقد من الاستقلال.

وهنا برز استخدام تهم "الخيانة والغدر"، وهي التهم الأقرب إلى أجهزة دُرِّبت على المنع لا على الفهم والقبول. بدأت "المجازر السياسية"، واستكملت مجزرة اليوسفيين (حملة قمع عنيفة قام بها نظام بورقيبة ضد أنصار خصمه السياسي صالح بن يوسف)، وبقيت آثار أفكارهم حية بعدهم.

وبالتالي لا يختلف مشروع الزعيم هنا عن مشاريع القادة العرب الذين أجبروا شعوبهم بالدبابة على الخضوع، وألغوا كل احتمال تعددٍ يفضي إلى الديمقراطية: كما حصل في مصر الناصرية التي ذابت فيها حالة التعدد الديمقراطي في الاتحاد الاشتراكي و"مشروع الزعيم الأوحد"، وفي سوريا البعث التي قمعت تعددَها، وفي عراق ما بعد الملكية، وليبيا القذافي لاحقا.

تكشف المقارنة -وقد توفرت شروطها الموضوعية- غيابَ ميزة نوعية لنظام بورقيبة وشخصه عن الأنظمة العسكرية التي طعنَ في شرعيتها. كان "دكتاتورا بملابس مدنية"، يحتقر الجيوش ويوظفها في القمع. ظل الجيش التونسي خارج المشهد السياسي، لكنه كان "تحت الطلب" لحماية النظام من الاحتجاج الشعبي.

المهندس الاقتصادي

لم تكن لدى "المهندس السياسي" خطة اقتصادية تنتشل البلد من الفقر والتبعية، لذلك يقبل بعض أنصاره اليوم القول إنه "لم يكن رجل اقتصاد"، لكنهم لا يدفعون النقد إلى مداه، فالرجل لم يُنجز ما يُميزه عن نظرائه في بلدان شبيهة.

إعلان

وبينما انشغل بورقيبة بصناعة صورته، ترك لوزيره أحمد بن صالح (وهو من منطقته) قيادةَ تجربةٍ أقربَ إلى نموذج "السوفيات" خاصة في الزراعة، معتمدا على النقابة زاعما بناء دولة اجتماعية لفك التبعية، على غرار مصر الناصرية وجزائر بومدين وسوريا البعث.

كانت نظريات "فك التبعية" عبر التصنيع الثقيل مهيمنة على الاقتصاد السياسي بعد الحرب العالمية الثانية ، وقد لا يبدو أن الزعيم اطلع عليها كما اطلع وزيره الاستثنائي، فلم يتبيّن عواقبَها حتى ظهرت عيوبها في الأرياف المفقرة.

لم تخلُ المرحلة من مكاسب اقتصادية واجتماعية، حيث تأسست شركات عمومية خدمية مباشرة كالكهرباء والماء. ومن الإنصاف نسبة كثير من هذه المكاسب إلى مهندسها الحقيقي أحمد بن صالح. وفي سياق هذه المكاسب العمومية لبن صالح، دخل الزعيم في اضطراب صحي، وإن لم يشغله ذلك عن استكمال بناء صورته الاستثنائية.

كانت "أسس الصناعة الثقيلة" في حقيقتها ترتكز على الفوسفات الموجه للتصدير، وتحتاج إلى أسواق واسعة لتتطور، لكن الرجل الذي قدَّم زعامته على "الأمة العربية" لم ينفتح على أسواق جواره، بل استهان بأسواق الجزائر ومصر، فخنق التجربة دون أن ينتبه إلى إمكان وَصلِ تجربته بسوق عربية مكملة. (وكان نموذج الاتحاد الأوروبي يُبنى اقتصاديا قريبا منه فلم يقلده أو يستقي منه).

لم يتخيل بورقيبة سياسة زراعية تناسب مجتمعا ريفيا يخرج من بداوة رعوية وتشتت مفقر، فترك لوزيره قيادة تجربة "التعاضد" التي هدفت إلى توحيد الملكيات الزراعية الفردية داخل شركات تعاونية زراعية بغرض تثبيت السكان وفرض التمدن بالقوة وبالذهنية ذاتها.

بلغ الأمر قطعان الماشية العزيزة على بدو رحّل منذ قرون لم يفهموا فلسفة الزعيم إذ لم يقرؤوا لينين، ففشلت التجربة فشلا ذريعا، واعترضت عليها أساسا حاضنة الزعيم الجهوية (الساحل والزيتون)، في حين تخلى بدو الدواخل عن قطعانهم خشية ضمها، فكاد القطيع يندثر واحتاج إلى إعادة تكوين من الصفر.

الحبيب بورقيبة (يسار) مع الرئيس الفرنسي شارل ديغول بالقرب من باريس في فبراير/شباط 1961 (الفرنسية)

أنتجت تلك السياسات تفقيرا للأرياف التونسية ودفعا لموجات متتالية من النزوح إلى المدن، فتوسعت أحزمةُ الفقر، وبدأ الخلل الديموغرافي يتسع ويثقلُ أمره على سياسيين عاجزين اقتصاديا عن استيعاب العمالة الوافدة. فكانت الأجهزة تُنظّم إخلاءاتٍ قسرية لإعادة النازحين إلى أريافهم في حلول أمنية لا تعالج المشكلة.

وحين تفاقمت أزماتُ النموذج التنموي، ضُحّي بالوزير بن صالح وخطته واتجه الزعيم يمينا نحو إصلاحات ليبرالية قادها الهادي نويرة، رجلُ القانون، عقدا كاملا.

وصار ذلك التغيير والتدوير "سيرةً" مكررة لديه: كلما "انزنق" وطفحت المشكلات، مسح يديه في جبة وزيره، وأنقذ "عبقريته" بإلقاء الكلفة والتبعة عليه، فيما تُحوِّل الدعايةُ الصاخبة فشلَ السياسات إلى "نصرٍ" للزعيم المنقذ الذي تدخل في الوقت المناسب، ثم توجه جرعات من الشماتة بحق الوزير الضائع بين المحاكم والسجون والمنافي.

لم تكن الخطة الليبرالية أيضا من خطط بورقيبة ولا أفكاره، فقد دخلت مصرُ في الوقت ذاته عصرَ انفتاح السادات، التي تجاوزت "الاشتراكيةَ العربية". وكان الزمن آنذاك يشهد تحوّلا عالميا، فقد انتهت تجارب "العالم الثالث" الاشتراكية إلى انتهاج ليبرالية تقودها مؤسساتُ الإقراض الدولية. تحدث السادات بالانفتاح، وتحدثت تونس بالتفتح جذر لغوي واحد لسياسة واحدة بأجهزة دعاية تتقلد بعضها بلا إبداع.

في هذه المرحلة ركّزت تونس على تطوير صناعة السياحة وعلى إقامة صناعات خفيفة في النسيج خاصة، وفّرت تشغيلا مكثّفا في مرحلة أولى، وحسّنت دخولَ طبقة وسطى ناشئة، مع ترضياتٍ اجتماعية للنخب مثل توفير السكن المدعوم، وتسهيل الحصول على مقاسم بناء مهيأة، تحولت لاحقا إلى أحياء النخبة الحداثية.

يمكن القول إن الهندسة الاجتماعية البورقيبية اهتمت بترضية الطبقة الصناعية الجديدة، ووُجِّهت التغييرات الاجتماعية وثمراتها الناتجة لصالحها لأنها نمّت موارد الدولة من الضرائب، ليبقى مَن لا يدفع الضريبة خارجَ كلّ ترضية، حيث ظلّ القطاعُ الفلاحيُّ غيرَ المهيكل خارجَ التغطية الاجتماعية حتى أوائل الثمانينيات.

أيضا تميّزت تلك المرحلةُ بانحيازٍ جهويٍّ صارخٍ في توزيع الخريطة الصناعية لمصلحة "منطقة الزعيم"، مما أدى إلى تصاعد مشاعر الغبن الاجتماعي، ساعد ذلك فريق من اليسار الطلابي على البحث عن إجابة ثورية في أدبيات الزعيم الصيني "ماو"، وقد انتشرت أفكارهم في الساحة الطلابية التونسية لكنها لم تبلغ الفلاحين في الأرياف.

وسرعان ما انتهت محاولةُ "فكّ التبعية" ومرحلة التنمية المستقلة، فقد تعثرت التجربة، وعاد البلدُ تابعا لأسواق أوروبا مع بعض مكاسب في صناعة النسيج والسياحة الرخيصة، إضافة إلى ثمرات اجتماعية جيدة، لكنها كرّست حالة التخلي عن الأرياف، فوسّعت الشرخَ بين مدن النزوح والعمالة الرخيصة وبين ريفٍ ينتظر الغيث ولا يلوح له إلا السراب. كانت الدعايةُ سعيدةً بأرقام "التمدّن" كأن سُكنى المدن غايةٌ بذاتها.

هذه الهندسة الاقتصادية بمرحلتَيها جعلت "الريفية" وصما ثقافيا، ولم يفلح أحدٌ بعد في تعديل الصورة لصالح الفلاحين الهامشيين لاقتصاد خدمي مديني. ومع ذلك تجري الآن "ثورة زراعية" صامتة فوضوية مثابِرة، خلقت ثرواتٍ في الزيتون والتمور والأشجار المثمرة، ورغم الإدارة التي تحاصرها عبر التحكم في المياه، فإنها لم تفلح في تحجيمها، وهو أمرٌ تجاوز مخيال الزعيم المعزول ومخيالَ جهازه الباقي الذي عجز عن ابتكار نموذجٍ خلّاق.

يُهمّنا التأكيد بعد كل هذا السرد أن نقول إن "المنوال التونسي" طابق تجاربَ مصر والمغرب والأردن؛ وهي بلدانٌ بلا ريعٍ نفطيّ، ولم يكن غريبا أن تتلازم ردات الفعل الشعبية داخلها، حيث انفجرت الاحتجاجات الاجتماعية منذ السبعينيات في تلك البلدان الفقيرة ومنها تونس، بما ينزع عن سياسة "المهندس الاقتصادي" كلَّ استثنائية.

لم تخدم الأرقام الاقتصادية والاجتماعية الزعيم، بل أدانته: بطالةٌ مرتفعة، نزوحٌ لا يتوقف، تفقيرُ أرياف، دخولُ طبقةٍ وسطى مجمّدة. ختمتْ تلك المؤشراتُ نهايتَه التنموية بقبول برنامج "الإصلاح الهيكلي" (1986) على يد وزيره الأول رشيد صفر (ابن الساحل أيضا).

وفي نهاية المطاف قَبِلَ الزعيمُ المريضُ المتمسكُ بالسلطة إملاءاتِ البنك الدولي، وهو البرنامج ذاته الذي فُرض على مصر والمغرب والأردن في أزمنة متقاربة.

ولأنه غيرُ مقبولٍ شعبيا، احتاج إلى "دكتاتور غاشم" لتنفيذه؛ فانتهى الأمر بإقصاء الزعيم (بانقلاب طبي مهين) وتحميلِه الفشل، ثم إعادة إنتاجه كما أعاد مبارك إنتاجَ السادات. خرج بورقيبة من الباب الصغير للتنمية، فيما لحس أنصارُه المنحازون للقائد الجديد دعاياتِ "الاستثنائية" وتعامَوا عن خاتمته الوبيلة.

المهندس الاجتماعي: العُلوُّ بالنصّ القانوني

قاد بورقيبة منهج التغيير الفوقيّ بالنصّ القانوني الذي مارسه لإعادة هندسة الأسرة التونسية. فقد انطلق من مقدمة تبسيطية: الأسرة الممتدة هي بؤرة التخلف التاريخي والعائق الأول أمام "التحديث"، لذا يجب تفكيكُها بسرعة.

والحقيقة المتجاهلة أن هذا التمدد الأسري يعبر في عمقه عن حاجة وضرورة اقتصادية ريفية رعوية، لم يقدرها الزعيم الذي قام بتعديل القانون (خاصة منع تعدد الزوجات)، وقد رافق منعَ تعدد الزواج هندسةُ للسيطرة على النمو السكاني، ظلل كل ذلك وعود براقة تربط حركة تنظيم النسل بالتعليم الجيّد، والتشغيل الكامل.

الحبيب بورقيبة في نهاية العشرينات بعد عودته إلى تونس من فرنسا (ويكيبيديا)

ولتمرير هذه الفكرة، احتاج إلى أيديولوجيين مهنيين شوّهوا صورة المجتمع التقليدي بوصفه مستنقعا لاضطهاد المرأة والطفولة لا يُنتج إلا التخلف والمرض والجهل. وقدمت بعض الروايات المدرسية صورًا شديدة البشاعة، ومغرقة في المبالغة، عن ممارسات مثل تعدد الزوجات للتنفير من صورة المجتمع الذي يقبل بهذه الممارسات.

ومع تغيّر القاعدة الاجتماعية للتنمية، انهار الاقتصاد الريفي لصالح اقتصاد صناعي وخدماتي متمركز في المدن. فتخلّت الأجيالُ الجديدة مُكرهةً عن الآباء وروابط الأسرة الممتدة. والحق أنه لولا الانهيار التدريجي للاقتصاد الزراعي مقابل نمو القطاع الصناعي، ما وقعت التغيرات الاجتماعية التي وصلت إليها تونس.

وفشل التنمية وحده كان يكفي لتحجيم التعدد دون الحاجة إلى مانع قانوني. فقد غاب عن "المهندس الاجتماعي" أن التغيير يجب أن يحدث ذاتيا استجابة، لا أن يُدفع المجتمع نحوه قسرا بنص تشريعي، فالناس يرفضون العسف القانوني، وإنْ خضعوا له مُكرهين.

وقد كانت تونس تمضي في تضييق التعدد بسبب تراجع القدرة المادية، وليس بسبب القيد المانع، لأن العجز الاقتصادي وعدم توفر المسكن الواسع أو المساكن المتعددة يعسّر بشكل ما من أمر التعدد.

لذلك انتشرت في الأوساط الميسورة ترتيبات تعددية متخفية، تارة بصيغ عرفية ملتوية، وتارة خارج كل إطار قانوني، بينما تلوذ الإحصاءات الرسمية بالصمت، وقد غدا إخفاء الظاهرة جزءا من أيديولوجيا الدولة. والحقيقة أن المجتمعات لا تتغير بقانونٍ يُهندس الحياة، وتلك حقيقةٌ تهدم صورة الزعيم عند أنصاره. وقد جرى الأمرُ نفسه في التعليم.

لكن رغم ذلك ظلّت الدعايةُ تقدّم قوانين المنع باعتبارها فتحا تحديثيا. وهنا تتبدى مفاتيح مشروع الزعيم: نخب بورقيبية تبنَّت "التحديث" على علّاته، ومنعت نقدا ينسب التحولات إلى عوامل اجتماعية مادية، فحالت دون أي بحث جاد في أثر وجدوى "التغيير بالقسر القانوني".

وقد ذكرت في روايتي "تفاصيل صغيرة" (2010) ملاحظة طويلة النفس: إن المسكن الضيق الذي شيَّدته الشركة العقارية العمومية ومكَّنت منه الطبقة الوسطى، بيت لا يتسع غالبا لأكثر من زوجة وطفلين، كان أشد أثرا في الحد من التعدد من بنود مجلة الأحوال الشخصية ذاتها.

أما "فرحة الحياة" كما رسمها خطاب الهندسة الاجتماعية عند الزعيم في شكل أسرة نووية بديلة عن الممتدة: زوجان وطفلان، بيت وسيارة، تعليم جيد وصحة موفورة، فقد تحقق منها الكثير بقسر القانون، ولكن على قاعدة من عدم الرضا عبّر عنها البعض بعبارة "الإخصاء الرسمي"، والذين حققوا هذا الحلم في صورته المدرسية كانوا في معظمهم موظفي الدولة بمختلف قطاعاتها؛ فعلوا ذلك على هيئة استسلام لقدر غاشم، واحتفظوا بأمانيهم السرية التي لا تخرج إلا في جلسات سرية آمنة وبعد التأكد من "سلامة الجو"، قبل أن يختتموا الهمس بلعنة موجزة: "لقد أخصانا الزعيم".

المدرسة.. والهندسة بالمدرسة واللغة

يعتز التونسيون بتاريخهم في التعليم، ويفتخرون في ساحات السجال العربي التي تؤججها أحيانا مباريات كرة القدم بأنهم أصحاب جامعة الزيتونة، ويزعمون أنهم أسسوا القرويين في المغرب والأزهر في مصر، وهو زعم له شواهد، لكنه سابق بقرون على زمن الزعيم.

وفي تراث البلاد شبكة واسعة من المتعلمين ومراكز التعليم المرتبطة بالاستقرار الحضري وواحات الجنوب، وقد تعاظم الحماس للمعرفة وللتعليم عامة تحت تأثير الاحتلال الفرنسي حين أدرك الناس أن من أسباب الهزيمة فقدان أدوات القوة وفي مقدمتها التعليم.

لا تتوافر أرقام دقيقة عن أعداد المتعلمين قبل الاحتلال وأثناءه، غير أن للبلد جهازا شرعيا قضائيا متعلما، وتقاليد راسخة في الفرائض وتحديد الملكيات وتنظيم الأسواق والحِرف، وظهر أمناءُ الصنائع منذ زمن بعيد، وكانوا أهل معرفة، وكانت الزيتونة عنوان هوية وفخر.

منذ لحظته الأولى في الحكم، اتجه "المهندس الوضعي" إلى الاستحواذ على المدرسة ووضعها في خدمة مشروعه. يمكن القول إنه بنى دولته على مدرسة موحّدة بمقرر واحد، فسارع -على خلاف المتوقع- إلى توحيد مسالك التعليم المتعددة في تعليم مركزي القرار، ومنع التعليم الزيتوني.

كان من أهم نتائج مدرسة بورقيبة أن التونسيين في معظمهم صاروا يتواصلون مع العالم بغير لغتهم، حتى ضمن معارضتهم للسلطة (الفرنسية)

كما وضع مقررات حديثة على قواعد وضعية، وخفّض نصيب المقرر الديني حتى حصره في المرحلة الابتدائية. وللإجهاز على مؤسسة الزيتونة، وضعت الدولة يدها على الأحباس (الأوقاف) الزيتونية وأحباس الحرم، فقطعت التمويل الخاص والأهلي للتعليم، ثم همّشت خرّيجي ما قبل الاستقلال عبر إدارة تتكلم الفرنسية حيث لا يجد الزيتوني موطئ قدم إلا في الهامش.

وفي عقد واحد دخلت نخبة الزيتونة مرحلة النسيان وحلّت محلها نخبة حديثة، إدارية بالأساس، تتخاطب بالفرنسية كتابة ونطقا (باسم تونسة الإدارة). وكانت تلك "ضربة معلم" سريعة ومؤثرة في صناعة نخبة الدولة الجديدة، حتى صار التراسل بالعربية وصمة عجز وتخلّف.

ولم تكن النخبة الزيتونية القديمة بريئة من العيوب التي سهّلت إنفاذ البرنامج، فالتعليم الزيتوني ظل محصورا في نخب حضرية حوّلت الزيتونة إلى أصل اجتماعي محمي، ومنعت "الآفاقيين" أو الوافدين من خارج المدن من التقدم إلى المراتب العليا (نموذج الخضر حسين الآفاقي الذي هرب إلى الأزهر فوجد مشيخة كاملة).

كما أن معركة تحديث التعليم الزيتوني التي بدأت مع أول تماسٍّ مع الاستعمار لم تُثمر تطويرا فعّالا بسبب محافظة تلك النخبة التي كانت تميل إلى الجمود وتُعادي الإصلاح بمختلف لغاته، فكان تحييدها ميسورا.

احتاجت الدولة الحديثة إلى لغة حيّة للتخاطب مع العالم، بينما حصر الزيتونيون أنفسهم في العربية، فوجدت الإدارة الجديدة حجة إضافية لتجاوز العربية ومستعمليها. وساعد المحتل السابق على ذلك بوضع البرامج وتحديد المقررات، وفرض الفرنسية عمليا لغة أولى تُخصَّص لها ساعاتٌ أكثر من العربية. وأهم نتائج "مدرسة الزعيم" أن الكثير من التونسيين تواصلوا مع العالم بغير لغتهم.

وافق هذا هوًى في عقل الزعيم المهندس، فترسّخ في الأذهان أن الفرنسية مفتاح العالم، وأن العربية عائق للنجاح. وأصبحت نخبة ما بعد الاستقلال تفكر بالفرنسية، وإن كتب بعضُها بالعربية في مراحل لاحقة، وصار حديث التونسيين بالفرنسية في المقاهي والأسواق أمرا مألوفا، حتى إذا تكلّم قريبٌ منهم بالعربية نُظر إليه كحالة تحتاج إلى علاج. وتحولت الفرنسية إلى نهج كامل برمج به الزعيم المدرسة والمجتمع، ولم ينجُ منه إلا قلة تبدو اليوم غريبة في بلدها.

صحيح أن فئة واسعة من النخب أعادت توطين العربية في الجامعة وأخرجت مدرسين أكفاء، وأن الدولة أنفقت مالا كثيرا على تعليم العربية من الابتدائي إلى العالي، غير أن العربية لم تعد فعليا إلى موقع لغة الدولة، رغم الإقرار المتأخر في مطلع الثمانينيات بأنها لغة القضاء الوحيدة ولغة الإدارة الرسمية. وفي اللحظة التي دخلت الحواسيب الناطقة بالفرنسية إلى الإدارة، أنقذت الحوسبة اللغة الفرنسية ومنحتها عمرا جديدا في الإدارة، وكرست موقع العربية في الهامش.

وبسبب هذه الهندسة الثقافية اللغوية المغرمة بخطاب التحديث على النمط الفرنسي، يعيش بعض التونسيين ازدواجا لغويا يقطع تواصلهم مع العربي والفرنسي في آنٍ واحد. إنهم يفهمون بعضهم بعضا، لكنهم ينقطعون عمن لا يُحسن تفكيك جملة منطوقة بلغتين وأكثر، وتوشك لهجتهم المحكية أن تشبه اللغة المهجّنة التي لا يفهمها إلا أهلها.

وما لا يقوله التونسيون لأنفسهم إن قطاعا منهم منبهر بنمط الحياة الفرنسي، ويجدون الثقافة الفرنسية من اللغة إلى الإتيكيت مغرية بالتقمص والاتباع. بدأ هذا الانبهار قبل الاحتلال المباشر وترسخ خلاله، ثم عمّقته جسور الثقافة والعمل بعد الاستقلال عبر الهجرة والاستيطان المهني في فرنسا، فترسخ نمط الحياة والتفكير الفرنسي في أوساط واسعة من النخبة والمجتمع.

تقيس النخبة تخلفها بمسطرة التقدم الفرنسي، لكنها لم تأخذ عن الفرنسيين ديمقراطيتهم، بل احتفظت بأسوأ ما خلّفه الفكر الاستعماري الغربي: الشعار البغيض "العرب غير مؤهلين للديمقراطية".

هل أراد الزعيم فرنسة الشعب؟ لقد كان بورقيبة يخطب بالعربية التونسية بين الفصيح والمحكي، وكان ذلك أحد مصادر قوته، لكنه نظر إلى العربية بوصفها إطارا ثقافيا يستند إلى القرآن الذي عدّه في تصوره "مصدر تخلف العرب"، ورأى أن فصل الناس عن القرآن يبدأ بفصلهم عن العربية، وهي خطة استشراقية فرنسية مطبقة.

والنتيجة أن لغة الأمة لم تُبن؛ تراجعت العربية وتقدمت الفرنسية، ثم جاء تمرد صامت على اللغتين معا بانجذاب شعبي إلى الإنجليزية بجهد ذاتي، وهو ما يزعج فرنسا فتسعى إلى إعادة هندسة التعليم. واتضح بعد ثورة 2011 أن وزارة التربية ومقرراتها "إقطاع فرنسي" لن تفرط فيه باريس بسهولة.

صنعت مدرسة الزعيم الناطقة بالفرنسية إدارة تخاطب المواطن الأُمي بالفرنسية، فيعجز عن فهم مراسلاته إلا بمترجم. وكان عماد هذه الإدارة رجال قانون تخرّجوا في كليات تُدرّس بالفرنسية، فلم تنجح محاولات تعريب الحقوق إلا نسبيا، ولولا إلزام المحاكم بالعربية لبقيت الأحكام تصدر بالفرنسية كما في العهد الاستعماري. أراد توحيد الشعب بمدرسة واحدة، فاتخذ لها لسانا فرنسيا، فأنتج شعبا لا ينطق بلسان واحد ولا يُحسن تعريف نفسه.

لطالما ردد بورقيبة: "باريس أقرب إليّ من مكة"، لتتحول الجملة إلى نهج تفكيري لدى النخب المتخرجة في مدرسته، وتحول احتقاره للعرب ولغتهم وتراثهم الديني إلى روح فاشية سادت في أوساط نخبوية وبعض الشرائح الشعبية التي غاية أمانيها أن تلتقط لها صورة تحت برج إيفل.

ومع شيء من الإنصاف، لم تكن بلدان المشرق تقدم نموذجا لامعا لاستعمال العربية في العلوم والإدارة، فبقيت شعوب عربية كثيرة خاضعة للغة الدولة العظمى التي استعمرتها. هنا يخف وصم "الفرنسة": لقد أعاد الزعيم إنتاج استعمار ثقافي بمدرسته بلا أدنى فرق مع الأنظمة العسكرية المشرقية، في حين تُصوِّر الدعايةُ الأمر قدرا لا فكاك منه.

كشفت برامج تعليم الكبار في التسعينيات عن نسب أُمية مرتفعة داخل شرائح مولودة في الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات، خصوصا بين النساء داخل أحزمة الفقر حول العاصمة والمدن الكبرى، وهذا يعني أن "إجبارية التعليم" كانت غالبا شعارا إذاعيا ضمن معزوفات تمجيد الزعيم، وأن الفئات نفسها غادرت المدرسة أو لم تدخلها أصلا بحثا عن رزق سريع في المدن نتيجة نموذج اقتصادي لا يكترث بالأرياف.

ترجم بورقيبة ثقافته إلى مشروع تحديث سريع متعسف بالقانون على مسارات المجتمع، وكان ذلك مدخل الخطأ الأكبر. لم يختلف "التغيير بالقانون" في نتيجته عن "التغيير بالدبابة": كان يرى الشعب "غبارا" يحتاج إلى تشكيل وفق صورة مثالية لشعب متخيل، فكانت الاستجابة المترددة -رغم الإعجاب بصورته المعلقة في كل مكان- تزيد إحباطه.

لقد قام تفكيره على "حتميات" وضعية: الخروج من الفكر اللاهوتي إلى الوضعي حتمية تاريخية وثقافية، لكنه بدل انتظار نضج شروطها، استعجلها بالقانون والإدارة القوية. بُنيت القوة على ولاء جهوي فقير إلى الكفاءات، فبرز "الاستزلام" أو المحسوبية وتوزيع المواقع على قاعدة الولاء الجهوي والشخصي، واتسعت الفجوة مع الجمهور الذي صار يُساق بالقوة إلى استقبال "خروجاته الشعبية".

لعلّه أدرك ذات لحظة أنه أسير العُصْبَة والجهة، لكنه عجز عن استعادة صورة "حبيب الشعب"، وتحولت أخبار انهياره العصبي وتدهور قدراته الذهنية إلى أحاديث المعارضة، وهو الوحيد من كل ذكور تونس الذي طلّق زوجته خارج المحكمة.

ترجم بورقيبة ثقافته إلى مشروع تحديث سريع متعسف بالقانون، وكان ذلك خطأه الكبير (الصحافة التونسية)

ظن الزعيم أنه صفّى خصومه ووضع الشعب في جيبه، فإذا بالشباب اليساري الجديد -وبعضه درس في فرنسا مثله- يطعن في مشروعه ودولته وزعامته الكاريزمية. فُتحت السجون للشباب الجديد، وقبل أن يُغلَق ملف اليسار، امتلأت الساحة بـ"الإسلاميين الجدد"، لا بقايا الزيتونيين المروَّضين، بل إسلاميون بروح شرقية ينافسونه على شرعية الحديث باسم الدين، وهو ملف ظن أنه امتلكه إلى الأبد ببضع خطب على منبري عقبة والزيتونة.

انكسرت صورة الزعيم أمام مرآته، ودارت في رأسه فكرة مريرة: "هذا شعب ناكر للجميل لا يقرّ لي بالبطولة المطلقة". استيقظ "شيطان الديمقراطية" من داخل حزبه نفسه في مؤتمر الحزب بالمنستير عام 1973، ولم يُطفئه تتويجه "رئيسا مدى الحياة" بتعديل دستوري سريع على طريقة الانقلابات الشرقية عام 1974. كان ذلك الإكليل الإمبراطوري إيذانا بسقوط آخر أوهام "التميز" عن حكام يزدريهم، ويمارس فعلهم بلا وجل.

القانون ضد الثقافة، والدرس الذي لم ينتهِ

منذ ملاحظات ابن خلدون الثاقبة، ينقسم المجتمع التونسي إلى حضر وبدو، واستمر ذلك إلى دولة بورقيبة. ومع توتر العلاقة بين المدينة والبادية، توالت انتفاضات الريف.

جاء الرجل منحازا منذ البداية إلى نمط الحياة الحضرية، مستخِفًّا بغنى الثقافة البدوية وتنوعها، فكرّس عبر مؤسسات الدولة ثقافة الحضر ومحا المكوّن الثقافي البدوي العربي من الثقافة الرسمية.

أقدم الزعيم كذلك على هدم الأسوار المحيطة بالمدن وترَك أبوابها التاريخية رموزا، لكن التعايش لم يحدث، بل ذُوِّبت البداوة في نمط حضري عزيز على قلبه، بلا اعتزاز بالانتساب إلى القبيلة والنسب وتقاليد الفروسية. تلاشت البداوة تدريجيا وتحولت إلى حنين مُوجع في قصائد يكتبها شعراء يسكنون المدينة وقلوبهم معلقة بالخيام.

كان "التوحيد الثقافي" العنيف خادما جزئيا لقطاع السياحة الذي أراد له الزعيم صورة شعب "يعيش عصره"، شعب حديث لزعيم حديث. لكن الثقافة التونسية فقدت رافدا أساسيا، فهي تسير على رجل واحدة وتنتج غربة نفسية واسعة.

وقد يقول قائل: أليس في سيرة الزعيم ودولته ما يسرّ القارئين؟ ألا يبدو المقال منحازا إلى كشف العيوب؟ لو كان الرجل ترك لمَن عاصره فرصة نقد سياساته وسيرته، لوجد كاتب متأخر فجوات إيجابية يُعيد بها بناء صورة أنصف.

وللإنصاف، فقد بُنيت تونس الحديثة بجهود كثيرين لا بجهد شخص عبقري استثنائي. كان بورقيبة مؤثرا وموجِّها، لكنّ كثيرا مما فرضه انتهى إلى ما لا تحمد عقباه، ونرجسيته التي أخرست كل نقد حوله كانت سببا رئيسيا في تدمير منجزه. بعد 40 عاما من خروجه من المشهد، نرى شعبا تشكّل خارج خرائطه المسبقة.

رسّخ الرجل أسلوب "التغيير بالنص"، فصنع إدارة محافظة تخشى التغيير وتحتال عليه بالمزيد من النصوص: بيروقراطية ثقيلة فاقدة للمخيال السياسي. لم يجرؤ سياسي بعده على نقد هذا المنهج أو التخلي عنه لصالح التغيير الطبيعي، وهنا يكمن أثره غير القابل للنقض حتى اللحظة.

تغيّر التونسي وطوّر أسلوب حياته، وفكّر خارج صندوق الزعيم، تبنّى أطروحات متعددة وطالب بحريات وتنمية متوازنة توحّد المجال وتقبل التنوع الثقافي المحلي، وتنفتح على الثقافات، بما فيها العربية والإسلامية التي حُجّمت في مشروعه. إن صعود أفكار اليسار المطالب بالعدالة الاجتماعية إعلانُ فشلٍ لخططه الاقتصادية، ورواج أفكار العروبة والانتماء العربي إشارة واضحة إلى هوية البلد، وظهور الإسلاميين سياسيا دفاع عن الهوية المسلمة في وجه الفرنسة والتغريب.

وبقدر ما كانت دولة الزعيم تحارب شعبها بالنصوص والأجهزة الصلبة، كان الشارع يتطور بأساليب مضادة، ويقترح بدائل من خارج مشروعها. دلت الانتفاضات الاجتماعية المتتابعة على مسارين متوازيين لم يلتقيا على مشروع وطني جامع: شعب يتحرر، وإدارة جامدة تمتلك قوة الضبط والقمع، "مَن لم يخضع للقانون طوعا تُخضعه العصا كرها"، وهو شعار عساكر الشرق بلا رتوش.

عادت المطالب التي أقصتها دولة بورقيبة توضع على طاولة الحكم في زمن زين العابدين بن علي: الحرية، العدالة الاجتماعية، إصلاح التعليم والديمقراطية (الأناضول)

في عام 2011، انتفض الهامش المفقر انتفاضته الأكبر بعد واقعة رمزية: شرطية الدولة بالكسوة الميري تصفع مواطنا في الهامش، فينتفض الهامش وتهتز الدولة وتُخرج أسوأ ما فيها من قدرة على القنص.

أفلت الهامش وهز الأركان، عندها أعادت الدولة قراءة تاريخها، ونظرت في تراث الزعيم، فإذا بالمطالب التي أقصاها توضع على طاولة الحكم: الحرية، العدالة الاجتماعية، إصلاح التعليم، فك الارتباط عن "الفرنسة"، وكل ذلك تحت سقف الكلمة المحرَّمة في قاموسه: "الديمقراطية".

دامت جولة المراجعات عشرية كاملة، وتحقق منها الكثير، لكن دولة الزعيم الإدارية بوسائلها الصلبة التفّت على المنجز الديمقراطي ومحت ما تحقق، وأعادت فرض نظامها بالهندسة القانونية ذاتها، كأن روح الزعيم بُعثت. غير أن النسخة العائدة باهتة فقيرة، تفتقد ذكاءه و"فهلويته" وصوته ولون عينيه المحبب للمتأملين، وهي مزايا كان الزعيم غطَّى بها فقر مشروعه.

لعل كاتبا بعدنا يقول: إن استنساخ الأصل قضى عليه. فالشعوب ليست النعجة دولي.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا