في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعد فترة وجيزة من حصوله على جائزة نوبل للسلام، دخل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد صراعا أهليا طاحنا مع إقليم التيغراي في إثيوبيا، وهو صراع تاهت تفاصيله بينما اشتعلت صراعات أشدّ وطأة مثل حرب غزة وحرب أوكرانيا وحرب السودان، والمعارك القصيرة بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي .
في هذا المقال المهم المنشور على فورين أفيرز، يكتب الأستاذ ألِكس دي فال، المتخصص في شؤون السودان وشرق أفريقيا، مع مولوغيتا جَبرِهيويتي، الباحث الإثيوبي بمؤسسة السلام العالمي بجامعة تافتس الأميركية، والمقاتل السابق مع الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، وهي جبهة تشكَّلت قبل نحو 40 سنة من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وحزب أمهرة الديمقراطي، وحزب أورومو الديمقراطي، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا. وقد هيمنت تلك الجبهة على السياسة الإثيوبية نحو ثلاثة عقود، منذ إسقاط النظام الشيوعي عام 1991، وحتى صعود آبي أحمد عام 2019.
يناقش الكاتبان تفاصيل الصراع المشتعل في المنطقة منذ عام 2020، وتحوُّلاته الأخيرة، واحتمالات نشوب صراع عسكري بين إثيوبيا وإريتريا على ميناء عصب، والانحيازات الجديدة التي تشكَّلت في إقليم تيغراي، وبعضها يسعى للاستقلال الكامل عن إثيوبيا بالتعاون مع إريتريا، والآخر يسعى لاستعادة وضع الإقليم القديم داخل الفيدرالية الإثيوبية.
ويميل الكاتبان إلى نزع فتيل الصراع عبر ضغط القوى الغربية على أديس أبابا، وذلك بأن يكون الدعم المالي المُقدَّم لها مشروطا بالالتزام باتفاق بيرتوريا بين الحكومة الإثيوبية وإدارة إقليم تيغراي، وفي سبيل ذلك يُروِّجان إلى دور يُمكن أن تلعبه الولايات المتحدة دون غيرها.
على مدى الأشهر العشرين الماضية، وبينما اجتاحت عدة حروب منطقة الشرق الأوسط، أصبح الطرف الجنوبي من البحر الأحمر مصدر قلق دولي. ففي الأشهر الأولى من عام 2025 وحده، أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات على حملة عسكرية ضد الحوثيين في اليمن، الذين واصلوا مهاجمة سفن الشحن العالمية في هذا الممر المائي الحيوي ردا على حرب إسرائيل في غزة.
ومع ذلك، تجاهلت القوى الإقليمية والعالمية إلى حدٍّ كبير أزمة متفجرة على الساحل الآخر للبحر الأحمر، في القرن الأفريقي ، حيث يُمكن أن يندلع قريبا نزاع كبير وواسع.
تتعلق الأزمة بدولة إريتريا، وهي دولة ساحلية، وجارتها الأكبر إثيوبيا، وهي دولة حبيسة، فقد فقدت إثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر بعد استقلال إريتريا عام 1993. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، صرَّح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أن الحصول على منفذ إلى البحر الأحمر أصبح مسألة وجودية لإثيوبيا، وبالتحديد، زعم أن إثيوبيا يجب عليها السيطرة على ميناء عَصَب، وهو ميناء حيوي في جنوب إريتريا.
منذ ذلك الحين، تصاعدت التوترات بين البلدين، ولعل إثيوبيا تستعد بالفعل لدفع قواتها مباشرة نحو عَصَب، التي تبعد نحو 60 كيلومترا فقط عن الحدود الإثيوبية. ورغم أن آبي نفى أن بلاده تملك خططا لنزاع عسكري، فإن البلدين يشتريان معدات عسكرية متنوِّعة منذ فترة، بما في ذلك المُسيَّرات، وأنظمة الدفاع ضد المُسيَّرات، والصواريخ، والذخيرة الميكانيكية، والمركبات المدرعة المخصصة للتضاريس الصحراوية.
وفي الأسابيع الأخيرة، حرَّك الطرفان قوات عسكرية نحو الحدود القريبة من عَصَب، وانخرطا في تصعيد الخطاب العدائي بينهما.
إن اندلاع معركة حول ميناء عَصَب بالبحر الأحمر سيكون أمرا خطيرا، لكن ما يجعل الصراع الوشيك تهديدا أكبر مما نتصوَّر هو احتمال امتداده بسرعة إلى إقليم تيغراي المُضطرب في إثيوبيا، المُتاخِم لإريتريا، الذي كان مسرحا لحرب مدمرة بين عامي 2020-2022 بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية في أديس أبابا والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. في أعقاب الحرب، التي راح ضحيتها ما يصل إلى 600 ألف إنسان بينهم مئات الآلاف من المدنيين، وخلَّفت إرثا من النزوح والدمار.
كان من المفترض أن يجلب اتفاق السلام بين أديس أبابا وجبهة تيغراي استقرارا جديدا للمنطقة، لكن معظم بنوده لم تُنفَّذ، فلا تزال القوات الإريترية موجودة في المنطقة، كما أن أجزاء واسعة من تيغراي قد ضُمَّت بحكم الأمر الواقع إلى إقليم أمهرة المجاور في إثيوبيا.
ولا يزال أكثر من مليون من أبناء تيغراي عاجزين عن العودة إلى منازلهم. أما الأكثر إثارة للقلق فهو أن قيادة جبهة تحرير شعب تيغراي انقسمت إلى فصائل متناحرة، تعقد تحالفات متنافسة مع كلٍّ من إثيوبيا وإريتريا، وتبني أجنحة مسلحة منفصلة.
إذا اندلع قتال بين إثيوبيا وإريتريا، فإن تيغراي ستصبح مجددا ساحة المعركة الرئيسية، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب كارثية على تيغراي وعلى كامل منطقة القرن الأفريقي. فكلا البلديْن يملك جيشا كبيرا ومجهزا ومستعدا لإلحاق الخسائر وتحمُّلها على نطاق واسع، وسيؤدي أي صراع إلى تمزيق ما تبقى من بنية السلام والأمن الهشة في المنطقة، وقد يجرُّ معه الصومال والسودان إلى دوامة عنف إقليمية واسعة.
يمكن منع اندلاع حرب جديدة بضغط دولي مناسب، بحيث تُدفَع الحكومة الإثيوبية إلى تنفيذ اتفاق السلام لعام 2022، وهو مطلب طالما تمسَّك به التيغرانيون، كما يجب على قادة التيغراي أنفسهم اتخاذ خطوات لتجنُّب تحوُّلهم إلى بيادق في صراع إثيوبي-إريتري أوسع.
في الواقع، إذا بقيت تيغراي على الحياد، فسيكون من الصعب على آبي شن هجوم على ميناء عَصَب بمفرده. في العقود السابقة، كان احتمال اندلاع حرب كبرى في القرن الأفريقي يدفع الدبلوماسيين في واشنطن، والعواصم الأوروبية، والأمم المتحدة، وكذلك الاتحاد الأفريقي ، إلى التحرُّك، أما اليوم، فإن قادة الغرب مشتتون، في حين تداعت المنظمات الدولية، والجهة الوحيدة التي تمتلك النفوذ الكافي لجمع الأطراف إلى طاولة حوار هي الولايات المتحدة.
يعود الدور المحوري لإقليم تيغراي في التوترات بين إثيوبيا وإريتريا إلى ما بعد حرب التيغراي الأخيرة. فعندما اندلعت الحرب، كانت إثيوبيا وإريتريا في صف واحد، حيث جمعتا قواتهما لهزيمة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. وقد سعى آبي إلى فرض إرادته على الجبهة، التي رفضت أن تحل نفسها وتندمج في حزبه الحاكم الجديد في أديس أبابا.
وبدوره، كان الرئيس الإريتري أسياس أفورقي يحمل ضغينة قديمة ضد الجبهة، ولم يكن عازما على تفكيكها فحسب، بل وعلى إلحاق ضرر بالغ بقوات الإقليم بحيث لا تتمكن قواته من تحدي إريتريا مجددا. وقد استعان الزعيمان بميليشيات من إقليم أمهرة المجاور في إثيوبيا، التي كانت لها أسبابها الخاصة للانخراط في الصراع، إذ سَعَت إلى ضمِّ أجزاء من تيغراي كانت تزعم أنها أراضٍ أمهرية تاريخيا.
بعد عامين من القتال العنيف، بما في ذلك حصار بالتجويع دفع إقليم تيغراي إلى المجاعة، طالب التيغرانيون باتفاق سلام. وقد دفعت الولايات المتحدة الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى طاولة المفاوضات في بريتوريا بجنوب أفريقيا، تحت رعاية الاتحاد الأفريقي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وقَّع الطرفان اتفاقا دائما لوقف الأعمال العدائية.
لكن الاتفاق احتوى على عدة ثغرات؛ فقد صِيغ على عَجَل، وافتقر إلى آليات قوية للمتابعة والتنفيذ. ورغم أن واشنطن اعتبرت اتفاق بريتوريا نصرا دبلوماسيا، فإنها فعلت القليل لفرضه على الأرض. وقد تجاهل الطرفان إلى حدٍّ كبير بنود الاتفاق، وحتى أبسط الاحتياجات من المساعدات الإنسانية لإقليم تيغراي لم تُلبَّ.
الأسوأ من ذلك أن مفاوضات بريتوريا فشلت في إشراك إريتريا وقادة الأمهرة، وهما الطرفان الآخران الرئيسيان في النزاع. فقد افترض الوسطاء أن كليهما سيتبع قيادة آبي، لكن سرعان ما دبَّ الخلاف بينهما وبينه. ففي مطلع عام 2023، أمر آبي إقليم الأمهرة بنزع سلاح ميليشياته المعروفة باسم "فانو" (FANO)، وخفَّض قوات الإقليم الخاصة إلى مستوى شرطة مكافحة الشغب.
لكنهم رفضوا قرارات آبي الجديدة، وفي غضون أسابيع، أطلقت "فانو" تمرُّدا ضد القوات الإثيوبية في مساحات شاسعة من إقليم أمهرة، وهو تمرُّد ما زال مستمرا حتى اليوم. وتَرِدُ كل شهر تقارير عن سقوط عشرات، وأحيانا مئات القتلى في اشتباكات ومجازر بحق المدنيين وهجمات بالمُسيَّرات، وقدَّرت الأمم المتحدة أن نصف مليون نازح يحتاجون إلى مساعدة عاجلة.
في هذه الأثناء، شعرت إريتريا بالخيانة من اتفاق السلام. فقد كان الرئيس الإريتري أفورقي يرغب في مواصلة العمل العسكري حتى يكتمل تدمير الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بالكامل، كما أنه لم يكن يثق في تنامي علاقات أديس أبابا مع واشنطن، وخشي أن يكون اتفاق بريتوريا قد صُمِّم لتهميشه. ومع تدهور العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، بدأ كل طرف يبحث عن وسائل جديدة للضغط على الآخر.
فقد شرعت أديس أبابا في دعم قوى المعارضة داخل إريتريا، بينما دعمت أسمرة قوى المعارضة في إثيوبيا وزوَّدت ميليشيا "فانو" في إقليم الأمهرة بالسلاح. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلن آبي أن إثيوبيا لا تحتاج إلى منفذ على البحر الأحمر فقط من أجل أمنها الاقتصادي، بل إن لها أيضا حقوقا تاريخية في ميناء عَصَب. ولم يكن واضحا آنذاك ما إذا كان آبي يُناوِر للضغط من أجل تنازل إريتري، أم أنه يُفكِّر فعليا في غزو عسكري.
في مطلع عام 2024، خفَّت حِدّة التوتر نسبيا عندما وقَّعت إثيوبيا مذكرة تفاهم مع "أرض الصومال"، الجمهورية المُعلَنة من طرف واحد على ضفاف خليج عدن ، التي لم تعترف أي جهة دولية باستقلالها عن الصومال. ووفقا للمذكرة، فإن إثيوبيا، مقابل اعترافها رسميا باستقلال أرض الصومال، ستحصل على منفذ بحري هناك، وبذلك تُرضي مساعي آبي لإعادة بلاده إلى الساحل.
ولكن الخطة انهارت وسط معارضة شديدة من الحكومة الصومالية، التي طالما رفضت استقلال أرض الصومال وتخشى من هيمنة إثيوبيا على المنطقة. وفي ديسمبر/كانون الأول 2024، رَعَت تركيا مصالحة بين أديس أبابا ومقديشو ، فعاد آبي ليحوِّل اهتمامه مجددا إلى ميناء عَصَب.
إذا قرر آبي خوض الحرب مجددا، فإن قواته يمكنها نظريا التقدُّم مباشرة نحو عَصَب، التي تقع بعيدا عن أسمرة، وعن المراكز السكانية الرئيسة في إريتريا. ولكن مهما كانت نتيجة ذلك التحرُّك، فإنه سيؤدي حتما إلى إشعال عمليات عسكرية في تيغراي، حيث يمتلك الطرفان مصالح عميقة.
في قلب هذه المعادلة يقف جيش دفاع تيغراي، وهو جيش إقليمي قوي يضم نحو 274 ألف مقاتل، نشأ استجابةً للاندلاع الوحشي للحرب عام 2020، ويخضع لسلطة الحكومة الإقليمية التي تسيطر عليها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.
ويقود هذا الجيش محاربون قدامى من حرب 1974-1991، إلى جانب جنود قام آبي بفصلهم من الجيش الوطني الإثيوبي بحجة التطهير، فضلا عن متطوعين جدد. واليوم، تعمل كلٌّ من أديس أبابا وأسمرة على كسب النفوذ داخل تيغراي، بما في ذلك استمالة جيش دفاع تيغراي نفسه.
في خضم هذه التوترات بين إثيوبيا وإريتريا، أخذت تنهار الأسس الهشة لاستقرار تيغراي. فرغم كل عثراتها واختلالاتها العديدة، فإن الإدارة المؤقتة بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في العاصمة الإقليمية مَقَلِّي، التي أُنشئت بعد اتفاق بريتوريا، تبنَّت إنهاء الحرب وتسعى إلى استقرار المنطقة.
وقد كانت تركة القتال ثقيلة، حيث نُهِبَت المدن والبلدات، وجاع الناس وتشرَّدوا، وتعطَّلت المدارس والمستشفيات. وكان ينتظر المنطقة عبء ضخم من المهام، ولبرهة من الوقت، بدا أن الإدارة الإقليمية بدأت بالفعل بمعالجة هذه المشكلات.
لكن وحدة إقليم تيغراي أثبتت أنها وهمية. فقد تفكَّكت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي سريعا إلى فصائل متنافسة: إحداها بقيادة الرئيس السابق للجبهة دبرصيون جبرميكائيل، وقد اصطفَّت مع أسمرة، وأخرى بقيادة غيتاتشو رضا، وقد اصطفَّت مع أديس أبابا. حتى القيادة العليا لقوات دفاع تيغراي (TDF)، التي كانت بعيدة عن الانقسامات السياسية، انقسمت هي الأخرى، حيث تولى قائد القوات الجنرال تادسي وردي قيادة الحكومة الإقليمية.
هذا ويقف وراء الفصيل المتحالف مع إريتريا رجل أعمال تيغراني مقيم في الخليج، هو داويت جبرجْزيابْهِر، الذي زار أسمرة عدة مرات. كما أن كوادر أخرى من الجبهة كانت تتحدَّث مع أسمرة وفقا لبعض التقارير، بل وحتى بعض جنرالات قوات دفاع تيغراي.
بالنسبة لدوافع انفتاح التيغراي على إريتريا فإنها ليست واضحة. فهناك مَن يُبرِّرها بأنها خطوة نحو الانفصال عن إثيوبيا وتحقيق استقلال تيغراي. ويقول آخرون إنه بما أن أديس أبابا قد تخلَّت عن المنطقة، فعلى التيغرانيين أن يتقاربوا مع الناطقين بالتيغرينية في إريتريا على الجانب الآخر من الحدود.
أما الموقف الرسمي للجبهة فهو أنها من حقها التعامل مع أي طرف يساعدها على تعزيز المصالح الأمنية لإقليم تيغراي. ومن جهتها، رحَّبت إريتريا بحلفائها التيغرانيين الجدد، الذين يخدمون مصالحها في إضعاف وحدة تيغراي وبناء تحالف عسكري جديد ضد إثيوبيا.
في ظل تمزُّق هذه الفصائل المتعارضة، فإن المنظومة السياسية في تيغراي تنهار يوما بعد يوم. ويعتقد كثيرون أن الانقسامات المتزايدة بين قادة التيغراي مدفوعة بصفقات يشوبها فساد، فمنذ نهاية الحرب، تسيطر حُمَّى الذهب على المنطقة، حيث بدأ التعدين التقليدي واسع النطاق في أجزاء من الإقليم.
وقد أخذت تتشكَّل ثروات خاصة جديدة عبر التعدين المُرخَّص وغير المُرخَّص، والتهريب، وصفقات البيع مع البنك المركزي الإثيوبي، وهو بنك مركزي يائس هو الآخر للحصول على عملة صعبة في ظل الانهيار الاقتصادي المستمر للبلاد.
كما أصبحت حدود تيغراي بلا قانون فعليا، حيث وثَّقت الإدارة المؤقتة للإقليم أدلة لم تُعلَن بعد على وجود نشاطات اتجار بالبشر. وتفيد العيادات الطبية في المنطقة عن وصول عشرات الناجين من الاعتداءات الجنسية يوميا، الذين يأتون في الأغلب من مناطق في تيغراي لا تزال تحت سيطرة القوات الإريترية.
في غضون ذلك، انتُهِكَت بنود اتفاق بريتوريا علنا المرة تلو المرة. فلم تنسحب بَعْد القوات الأمهرية التي احتلت معظم غرب وشمال غرب إقليم تيغراي، كما تحافظ إريتريا بدورها على خطوط دفاعية داخل أراضي تيغراي. ولا يزال أكثر من مليون ونصف المليون شخص نازحين (من أصل نحو سبعة ملايين تيغراني)*، وهم يعيشون في مخيمات أو يبحثون عن مأوى في المباني العامة.
ولا تزال المدارس مُغلقة، والعيادات وأنظمة المياه بانتظار إعادة بنائها، أما رواتب القطاع العام فلا تُدفع حتى الآن. علاوة على ذلك، هناك أكثر من 200 ألف جندي من قوات دفاع تيغراي لم يحصلوا على حِزَم الدعم المالي الخاصة بتسريحهم من الخدمة، كما أن الجرحى الذين أصيبوا أثناء الحرب يفتقرون إلى أبسط خدمات إعادة التأهيل.
في جميع أنحاء تيغراي، يسود الجوع على نطاق واسع، وهي مشكلة تفاقمت بفعل الانخفاض الحاد في المساعدات الإنسانية الأميركية المُقدَّمة عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). ففي عام 2022، أسهمت الولايات المتحدة بأكثر من 50% من أصل 2.3 مليار دولار من المساعدات الإنسانية الدولية المُقدَّمة لإثيوبيا.
أما هذا العام، ومع ارتفاع مستوى المعاناة الإنسانية، فقد تلقت البلاد 6.7% فقط من المعونة التي طالبت بها الأمم المتحدة، المتواضعة أصلا، والبالغة قيمتها 612 مليون دولار، أما المساعدات الأميركية فتكاد تكون متوقفة تماما (بعد قرار ترامب بتجميد نشاطات الوكالة)*.
لقد جعل هذا الوضع الفوضوي العودة إلى القتال أمرا مُرجَّحا أكثر، فمن السهل العثور على جنود وجنود سابقين في تيغراي يتطلَّعون لحمل السلاح مجددا للخروج من دوامة يشعر كثيرون بأنها ميؤوس منها. ومن شبه المؤكد أن حربا جديدة في تيغراي ستؤدي إلى مزيد من إراقة الدماء والدمار وتفاقُم المجاعة، وهذه المرة دون أي مسار واضح نحو السلام وإعادة الإعمار.
رغم كل أزمات الإقليم، فإن إبقاء تيغراي خارج أي صراع مستقبلي ينبغي ألا يكون أمرا صعبا، إذ يمكن للمنطقة، أولا، أن ترفض ببساطة الانحياز لأي طرف في المواجهة الإثيوبية-الإريترية. فالفصائل المتناحرة داخل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي (TPLF) تتقاسم مصلحة مشتركة في تجنُّب صراع داخلي مُدمِّر سيضرُّ بالجميع. ورغم تحالفاتها السياسية التكتيكية، فإنه يمكنها صياغة موقف موحد لتجنُّب الانخراط في حرب أوسع عبر الحدود.
في الواقع، يمتلك التيغرانيون ورقة ضغط معتبرة في مواجهة كلٍّ من أديس أبابا وأسمرة، إذ ليس لدى إثيوبيا أو إريتريا سبب وجيه لبدء نزاع من دون دعم من قوة تيغرانية مُسلحة وقوية، كما أن أيًّا من الطرفين لن يستطيع خوض حرب طويلة إذا التزمت تيغراي حيادا صارما.
إن حربا بين إثيوبيا وإريتريا من أجل ميناء عَصَب ستكون أشبه بـ"قتال رجلين أصلعَيْن على مشط" إن جاز القول. فإذا نجحت إثيوبيا في الاستيلاء على المدينة، فإن مثل هذه الخطوة ستُعَدُّ انتهاكا للقانون الدولي، وستتجنب شركات الشحن الدولية استخدام الميناء، كما ستجعل من الحكومة الإثيوبية دولة منبوذة، وهي التي طالما اعتمدت على دعم غربي واسع.
علاوة على ذلك، ليس من الواضح أبدا أن السيطرة على عَصَب ستُعزِّز سلطة آبي أحمد. ففي هذا الركن من صحراء عَفَر (المعروفة أيضا بصحراء الدَناكِل)، لا تمتلك إريتريا أي خيارات عسكرية تقليدية سوى الدفاع. ولكن إذا خسرت الميناء، فلن تجد صعوبة في تجنيد جماعات ساخطة داخل إثيوبيا للقتال ضد أديس أبابا، الأمر الذي سيُغرِق إثيوبيا في مزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار.
إلى جانب تلقي المساعدات الإنسانية، والتيغرانيون في أمسِّ الحاجة إليها، فإن الحاجة الحقيقية لتيغراي (ولإثيوبيا) هي أن تُنفَّذ بنود اتفاق بريتوريا في الأخير.
فشروط الاتفاق ليست مُرهِقة ولا مُعقَّدة: انسحاب القوات الأمهرية وإعادة الحدود الإدارية لتيغراي إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وعودة النازحين إلى أماكنهم الأصلية، وفتح حوار سياسي يتيح لتيغراي أن تجد موقعها في السياسة الوطنية الإثيوبية. ومع ذلك، لم تُنفَّذ هذه الخطوات قط لأن الطرف الأقوى، وهو الحكومة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد، لم تتعرَّض لأي ضغط للوفاء بالتزاماتها في الاتفاق.
بإمكان الحكومات الغربية والقوى الإقليمية أن تفعل الكثير لتغيير هذه الصورة. فقد تلقَّت إثيوبيا مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية والتمويل التفضيلي عام 2024 وحده، ويُمكِن لحكومات المانحين أن تربط أي دفعات إضافية من المساعدات بتنفيذ حكومة آبي لما التزمت به رسميا. أما إدارة إقليم تيغراي فهي بحاجة إلى موارد لتلبية مطالب الناس فيما يتعلَّق بالمساعدات وإعادة الإعمار.
مع ضغط حقيقي من واشنطن، ينبغي أن تتمكَّن أديس أبابا وإدارة تيغراي من تهميش الفصائل المتهورة التي تسعى لاستغلال الوضع، وأن تضع أخيرا حدًّا للقوى شرق الأوسطية التي طالما تمتعت بحرية التدخُّل في شؤون القرن الأفريقي. وإذا نجحت إدارة ترامب في إبرام مثل هذا الاتفاق، فسيكون ذلك نصرا دبلوماسيا مُهما يحمل مكاسب طويلة الأمد للقوة الأميركية وللازدهار المتجدد في المنطقة التي مزقتها الحروب.
أيًّا كانت نتيجة التوترات الحالية، فإن أمام تيغراي طريقا طويلا نحو التعافي. فإعادة بناء المنطقة ستتطلب في النهاية جهدا مستمرا لإعادة بناء مؤسسات خاضعة للمساءلة ومجتمع مدني فعَّال، إضافة إلى الأسس الاقتصادية اللازمة لتأمين استقرار دائم. لكن لن يكون أيٌّ من ذلك ممكنا إذا اندلعت حرب أخرى. إن المهمة الأكثر إلحاحا اليوم هي منع حدوث ذلك.
__________________________
*إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري