منذ منتصف القرن الـ19، لعبت القوى الكبرى دورا حاسما في رسم ملامح المشرق العربي. فقد شكلت اتفاقية لندن 15 يوليو/تموز 1840 نقطة تحول محورية في تاريخ المنطقة، إذ نجحت بريطانيا وحلفاؤها في تحجيم مشروع محمد علي باشا النهضوي الذي كان يهدد موازين القوى الإقليمية والدولية.
غير أن الاتفاقية لم تقف عند حدود احتواء طموحاته فحسب، بل وضعت أسسا إستراتيجية طويلة الأمد استهدفت تفتيت المنطقة العربية، فيما برزت فلسطين في قلب هذه الرؤية باعتبارها حاجزا جغرافيا وبشريا بين مصر وبلاد الشام، وهي خطوة مبكرة مهدت لاحقا لتأسيس المشروع الصهيوني.
واليوم، وبعد مرور أكثر من 180 عاما على تلك الاتفاقية، يمكن قراءة الواقع العربي الراهن بوصفه امتدادا مباشرا للسياسات التي دشنتها القوى الاستعمارية منذ القرن الـ19.
بدأ صعود محمد علي باشا في بدايات القرن الـ19 مع نجاحه في ترسيخ سلطته على مصر وبناء دولة قوية عسكريا واقتصاديا. خلال أقل من ثلاثة عقود (1811-1840)، تمكن من توسيع نفوذه على مساحة شاسعة امتدت من هضبة الحبشة ومرتفعات اليمن جنوبا حتى ضواحي إسطنبول شمالا، بما في ذلك معظم مناطق الجزيرة العربية.
وبذلك أصبحت مصر تحت قيادته تتحكم في أهم طرق ومحطات التجارة الدولية بين الشرق والغرب، وهي الممرات ذاتها التي طالما شكلت محور صراع القوى العالمية منذ عصر الكشوف الجغرافية الكبرى.
لكن هذا الصعود السريع جعل علاقات محمد علي بالدولة العثمانية شديدة التعقيد، حيث اتسمت بالتذبذب بين التعاون والصدام، ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين رئيسيتين:
في بداية حكمه، أدرك محمد علي أن تثبيت سلطته الداخلية وتنفيذ إصلاحاته يتطلب التقارب مع السلطان العثماني، فقدم له خدمات عسكرية بارزة:
أظهرت هذه المرحلة أن التعاون بين مصر والباب العالي كان تحالفا مؤقتا فرضته الظروف، بينما ظل التباين في الأهداف حاضرا بقوة.
مع مرور الوقت، أصبح واضحا أن محمد علي يسعى إلى مشروع مستقل بعيدا عن الهيمنة العثمانية. ففي 1830، قرر مواجهة السلطان العثماني مباشرة، فأرسل ابنه إبراهيم باشا على رأس جيش قوي إلى سوريا، حيث دخل دمشق دون مقاومة. واصل إبراهيم تقدمه شمالا، محققا سلسلة انتصارات على العثمانيين حتى بلغ قونية 1833، ليصبح على مشارف إسطنبول نفسها.
أدى هذا التقدم السريع إلى استنجاد السلطان العثماني بروسيا، ما أسفر عن صلح كوتاهية عام 1833، الذي منح محمد علي سيطرة شبه كاملة على مصر، والسودان، والجزيرة العربية، وكريت، وسوريا، وفلسطين، وكيليكيا. مثل هذا الصلح ذروة قوة محمد علي ونقطة تحول فارقة في توازن القوى بالمنطقة.
أثار صعود محمد علي باشا وتوسعه السريع مخاوف القوى الأوروبية الكبرى، خاصة، بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، إذ رأت في طموحاته مشروعا لبناء إمبراطورية عربية قوية تهدد مصالحها الإستراتيجية في المشرق العربي.
في 1825، صرح محمد علي للجنرال الفرنسي بواييه بنيّته تجنيد جيش جديد للسيطرة على الشام والوصول إلى دجلة والفرات، فضلا عن السيطرة على اليمن، ومضيق باب المندب، وميناء سواكن، ورفع الأعلام المصرية في الخليج العربي.
وقد شاركه ابنه إبراهيم باشا هذا الطموح، مؤكدا أن جيوشه لن تتوقف إلا عند "حدود البلاد التي لا يتحدث أهلها العربية"، في تعبير واضح عن حلم الوحدة العربية.
في تقرير للمبعوث النمساوي 1833، أوضح أن سياسة محمد علي تهدف إلى إقامة إمبراطورية عربية تضم مصر، والسودان، وشبه الجزيرة العربية، والشام، والعراق. هذا الطموح جعل بريطانيا تدرك أن محمد علي يسعى للتحكم في طرق التجارة العالمية عبر البحر الأحمر، وهو ما يشكل تهديدا مباشرا لطريقها إلى الهند.
كتب الدبلوماسي النمساوي بروكس فون أوستن محذرا من أن جيش محمد علي "مدرَب ومزهو بانتصاراته، ويملك أسطولا قويا وموارد كافية لبناء قوة إقليمية كبرى"، مشيرا إلى خطر انبعاث الروح القومية العربية التي قد تؤدي إلى تغيير موازين القوى في المنطقة.
وبسبب هذه المخاوف، أطلقت القوى الأوروبية على مشروع محمد علي وصف "شبح الإمبراطورية العربية"، وسعت إلى توحيد جهودها لاحتوائه ومنع أي محاولة لإقامة كيان عربي موحد في المشرق.
مع وصول قوات محمد علي إلى مشارف الأناضول، أدركت القوى الكبرى أن الموقف يتطلب تدخلا جماعيا عاجلا. وبعد عام من المفاوضات، وُقعت اتفاقية لندن 15 يوليو/تموز 1840 بين بريطانيا، والنمسا، وبروسيا، وروسيا، بينما وجدت فرنسا نفسها معزولة. ونصت الاتفاقية على:
رفض محمد علي الشروط في البداية، فقامت بريطانيا وحلفاؤها بإنزال قوات في بيروت، ومحاصرة عكا التي سقطت في نوفمبر/تشرين الثاني 1840، ما أجبره على التوقيع لاحقا. وبموجب التسوية النهائية 1841، حُصر حكمه في مصر والسودان فقط، مع فرض قيود صارمة:
لم يكن الهدف من الاتفاقية تحجيم محمد علي وحده، بل إعادة تشكيل المشرق العربي لضمان عدم صعود أي قوة إقليمية مستقبلا.
بعد احتواء مشروع محمد علي، وضعت بريطانيا خطة إستراتيجية طويلة الأمد ركزت على:
في هذا السياق، برز دور اللورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، الذي تبنى رؤية ابن أخته اللورد شافتسبري، والتي جمعت بين المعتقد البروتستانتي القائل بعودة اليهود إلى "أرض الميعاد"، والمصالح الإستراتيجية البريطانية في المنطقة.
أكد بالمرستون في رسائله أن "توطين اليهود في فلسطين" سيحقق هدفين رئيسيين:
هكذا أرست سياسات 1840 الأساس العملي لفكرة الحاجز البشري، الذي تحول لاحقا إلى المشروع الصهيوني، ويتجلى اليوم في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
باختصار، تمثل اتفاقية لندن 1840 محطة مركزية لفهم جذور الواقع العربي الراهن. فقد دشنت مشروعا استعماريا طويل الأمد هدفه:
واليوم، وبعد مرور ما يقارب القرنين، ما زالت المنطقة تعيش آثار تلك السياسات؛ فالصراع على فلسطين، والانقسام العربي، واستمرار النفوذ الدولي في المشرق العربي، جميعها حلقات في سلسلة بدأت منذ أن اجتمعت القوى الكبرى في لندن 1840.
إن قراءة تلك الحقبة تمنحنا فهما أعمق لماضي المنطقة وحاضرها، وتكشف كيف أن المشاريع الاستعمارية القديمة لا تزال ترسم ملامح واقعنا حتى الآن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.