كشف تحقيق أجرته بي بي سي، عن عصابة تهريب نشطة تنفذ عمليات لنقل الأشخاص عبر القناة الإنجليزية باستخدام قوارب صغيرة.
وساعدنا مراسل صحفي، تظاهر بأنه مهاجر يحاول عبور القناة، في التسلل إلى مخبأ معروف للمهربين داخل غابة في شمال فرنسا، وهي منطقة تشهد اشتباكات مسلحة متكررة بين عصابات متنافسة.
كما كشفت لقطات سرية صُوّرت في إحدى محطات القطارات الرئيسية في المملكة المتحدة، عن أعضاء العصابة وهم يتلقون أموالاً نقدية مقابل تأمين أماكن للمهاجرين خلال عمليات عبور غير قانونية للقناة.
التقينا برجلين في مرتين منفصلتين في الردهة المزدحمة في محطة (نيو ستريت) في برمنغهام، حيث جاءا لاستلام مغلفات تحتوي على مئات الجنيهات.
ذكرت عدة مصادر أن زعماء العصابات، الذين يتهربون من الاعتقال عبر تغيير أرقام هواتفهم المحمولة وأسماء عصاباتهم باستمرار، استخدموا العنف الجسدي ضد أتباعهم وضد المهاجرين.
استطعنا التعرف على هوية ثلاثة رجال – جبل، آرام، والملاح، جميعهم من الأكراد العراقيين، ويُعتقد أنهم يتزعمون إحدى المجموعات الرئيسية في شمال فرنسا المسؤولة عن تهريب الأشخاص إلى المملكة المتحدة باستخدام القوارب الصغيرة.
كما التقينا بشخصيات بارزة أخرى، من بينهم رجل يُدعى عبد الله، شاهدناه وهو يأخذ مجموعات من المهاجرين نحو القوارب. وتبيّن لنا أن عضواً آخر في العصابة يُدعى بيشا كان يرافق المهاجرين في فرنسا، ثم استقل قارباً صغيراً إلى المملكة المتحدة، حيث انتهى به المطاف في مأوى للمهاجرين في غرب يوركشاير بعد تقديمه طلب لجوء.
تأتي هذه النتائج بعد أشهر من العمل الميداني السري، وتقمص هويات مزيفة متعددة للإيقاع بالمهربين. وتمكنا بذلك من رسم صورة دقيقة لبنية العصابة المعقدة وطرقها الفعّالة للإفلات من الشرطة.
بدأ تحقيقنا في أبريل/ نيسان 2024، حين حاولت الشرطة الفرنسية منع العصابة من إطلاق قارب مطاطي عبر القناة الإنجليزية.
وخلال تلك العملية، فقد خمسة أشخاص حياتهم بسبب التدافع على متن القارب، بينهم طفلة تبلغ من العمر سبع سنوات تُدعى سارة.
"لا يوجد خطر"، هذا ما قاله المهرب عبد الله خلال حديثه مع مراسلنا المتخفي، مشيراً إلى مجموعة من الخيام المخفية في أعماق غابة قرب ميناء دونكيرك في فرنسا.
تحدث عبد الله بابتسامة مطمئنة تشبه ابتسامة موظف طيران "مرحباً بكم في الإقامة هنا. سنجهز قارباً وننطلق إلى البحر سريعاً. يجب أن نتحرك مبكراً لتفادي الشرطة، إنها لعبة القط والفأر"، واستدرك: "بإذن الله، سيكون الطقس لصالحنا".
وأوضح أن الرحلة عبر القناة ستضم عدداً من "الصوماليين والسودانيين والأكراد وغيرهم"، متفاخراً بنجاح رحلتين في الأسبوع السابق، كان على متن كل منهما 55 شخصاً.
مراسل بي بي سي الذي يتحدث اللغة العربية، كان يحمل كاميرا خفية ويتظاهر بأنه مهاجر سوري، سأل: "هل يجب أن أحضر سترة نجاة؟"
رد المهرب: "هذا الأمر يعود لك".
وتتخلل هذه الغابة ممرات رملية ضيقة، وتقع بجانب طريق رئيسي وقناة كبيرة وخط سكة حديد، على بُعد حوالي 4 كيلومترات (2.5 ميل) من الساحل الفرنسي.
كانت العصابات المتنافسة وعملاؤها يختبئون في هذه الغابة من الشرطة الفرنسية على مدار السنين، حيث يراقب حراس العصابات كل مدخل محتمل بحذر شديد.
لا تُعد المعارك بالأسلحة النارية والطعنات القاتلة أمراً نادراً هنا، خاصةً خلال فصل الصيف، حيث تقوم العصابات بتسوية حساباتها والتنافس على تجارة تهريب البشر بالقوارب الصغيرة، التي تعتبر مربحة.
كان عبد الله، شخصية ذات تأثير قوي وموثوقة داخل عصابة أصبحت من أبرز اللاعبين الرئيسيين في شمال فرنسا.
تُعد العصابة واحدة من أربع عصابات، تدير حالياً المعابر ومناطق الانطلاق، بدلاً من الاكتفاء بتوفير الركاب كما تفعل العديد من العصابات الأصغر حجماً.
كان عبد الله، مقرّباً من شخصية ذات مكانة أعلى منه. كان أنيق المظهر، ودوداً، ويتواصل هاتفياً باستمرار مع عملائه، كما بدا عليه الارتياح التام داخل الغابة.
ابتسم معلقاً: "لا تقلق"، بينما رفض زميلنا المتخفي عرض الإقامة لليلة في المخيم وغادر المكان.
وبعد بضعة أيام، تبعنا العصابة وعملاءها المتجهين نحو الساحل، حيث قضوا الليل مختبئين من الشرطة في منطقة غابات أخرى.
حاول عبد الله إقناع فريق إعداد التقرير بأنه مجرد شخص يائس يسعى للوصول إلى المملكة المتحدة، وليس مهرباً يكسب مئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية من خلال تعريض أرواح الناس للخطر في القناة.
وعندما بدأنا التحقيق بشأن العصابة، علمنا أنها تُعرف باسم "الجبل"، واستخدمت الاسم عند استلام المدفوعات، كما سمعناه من الأشخاص الذين كانوا على متن قارب سارة الذي تعرّض للغرق.
وسرعان ما اكتشفنا أن جبل هو أيضاً اسم أحد زعماء العصابة، وجميعهم ينتمون إلى نفس المنطقة في إقليم كردستان العراق، بالقرب من مدينة السليمانية.
كان جبل مسؤولاً عن اللوجستيات من بلجيكا وفرنسا. وهناك رجل آخر يُدعى آرام، قضى وقتاً في أوروبا ويبدو أنه عاد الآن إلى العراق، وربما كان أكثر تورطاً في جذب عملاء جدد.
أما الزعيم الثالث، الأكثر غموضاً بينهم، فكان يُعرف باسم "الملة"، ويبدو أنه كان يدير العمليات المالية للعصابة.
في يونيو/حزيران 2024، تتبعنا جبل إلى مركز استقبال المهاجرين في لوكسمبورغ وواجهناه في الشارع، حيث أنكر تورطه في أي نشاط، ورغم إبلاغنا الشرطة الفرنسية فوراً، إلا أنه اختفى بسرعة.
قال رئيس وحدة مكافحة التهريب في الشرطة الفرنسية، كزافييه ديلريو، إنه "هرب بعد تدخلكم في لوكسمبورغ، وغير رقم هاتفه، وربما غادر البلاد. مكانه الحالي مجهول، والتحقيق لا يزال جارياً".
وأضاف ديلريو: "ما دام الأمر مربحاً، فسيستمرون".
وأقرّ المدعي العام الرئيسي في محكمة الاستئناف الإقليمية لشمال فرنسا، باسكال ماركونفيل، بأن "الأمر أشبه بلعبة الشطرنج. وهم يتفوقون علينا في اللعبة. لذا، فهم دائماً متقدمون علينا بخطوة".
ويعد هذا تقييماً مقلقاً، مدعوم ببعض النتائج التي توصلنا إليها خلال هذا التحقيق، وهو يُظهر مدى صعوبة قدرة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر على الوفاء بوعده "بالقضاء على العصابات".
ويؤكد كير ستارمر أن البرنامج التجريبي البريطاني - الفرنسي الحالي المعروف بـ"دخول واحد، خروج واحد" سيُسفر عن نتائج ملموسة، حيث سيسمح الاتفاق باحتجاز بعض الأشخاص الذين يصلون على متن قوارب صغيرة وإعادتهم إلى فرنسا.
وبعد اختفاء جبل في لوكسمبورغ، عدنا إلى شمال فرنسا لمواصلة تحقيقنا.
تحدثنا إلى أكثر من اثني عشر شخصاً استخدموا العصابة للوصول إلى المملكة المتحدة - أو لمحاولة الوصول إليها - عبر القوارب الصغيرة.
بمساعدتهم، ومن خلال تحليل لقطات إضافية صورناها ليلة مقتل سارة، تمكنا من التعرف على عدد كبير من أعضاء العصابة الصغار (الأدنى رتبة)، ويُعرفون بـ"الأيادي الصغيرة" أو ببساطة "المرشدين" بالكردية، بمن فيهم بعض من ساعدوا في إطلاق قارب سارة.
تتبعنا "الأيادي الصغيرة" عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي أثناء تنقلهم في أوروبا، حيث يقومون بإنفاق ثرواتهم.
اكتشفنا أن مهرباً متوسط المستوى يُدعى بيشا غادر على متن قارب صغير برفقة صديقته الإيرانية لطلب اللجوء في المملكة المتحدة.
بدأنا أولاً بتتبعه حين كان يرافق مجموعات من المهاجرين من كاليه إلى محطة قطار بولون، تحضيراً لمحاولات عبور القناة الإنجليزية.
وبعد مرور عدة أشهر، تتبعنا بيشا وصديقته إلى مأوى للمهاجرين في ويكفيلد بغرب يوركشاير. وراقبنا المكان لمدة ثلاثة أيام، ثم فقدنا أثرهما بعد مغادرتهما المفاجئة.
بعد وفاة سارة، والاهتمام الإعلامي الكبير الذي أثارته، غيّرت العصابة اسمها من "الجبل" إلى "غالي غالي". وهي عبارة عربية وكردية، ولعلّ أفضل مقصد من استخدامها هو دلالة "الحصرية".
لفترة من الوقت، سمعنا الكثير عن "غالي غالي" سواء عبر الإنترنت أو في محطات القطارات والحافلات داخل وخارج كاليه.
اشتهرت العصابة بأسعارها المنخفضة وموثوقيتها النسبية، وأفاد بعض الذين فشلوا في عبور القناة مع المجموعة بأن أموالهم استُرجعت فوراً.
وبالنسبة للعديد من المهاجرين، فإنهم لا يعتبرون أفراد العصابات، مجرمين خطيرين، بل ينظرون إليهم كرجال أعمال يقدمون خدمات قيمة.
بعد ذلك، غيّرت العصابة اسمها مرتين، أولاً إلى "الملاح"، وهو لقب زعيم العصابة الثالث الغامض، ثم إلى "كاكا"، ونعتقد أنه أيضاً لقب آخر له، ومؤخراً استخدمت اسمان آخران على الأقل.
على عكس العديد من العصابات الأخرى التي تروّج لخدماتها بشكل علني على الإنترنت، خاصة عبر تطبيق تيك توك، باستخدام فيديوهات تحتوي على مشاهد جنسية وغيرها لجذب جماهير عرقية محددة، حافظت هذه العصابة على نهج هادئ ومتوازن.
فهي تعمل مع مجموعة متنوعة من الجنسيات، لا سيما من العراق وأفريقيا، ويبدو أن أعمالها تعتمد بشكل كبير على السمعة والشهرة.
لكن سمعة العصابة استمرت بالتأثر سلباً مع توالي الأنباء عن وفيات جديدة في القناة، واكتشفنا مصرع سبعة أشخاص آخرين على الأقل - إضافة إلى الخمسة الذين لقوا حتفهم على متن قارب سارة - في حادثين منفصلين أثناء محاولتهم العبور برفقة العصابة.
وعلى الأرض، ظهرت أيضاً أدلة مثيرة للقلق تشير إلى عنف يقوم به أفراد العصابة.
في وقت سابق من هذا العام، أفاد مصدران بأن الشخص الغامض المعروف بـ"الملاح" كان يتولى إدارة عمليات العصابة في الغابة قرب دونكيرك.
وروى كل منهما، بشكل منفصل، مشهداً وقع في أحد أيام الشتاء، حين أمر الملاح "أيديه الصغيرة" بالوقوف في صف، ثم ربط أحدهم إلى شجرة وقام بضربه، بعد أن اتهمه بالسرقة.
"الملاح هو القائد"، أخبرتنا شابة عبر رسالة نصية، وقالت إنه "لا يلتقي أي مهاجر. جميع من معه من عائلته، وهم لصوص أيضاً".
التقينا بهذه الشابة في نقطة توزيع طعام تديرها جمعيات خيرية محلية خارج دونكيرك، وأخبرتنا أنها دفعت للعصابة مقابل العبور، لكنها انتظرت شهرين في مخيم الغابة، وانزعجت من الإساءة التي تعرضت لها.
وفي رسائلها النصية، وصفت كيف كانت تخشى أحد رجال الملاح، الذي كانت تسميه "عبد الله".
وكتبت: "وضع مسدساً على رأسي في إحدى الليالي، إنه رجل شديد الخطورة، ووجه لي عدة صفعات"، ثم أرسلت لنا مقطع فيديو قصيراً كانت قد صورته سراً.
استناداً إلى هذا الفيديو والمعلومات الأخرى التي جمعناها، نرجّح أن هذا هو نفس عبد الله الذي التقاه مراسلنا المتخفي في الغابات المحيطة بمدينة دونكيرك.
وبعد بضعة أيام، وفي محاولتها الثالثة عشرة كما تقول، تمكنت الشابة من عبور القناة إلى المملكة المتحدة برفقة عصابة أخرى. ومنذ ذلك الحين، انقطع تواصلنا معها.
في هذه المرحلة، كثفنا جهودنا في التحقيق، ساعين للتواصل المباشر مع العصابة واختراق أنشطتها من الداخل.
ورغم أن قادة العصابة كانوا يغيّرون أرقام هواتفهم بشكل متكرر، تمكنا من التأكد من أن أحد أرقام الهواتف المحمولة الخاصة بالملاح لا يزال قيد الاستخدام.
وتبيّن لاحقاً أن الهاتف انتقل إلى عبد الله، الذي كان على ما يبدو يتولى مسؤولية إدارة العمليات في منطقة دونكيرك.
قبل أسبوعين، أجرينا زيارة استراتيجية إلى بروكسل، التي تُعد نقطة عبور شائعة للمهاجرين المتجهين إلى سواحل شمال فرنسا، وتمكننا من التواصل مع عبد الله عبر الهاتف بعد استخدام عدة هويات مزيفة.
كنا ندرك تماماً ضرورة توخي الحذر عند إجراء هذا النوع من المكالمات، إذ كانت العصابة غالباً ما تطلب من العملاء إرسال رمز سري لتحديد موقعهم، يلي ذلك مكالمة فيديو للتأكد من هويتهم وصحة المعلومات.
في شارع قريب من محطة غار دو ميدي في بروكسل، وقف زميلنا العربي متنكراً في دور مهاجر يدعى "أبو أحمد"، وبدأ حديثه مباشرةً.
قال: "مرحباً أخي، أنا مسافر بمفردي وأرغب في المغادرة بسرعة. هل لديك رحلة غداً، أو بعد غد، أو خلال هذا الأسبوع؟".
أجاب عبد الله: "غداً إن شاء الله".
ردّ: "أفضل أن أدفع عند وصولي إلى المملكة المتحدة إن أمكن، فأموالي محفوظة هناك".
لم يكن طلبنا هذا غريباً أو مثيراً للريبة، فبينما يحمل بعض المهاجرين النقود معهم، يختار آخرون ترتيب الدفع للمهربين من خلال تحويلات مصرفية أو عن طريق وسطاء في دول مثل تركيا، وألمانيا، وبلجيكا، والمملكة المتحدة.
وفي بعض الحالات، تُسلَّم الأموال مباشرة إلى العصابة أو تُودَع كأمانة لتُسلّم فقط بعد نجاح عملية العبور.
أردنا كشف روابط العصابة في المملكة المتحدة، بعد أن كنا قد تتبعنا أحد أعضائها إلى ويكفيلد.
قال عبد الله: "حسناً، السعر 1400 يورو" - أي ما يزيد عن 1200 جنيه إسترليني - وكان يبدو مستعجلاً.
وبعد عدة ساعات، أرسل لنا في رسالة نصية رقم هاتف محمول بريطاني، مشيراً إلى ضرورة استخدام اسمه "عبد الله" كمرجع للدفع، مع الاكتفاء بذكر كلمة "برمنغهام".
تركنا زميلنا "أبو أحمد" يواصل طريقه نحو الساحل الفرنسي، بينما توجهنا بسرعة إلى برمنغهام لترتيب عملية الدفع.
لم يكن تسليم الأموال لمجرمين قراراً سهلاً، لكننا رأينا أن هناك مصلحة عامة واضحة تبرر ذلك، إذ كانت هذه الوسيلة الوحيدة المتاحة لكشف العصابة وشبكتها الأوسع.
بعد بضع ساعات، وبعد التنسيق مع زميل آخر في بي بي سي يتحدث العربية - تظاهر بدور أحد أقارب "أبو أحمد" في المملكة المتحدة - لتسليم ظرف يحتوي على المبلغ.
وحددنا مكان اللقاء في قلب شارع نيو ستريت في برمنغهام. كان عبد الله قد زوّدنا برقم هاتف بريطاني للتواصل، وترتب اللقاء بجوار تمثال الثور المعدني الضخم.
وقف زميلنا بثبات وسط الزحام، بينما كانت الحشود تمر من حوله، جلسنا على مقاعد قريبة ندقق في الوجوه بعناية، ونترقب ظهور أي شخص، ونتساءل ما إذا كانت العصابة قد ارتابت في الأمر.
وبعد عشر دقائق - تماماً في الموعد المحدد - اقترب رجل من المكان.
قال: "مرحباً يا أخي".
ردّ زميلنا: "كل شيء جاهز"، ورفع المال ليُريه لرجل ملتحٍ بعينٍ مصابة. قدّم نفسه باسم بهمان، وأوضح أن عمه هو من أرسله.
بدا بهمان مسترخياً وغير منتبه، وتبادل الرجلان أطراف الحديث لفترة وجيزة وسط الصالة المزدحمة، بينما كنا نصور لقائهما سراً.
قال بهمان: "المال مشكلة. أقسم، إنه مشكلة"، مشيراً إلى أنه لم يكن مجرد "مهرّب" أُرسل لجمع المال، بل شخصاً لديه معرفة عابرة بالعملية الأوسع.
لم يشرح سبب كون المال "مشكلة"، لكنه أخذ المال، وهو مبلغ متفق عليه قدره 900 جنيه إسترليني، أي حوالي ثلاثة أرباع إجمالي فاتورة المهربين، وغادر.
يمكن لركاب القوارب الصغيرة إيداع أموال عبورهم في حسابات مصرفية بالمملكة المتحدة ودول أخرى عبر وسطاء "الحوالة".
هذا نظام موثوق وعالمي، ويستخدم على نطاق واسع خصوصاً في الشرق الأوسط، ويتيح تحويل الأموال عبر أطراف ثالثة موثوقة.
لكن هناك رسوم تُدفع للشركات التي تقدم هذه الخدمة، وعدم طلب بهمان لأي أموال إضافية يشير بقوة إلى أنه ليس مجرد عميل أو وسيط، بل مرتبط بشكل مباشر بالعصابة في فرنسا.
بعد ذلك، عدنا إلى دونكيرك، حيث تمكن زميلنا أبو أحمد أخيراً من التواصل المباشر مع عبد الله في الغابة.
أخبرنا عبد الله أنه تلقى تأكيداً من برمنغهام باستلام معظم مبلغ العبور. تعمدنا ترك جزء من المال دون دفع، لإعطاء زميلنا سبباً وجيهاً للقاء عبد الله في معسكره، بدلاً من الانضمام إلى المجموعة أثناء تحركها جنوباً على طول الساحل في محاولة للعبور.
مع مراقبة حارسي أمن متخفييْن من بعيد، سار أبو أحمد نحو الغابة، متبعاً التعليمات التي أعطاه إياها عبد الله، حتى طُلب منه مغادرة الطريق وتسلق جرف شديد الانحدار.
هناك، سلّم 400 يورو إضافية (ما يعادل 348 جنيهاً إسترلينياً) لعبد الله، بحسب الاتفاق، قبل أن يعتذر موضحاً أنه يقيم مع أصدقاء آخرين في كاليه يسعون أيضاً للعبور إلى إنجلترا.
بعد يومين، تلقى مراسلنا المتخفي تأكيداً من عبد الله بمحاولة عبور ستتم في وقت مبكر من صباح اليوم التالي.
قال عبد الله في إحدى رسائله الصوتية القصيرة: "نحن في انتظاركم قرب محطة القطار الرئيسية في بولون".
كانت توقعات الطقس في القناة مثالية - لا رياح قوية - وكما لاحظنا سابقاً، كانت الشرطة الفرنسية متمركزة بالفعل خارج محطات الحافلات والقطارات في دونكيرك وكاليه وبولون - نقاط التجمع الرئيسية للمهاجرين المتجهين إلى الشواطئ.
لكنهم لم يحاولوا منع أي شخص من الصعود.
بدلًا من ذلك، بدا أن هدفهم هو جمع معلومات عن أعداد الأشخاص والمواقع، للمساعدة في تحديد الأماكن التي قد تتيح لهم لاحقاً أفضل فرصة لاعتراض القوارب المطاطية التي ستستخدمها العصابات.
أصبح تقطيع القوارب المطاطية بالسكاكين قبل وصولها إلى البحر الوسيلة الرئيسية التي تستخدمها الشرطة لمنع انطلاقها. ونتيجة لذلك، بدأت العصابات في تغيير أساليبها.
أفادنا مصدر في الشرطة بأن نحو نصف القوارب الصغيرة التي تعبر القناة الإنجليزية تُعرف الآن باسم "قوارب الأجرة"، إذ تنطلق بعدد قليل من الركاب، أو حتى من دون ركّاب، وفي سرية تامة، لتبحر بالقرب من الساحل وتُقلّ من ينتظرون في المياه الضحلة.
قال أحد العناصر الميدانيين موجهاً حديثه إلى سائق الحافلة: "ثلاثة وأربعون تذكرة"، بينما كان يقف وسط حشد من الرجال والنساء، أغلبهم من أفريقيا، متجمعين عند المدخل برفقة زميلنا المتخفي.
كان هذا مشهداً مألوفاً، حيث تقوم شبكات التهريب المختلفة بتنظيم سفر زبائنها باستخدام وسائل النقل العامة على طول الساحل الفرنسي نحو مواقع الإطلاق المتعددة.
رافق زميلنا، أبو أحمد، المهاجرين في المرحلة الأولى من الرحلة، لكن - ومن أجل سلامته - اتفقنا على أن ينسحب من المجموعة قبل حلول الظلام، وقبل اقترابهم من الشاطئ.
من مسافة بعيدة، رصدنا عبد الله وهو يسير في أحد شوارع بولون برفقة مجموعة من ركابه القادمين من دونكيرك وكاليه، إذ كان يرتدي ملابس سوداء ويحمل حقيبة ظهر كبيرة.
بدأ المزيد من الأشخاص بالوصول، بعضهم جلس، وآخرون تمددوا بالقرب منه، خلف الشجيرات في محطة الحافلات، وانتظروا لساعات طويلة حتى حلول المساء، قبل أن يصعدوا إلى حافلة متجهة جنوباً نحو شاطئ إيكو، وهي منطقة نعرف أنها من نقاط الانطلاق المفضلة لدى العصابة.
ومع حلول الساعة السابعة مساءً، بدأنا برصد عبد الله، ومعه نحو أربعين شخصاً، وهم يسلكون طريقاً رملياً يقطع الغابة باتجاه شاطئ إيكولت الطويل والمستقيم.
حاول كثيرون من المجموعة إخفاء وجوههم، لكنهم لم يحاولوا منعنا من التصوير. فجأة، انحرفوا عن الطريق الرئيسي، وجلسوا في منطقة كثيفة الأشجار.
وافق شخص واحد فقط من المجموعة على الحديث معنا - عبد الله نفسه.
بإنجليزية بسيطة وبنبرة واثقة، زعم أنه مهاجر إيراني يُدعى أحمد، وأن هذه كانت محاولته الثانية، أو ربما الثالثة، لعبور القناة.
من المحتمل أن عبد الله كان يسعى من خلال هذه الرواية إلى تأسيس هوية بديلة يمكنه استخدامها لاحقاً كما فعل آخرون في العصابة، إذا ما قرر التقدّم بطلب لجوء في المملكة المتحدة.
فجأة، دوّى صوت أجهزة الاتصال اللاسلكي الخاصة بالشرطة من بعيد، ليضع حداً لأي حديث. جلس المهاجرون في صمت تام، بينهم عدد من الصوماليين، وبعض السودانيين، وربما عائلات إيرانية، وظلوا على هذه الحال لأكثر من ساعة.
وفي النهاية، رصد اثنان من عناصر الشرطة الفرنسي المجموعة بين الأشجار، فاقتربا ببطء. وكان أحد الضابطين، وهو الأصغر سناً، يحمل عبوة من رذاذ الفلفل في يده اليمنى، وقد بدت أنظار الجميع متجهة إليها.
سأل الضابط الأكبر بالإنجليزية: "نساء؟".
ثم أضاف: "أطفال؟"، وبدأ يتنقل بين المهاجرين ويعدّهم.
كنا نعلم أن الشرطة تميل للتدخل بشكل أكبر حين يكون هناك أطفال، كما أوقف الضباط فريقنا لبعض الوقت واطّلعوا على بطاقاتنا الصحفية، بينما كنا نراقب المشهد من مكان قريب.
قال الضابط وهو يختتم حديثه: "15 امرأة، و40 شخصاً بالمجمل"، ثم ودعهم بلطف قائلاً: "حظاً سعيداً".
ومع حلول الظلام، انسحبت عائلة صغيرة من المكان. بدا عليهم الإنهاك، وكان طفلهم، الذي لا يتجاوز العاشرة، يسعل بشكل متكرر.
بقي شرطي واحد، متكئاً على شجرة قريبة، يسلط ضوء مصباحه اليدوي بين الحين والآخر نحو بقية المجموعة، حتى قرابة الساعة الحادية عشرة مساءً، ثم غادر الموقع.
ما إن غاب الشرطي، حتى انخفض التوتر بشكل ملحوظ. تسللت ابتسامات خجولة في العتمة. ورغم كل التعب والمخاطرة، بدا الشباب في المجموعة متفائلين بروح المغامرة الجماعية.
وبحلول الساعة الثانية صباحاً، خفتت الأصوات، ولم يتبقّ سوى ليل بارد وصامت، تقطعه أصوات شخير متقطع، وهذيان نائمين، ونعيق بومة بعيدة.
في حوالي الساعة السادسة والنصف من صباح اليوم التالي، انتشر الخبر بين أفراد المجموعة.
كانت الشرطة قد عثرت على القارب الذي أعدته العصابة خلال الليل - إذ رأينا عبد الله يختفي في الظلام لمدة لا تقل عن ساعة في وقت ما - و قامت بتدميره.
دون ضجيج، بدأ الناس في الاستيقاظ، جمعوا سترات النجاة والبطانيات، وتبعوا عبد الله ومساعديه عائدين على الطريق باتجاه أقرب محطة حافلات، للرجوع إلى مخيماتهم وانتظار فرصة أخرى.
أما نحن، فكانت تنتظرنا رحلة جديدة، ومواجهة أخرى.
كنا ندرس فكرة طلب تعويض من عبد الله عبر الادّعاء بأن زميلنا (أبو أحمد)، تراجع عن رغبته في العبور.
لكننا رأينا أن من الأجدى التركيز على تتبع شركاء العصابة داخل المملكة المتحدة.
لذلك، وفي وقت لاحق من اليوم ذاته، اتصل مراسلنا المتخفي بعبد الله مرة أخرى.
أخبر أبو أحمد، عبد الله أن لديه صديقين في كاليه يرغبان في العبور أيضاً، موضحاً أنه غادر مجموعة عبد الله في الحافلة لأنه يفضّل الانضمام إلى أصدقائه في الرحلة، ثم سأل إن كان بإمكانهما الدفع في برمنغهام، كما حدث في المرة الماضية.
في اليوم التالي، عدنا إلى محطة نيو ستريت. كانت الأحداث تتكرر تقريباً كما في زيارتنا السابقة، لكن هذه المرة، عندما وصل رجل مجهول الهوية، شاب ملتحٍ آخر، إلى جانب تمثال الثور لاستلام دفعة جديدة من الأموال لصالح عصابة التهريب، قررنا كشف هويتنا. اقتربنا منه مباشرةً، بينما كانت كاميراتنا تسجّل كل شيء، وقلنا: "نحن من بي بي سي نيوز. نعلم أنك مرتبط بعصابة لتهريب البشر".
نظر الرجل حوله، وقد ارتسمت على وجهه ملامح ارتباك لحظي، وعيناه تتلفتان سريعاً. ثم استدار فجأة وانطلق يركض نحو مخرج المحطة، عابراً الشارع المقابل، قبل أن يختفي وسط المدينة.
بعد بضعة أيام، اتصلنا بعبد الله وسألناه عبر الهاتف عن أنشطته في التهريب. في البداية، أنكر ارتكابه لأي مخالفة، ثم عرض علينا مالاً، ثم قال إنه بحاجة للاتصال برئيسه، ثم أنهى المكالمة.