في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- "هذه ليست طريقة إنزال مساعدات، هي إذلال وفتنة"، كان هذا رأي الشهيد عدي القرعان في عمليات الإنزال الجوي للمساعدات، في مقطع فيديو سابق انتشر على نطاق واسع قبل يومين فقط من استشهاده الأسبوع الماضي، إثر صندوق ألقته طائرة سقط عليه وأودى بحياته.
القرعان (33 عاما) متزوج ولديه طفلان، ويعمل ممرضا في "مستشفى شهداء الأقصى" بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة ، وظهر في فيديو متحدثا بغضب عن آلية الإنزال الجوي، وشح المساعدات التي تحويها الصناديق ورداءة المواد الغذائية، وقال إن "هذه طريقة لا تليق بشعب منكوب ومجوّع".
وفقد هذا الشاب، مع ضحيتين أخريين، روحه منذ 26 يوليو/تموز الماضي، بعد أن سمح الاحتلال الإسرائيلي باستئناف عمليات الإنزال الجوي للمساعدات، قبل أن يسمح في اليوم التالي بدخول أعداد محدودة من شاحنات المساعدات من خلال منافذ برية، في مسعى منه لتخفيف الضغوط الدولية الناجمة عن سياسة التجويع التي تفتك بزهاء مليونين و300 ألف فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير والمحاصر.
ويتنامى الرفض الشعبي لآلية الإنزال الجوي التي تعتبرها هيئات محلية ودولية "غير مجدية"، وليست حلا مناسبا لحالة التجويع الشديدة التي يعاني منها الغزيون، نتيجة الحصار المشدد وإغلاق المعابر ومنع الاحتلال إدخال الإمدادات الإنسانية منذ 2 مارس/آذار الماضي.
ويترافق مع إنزال المساعدات جوا مشاهد مروعة لمجوعين يتدافعون ويتصارعون من أجل الحصول على نصيب من كميات شحيحة تحملها الصناديق من مواد غذائية معلبة وجاهزة للأكل.
ووثق شاب فلسطيني من مدينة دير البلح في واحد من مقاطع فيديو كثيرة تضج بها منصات التواصل الاجتماعي، وتندد بهذه الآلية، حصوله على بضعة أرغفة تالفة ومتعفنة، إلى جانب مظلة النايلون التي تحمل صندوق المساعدات ويستخدمها غزيون لتغطية خيامهم المتهالكة.
ومن جهته، يصف أبو سالم أماكن سقوط الصناديق بأنها "ساحة معركة"، ويقول هذا النازح من مدينة رفح ويقيم في خيمة بمواصي خان يونس جنوب القطاع، مفضلا عدم ذكر اسمه كاملا لدواع متعلقة بالسلامة، إن "عصابات مسلحة من اللصوص تستولي على أغلبية الصناديق، وتحصل قلة من المجوعين على الفتات".
"إنها غابة يأكل فيها القوي الضعيف وهذا ما يريده الاحتلال"، يقول أبو سالم (46 عاما) للجزيرة نت، وقد تحامل على مرضه وفشل في محاولتين للحصول على ما يسد به رمق زوجته وأطفاله الأربعة من الإنزالات الجوية.
وتقول هيئات محلية ودولية إن هذه الآلية تفتقر إلى عوامل الأمان والسلامة والعدالة وصون الكرامة الإنسانية، ولا تخدم الفئات الهشة في المجتمع من الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن.
وتمنع النازحة الأربعينية نيفين يحيى زوجها وأبناءها من التوجه إلى مناطق سقوط الصناديق، وتقول للجزيرة نت إنها "صناديق محملة بالموت"، وهي تشبه "مصايد الموت" التي أودت بحياة مئات من المجوعين على أعتاب مراكز توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية، المدعومة من واشنطن و تل أبيب .
وبدوره، يشكو مصطفى السوس، الذي يعمل ممرضا في "مستشفى شهداء الأقصى"، من سوء آلية الإنزال الجوي، ويصفها "بالظالمة"، ويقول إنها تفتقر إلى الشفافية والعدالة في التوزيع والوصول إلى جميع الفئات.
ويواجه السوس وأسرته (8 أفراد) ظروف حياة بائسة منذ نزوحهم الطويل من مخيم البريج إلى بلدة الزوايدة وسط القطاع، ويقضي جلّ وقته في المستشفى لمواكبة الضغوط الشديدة نتيجة ارتفاع أعداد ضحايا الحرب والتجويع، ورغم معاناته وأسرته من المجاعة فإنه يرفض بشدة أن ينساق وأبناؤه وراء الصناديق الجوية أو مراكز توزيع المساعدات الأميركية، حسب ما يقول للجزيرة نت.
ترفض هيئات دولية وأممية عمليات الإنزال الجوي للمساعدات، وتراها "مكلفة للغاية وغير فعالة"، وأكد ذلك المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أونروا ) فيليب لازاريني وقال إن "عمليات الإنزال الجوي تكلف ما لا يقل عن 100 ضعف تكلفة الشاحنات التي تحمل ضعف كمية المساعدات التي تحملها الطائرات".
و"أونروا" هي أكبر وكالة تابعة للأمم المتحدة، وأكثرها خبرة وقدرة في إدارة العمل الإنساني، ولديها 6 آلاف شاحنة محملة بمساعدات متنوعة عالقة خارج غزة في انتظار الضوء الأخضر للدخول، حسب أحدث تقرير للوكالة الأممية يغطي الفترة من 31 يوليو/تموز الماضي حتى 6 من أغسطس/آب الجاري.
وتمكنت الأمم المتحدة -بما في ذلك أونروا وشركاؤها- من إدخال 500 إلى 600 شاحنة يوميا خلال فترة وقف إطلاق النار التي استمرت من 19 يناير/كانون الثاني حتى 2 مارس/آذار الماضيين، ووصلت المساعدات إلى جميع سكان غزة بأمان وكرامة، وفقا للمفوض العام لأونروا.
ويرفض الاحتلال بشكل مطلق السماح لأونروا بإدارة عملية توزيع المساعدات، أو المشاركة فيها، ضمن مخططه لتصفيتها كأبرز شاهد على النكبة الفلسطينية منذ عام 1948.
ويقلل رئيس "شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية" أمجد الشوا من أثر المساعدات الجوية، ويقدر أن كل عملية إنزال جوية يومية تعادل حمولة شاحنة إلى شاحنتين فقط من المساعدات التي ترد عبر المنافذ البرية.
وبينما يثمّن الشوا "النوايا الطيبة" للدول التي تقوم بعمليات الإنزال الجوي، فإنه يطالبها بدلا من ذلك بالضغط على الاحتلال لفتح المعابر البرية لوقف المجاعة وإمداد القطاع باحتياجاته الأساسية التي تتعدى الطعام، وتشمل الدواء والوقود ومستلزمات الإيواء.
ويقول للجزيرة نت إن سماح الاحتلال بعمليات الإنزال الجوي يندرج في إطار محاولاته لترسيخ منظومة جديدة للعمل الإنساني وتوزيع المساعدات، تتجاوز منظمات الأمم المتحدة والهيئات المحلية والدولية الشريكة، سعيا منه لإبقاء حالة الفوضى والتجويع.
ويحدد الشوا أسباب رفض هذه الآلية وعدم جدواها، بأنها غير آمنة وغير عادلة، ولا جدوى لها من حيث كمية ما تسقطه من مساعدات ونوعيتها، وينتج عنها حالة من الفوضى، تؤدي إلى خسائر في الأرواح والممتلكات.
ويوضح أن ذلك يكون نتيجة التدافع والصراع، وجراء سقوط الصناديق على خيام النازحين والأراضي الزراعية والمنشآت المدنية، كما أنه في كثير من الأحيان تسقط صناديق المساعدات الجوية في البحر، وفي مناطق خالية من السكان وتخضع لسيطرة الاحتلال.
ويشدد الشوا على أن هذه الآلية لا تتناسب وواقع القطاع الصغير، حيث تسببت عمليات الإخلاء الإسرائيلية في تقليص مساحة وجود الناس إلى نحو 10% من المساحة الإجمالية (حوالي 360 كيلومتر مربع)، مما يجعل عمليات الإنزال الجوية بالغة الخطورة على حياة السكان وممتلكاتهم.
ويوثق المكتب الإعلامي الحكومي "ارتفاع عدد ضحايا عمليات الإنزال الجوي الخاطئ للمساعدات إلى 23 شهيدا و124 إصابة منذ بدء الإبادة الجماعية ".
ويقول المدير العام للمكتب الدكتور إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت إن "أغلب هذه الإنزالات الجوية تسقط في مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال أو في أحياء مفرغة قسريا، وذلك يعرّض من يقترب منها للاستهداف والقتل المباشر"، مذكرا بسقوط شحنات جوية داخل البحر العام الماضي أدت حينئذ إلى غرق 13 فلسطينيا من المدنيين.
ويتهم المسؤول الحكومي الاحتلال "باستغلال الإنزالات الجوية كأداة دعائية لتضليل الرأي العام، عبر الإيحاء بوجود استجابة إنسانية كافية، بينما الواقع يؤكد استمرار سياسة التجويع الممنهجة".
وهذه المشاهد الموجهة تستخدم أمام الرأي العام لنفي حقيقة المجاعة الموثقة، ولإخفاء مسؤولية الاحتلال القانونية عن حرمان السكان المدنيين من الغذاء والدواء والماء، بحسب الثوابتة.
ويتفق رئيس "الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني" الدكتور صلاح عبد العاطي مع سابقيه، ويدعو الدول المسيّرة لطائرات إنزال المساعدات إلى مراجعة هذه الآلية واستبدالها بالمنافذ البرية عبر ممارسة ضغوط على الاحتلال لرفع الحصار وفتح المعابر.
ويقول للجزيرة نت إن "الإنزال الجوي آلية مهينة، ولا يوقف المجاعة"، ويقدر أن كل ما أسقطته الطائرات وما سمح الاحتلال به من شاحنات شحيحة خلال الأسبوعين الماضيين لا يمثل سوى 14% من احتياجات السكان.
أما الحاجة فماسّة في ظل المجاعة لنحو ألف شاحنة يوميا محملة بالإمدادات الإنسانية من غذاء ودواء وحليب أطفال ومدعمات، ووقود لتشغيل المستشفيات ومرافق الخدمات ومحطات تحلية المياه، حسب تأكيده.
ووفقا للناشط الحقوقي، فإن الاحتلال يسمح بما يحافظ على خطته القائمة على "هندسة الفوضى والتجويع"، وإذ يدرك أن عمليات الإنزال الجوي ليست أكثر من "تضليل ودعاية"، فإنه يترك الشاحنات الشحيحة التي يسمح لها بالدخول عرضة للسرقة والسطو من عصابات مسلحة تتلقى دعما إسرائيليا.