ماذا يريد المثقف الصيني من الصين؟
هذا هو السؤال الذي يسأله وانغ هواي (Wang Hui)، أحد أبرز مفكري الصين الجدد . وقد وجد الإجابة بالفعل: يمكننا التقدم إلى المستقبل بالعودة إلى الوراء، أو بصيغة أدق، العودة إلى الجذور الاشتراكية، للإنسان وللعمال والفلاحين.
وانغ هواي "ذو وجهٍ مُشرق يبدو دائمًا على وشك الابتسام، نحيلٌ مكتنز، بشعر رمادي قصير، جاء على دراجة هوائية قديمة الطراز، مرتديًا سروالًا مخمليًّا داكنًا، وسترة من جلد الغزال، وبلوزة سوداء بياقة عالية. مظهرٌ لا يليق كثيرًا بحرم جامعي أميركي" هكذا وصفه الكاتب الهندي بانكاج ميشرا عند لقائه في بكين عام 2006.
في المكاتب المنسقة المصفوفة بالكتب في جامعة تسينغهوا في بكين، يسود الصمت عندما يُذكر اسم وانغ هواي. الرجل الذي نادرًا ما يُعرف على نطاق واسع، يمثّل ضمن النخبة الأدبية والفكرية الصينية مفكرًا شاملًا بارزًا، بل إن مسيرته ساهمت بشكلٍ كبير في رسم خريطة الصين في حقبة الإصلاح. وُلد وانغ عام 1959 بمدينة يانغتشو بمقاطعة جيانغسو، وارتبط صعوده ارتباطًا وثيقًا بمسيرة بلاده من التمركز الماوي إلى حداثة السوق، ومعها الصدوع الأيديولوجية والإحباطات الاجتماعية التي واكبت هذا التحول.
يعد وانغ هواي مفكرًا ومؤرخًا صينيًّا بارزًا، ليس فقط في المشهد الثقافي الآسيوي، بل في الغرب كذلك. هو كذلك من أوائل الحاصلين على لقب "أستاذ متميز" في الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تسينغهوا، حيث يعمل مشرفًا أكاديميًّا في قسمي اللغة الصينية والتاريخ. كما حصل على كرسي الأستاذية المتميزة "تشانغجيانغ" الذي تمنحه وزارة التعليم الصينية. عمل أيضًا عضوًا في اللجنة الأكاديمية لكلية شينيا (Xinya College)، وأشرف على برامجها، ودرّس فيها مقررًا بعنوان: ندوة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد (PPE) وهو تخصص عابر للتخصصات يدمج بين الحقول الثلاثة لفهم القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة من منظور تحليلي شامل.
تخرّج وانغ هواي في المدرسة الثانوية عام 1976، في نهاية الثورة الثقافية. مثل كثيرين من جيله، عمل عامين في مصنع قبل أن يُقبَل ضمن أول فوج من الطلاب بعد عام 1978، والتحق بكلية المعلمين في يانغتشو، ثم نال ماجستير من جامعة نانجينغ.
لاحقا حصل على الدكتوراه في الأدب من الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وعمل باحثًا وأستاذًا في مؤسسات مرموقة داخل الصين وخارجها، منها جامعة تسينغهوا التي يشغل فيها منصب أستاذ، وهارفرد، وكاليفورنيا، وغيرها. برز وانغ منذ منتصف التسعينيات شخصيةً محورية في المشهد الثقافي، خاصة خلال ترؤسه لتحرير مجلة القراءة (Dushu) بين عامي 1996 و2007، وهي المجلة الفكرية الأبرز في الصين، حيث قاد عبرها تحولات أثارت سجالات واسعة حول إرث الصين الفكري ومسارها الحداثي.
كانت نقطة التحوّل عام 1997 مع نشر مقاله “الفكر الصيني المعاصر ومسألة الحداثة” في مجلة تيانيا. مثّل المقال انتصارًا للتاريخ الفكري الاجتماعي، حيث رفض فيه كلًّا من الاستبداد السلطوي والرومانسيّة الرأسمالية. وأكد فيه أن على الصين شق طريقها الخاص بعيدًا عن ما وصفه بـ”استعمار الوعي” بواسطة الحداثة الرأسمالية. أشعل المقال نقاشات حادة، وعزز مكانة وانغ باعتباره مفكرًا محوريًّا فيما أصبح يعرف شعبيًّا باليسار الجديد.
في كتاباته ومحاضراته التي بدأت منذ ذلك الحين، لا يخفي وانغ هوي قناعته بأن لحظة الافتتان بالغرب التي اجتاحت الصين في التسعينيات، كانت على وشك تفكيك البنية الثقافية والتاريخية للأمة. وهو يصف تلك المرحلة بأنها "غفوة جماعية"، حيث ساد الاعتقاد بأن الحداثة لا تُصنع إلا على النموذج الأميركي، وأن الليبرالية هي نهاية التاريخ. لكن وانغ رفض الانصياع لهذه السردية.
راح الرجل ينبش في تاريخ الفكر الصيني، ويستحضر لوشون والفلاسفة المسلمين، ويحذّر من استعمار الوعي مرة بعد أخرى. لم يكن خطابه انغلاقًا قوميًا، بل صحوة فكرية تدعو إلى استعادة التاريخ، لا لتمجيده، بل لتحرير المستقبل من سطوة النماذج المستوردة. بالنسبة له، لم يهزم الغرب الصين بالسلاح، بل كاد أن يسقطها بالتصورات، ومع التحولات التي شهدتها الصين في السنوات الأخيرة، خاصة مع صعود رئيسها الحالي شي جين بينغ، تكون الصين قد استيقظت، ولو متأخرة قليلًا.
إلى جانب التدريس وأبحاثه الأكاديمية، ألّف وانغ هواي عملًا موسوعيًّا ضخمًا امتد على مدار عشر سنوات، تمثّل في أربعة مجلدات بعنوان: " صعود الفكر الصيني الحديث " ونُشر باللغة الصينية عام 2004. وبحلول عام 2023، اختارته مجلة " Prospect " البريطانية ضمن قائمة "أهم 25 مفكرًا في العالم"، مشيدةً بعمله التحليلي العميق، وواصفةً إياه بأنه مرجع لا غنى عنه لفهم تحولات الصين المعاصرة، خاصة في ظل تصاعد النزعة القومية وإعادة تشكيل الهوية الصينية الرسمية في عهد شي جين بينغ.
يفضل وانغ أن يُلقَّب "المثقف الناقد" لا "اليساري الجديد". ولأنه من المثير، بل من المستهجن، أن يظهر في الصين باحث ينتقد سياسات الحكومة، سئل وانغ ذات مرة أثناء وجوده في الغرب: هل أنت مُنشق؟ فأجاب: "لا. ما هو المنشق؟ إنه تصنيف يعود إلى الحرب الباردة. وليس له معنى الآن. يمكن للعديد من المنشقين الصينيين في أميركا العودة إلى الصين. لكنهم لا يرغبون في ذلك. إنهم يُحققون نجاحًا في الولايات المتحدة. لمن يسألني إن كنا منشقين، أقول: نحن مثقفون ناقدون. ندعم بعض السياسات الحكومية، ونعارض أخرى. يعتمد الأمر حقًّا على محتوى السياسة".
وانغ الآن في منتصف الستينات من عمره، ويُعدّ شخصية محورية بين مجموعة من الكُتّاب والأكاديميين تُعرف مجتمعةً باسم "اليسار الجديد"، وهو تيار يدعو إلى بديل صيني للنموذج النيوليبرالي، يضمن العدالة الاجتماعية وحقوق مئات الملايين من الفلاحين المهمّشين بسبب سياسات السوق.
ورغم اطراد تسميته بـ"رمز اليسار الجديد"، فإن وانغ يُفضل التركيز على كونه "باحثًا في الفكر الصيني وناقدًا لمفهوم للحداثة"، ويُبقي موقفه مرنًا. وفي بعض الحوارات، أشار إلى أن وصفه باليساري الجديد يُستخدم أحيانًا "تهمة" أو وسيلة لـ"شيطنته" من قبل التيارات القومية أو الليبرالية داخل الصين، قائلًا "لقد عارض المثقفون "اليسارية" في الثمانينيات، مُحمّلين إياها مسؤولية جميع مشاكل الصين، ويستخدم المتطرفون اليمينيون مصطلح "اليسار الجديد" لتشويه سمعتنا، وإظهارنا وكأننا بقايا من أيام الماويين".
وعلى عكس النخب المنشقة التي خرجت من رحم احتجاجات تيانانمين عام 1989، لا يرى وانغ في النظام الشيوعي خصمًا نهائيًّا، بل يعتبره أداة قابلة للتغيير من الداخل. وعلى الرغم من أن اليسار الجديد لم يصل إلى توجيه السياسات رسميًّا، فإن العديد من هواجسه أصبحت تتردد في خطاب القيادة المركزية الصينية، خاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية ومكافحة تجاوزات السوق. من أبرز أعمال وانغ: "مقاومة اليأس: لو شون وعالمه الأدبي"، و"التيه بلا مكان: حركة الرابع من مايو وأصداؤها"، و"صعود الفكر الصيني الحديث". وقد تُرجمت أعماله إلى عدة لغات، وأصبح حاضرًا بقوة في النقاش الفكري العالمي، بوصفه مثقفًا نقديًّا يجمع بين عمق التراث الصيني وحيوية الفكر النقدي الغربي.
عندما اندلعت الثورة الثقافية، كان عمر وانغ هواي سبع سنوات. في تلك الفترة، كان المثقفون مستهدفين في عهد ماو تسي تونغ. ولكن في السبعينيات، وبعد انتهاء الثورة، عاد المثقفون إلى النخبة. وكما يقول وانغ "اتفقوا جميعًا على ما يجب القيام به: على الصين التخلي عن تراثها وتقاليدها القديمة واللحاق بركب الغرب الرأسمالي. بعد أن تأثروا بالثورة الثقافية، رأى المثقفون الاشتراكية في الصين فاشلة" وهو ما يرفضه وانغ.
في تلك المرحلة، شهدت الصين سلسلة من الأحداث التي دفعتها للتخلي عن الأيديولوجيا، ليس فقط في سياستها الخارجية، بل أيضًا في طبيعة نظامها الاقتصادي. من بين هذه الأحداث: توتر العلاقات الصينية السوفياتية، وسعي واشنطن للانفتاح على الصين فيما عُرف آنذاك بسياسة "الباب المفتوح" التي قادها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر، إضافة الى تنامي الحافز الداخلي لكسر العزلة الدولية. هذه العوامل مجتمعة دفعت بالصين إلى تبني ما أصبح يُعرف بـ"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، التي تُرجمت عمليًّا إلى "سياسة الإصلاح والانفتاح"، وهي الأساس الذي ارتكز عليه صعود "الصين الحديثة".
هذه "الصين الحديثة" هي نقطة البداية النقدية في دراسات وانغ هواي، مفهومًا وتطبيقًا. فقد كانت سياسة الإصلاح والانفتاح تعني الانفتاح والاندماج في النظام الغربي الليبرالي، من خلال إصلاح الاقتصاد ليشمل اقتصاد السوق، والسماح بالملكية الخاصة، والسعي للانضمام إلى المؤسسات الغربية (مثل نظام بريتن وودز)، والانخراط في النظام السياسي الغربي (مثل الأمم المتحدة)، إضافة إلى الخروج من منطق الحرب الباردة، والصراع الأيديولوجي. كما شملت إصلاح المجالين التعليمي والثقافي، وتحديث القدرات العسكرية. ولكن كل ذلك تم ضمن سياق الحفاظ على مركزية الحزب الواحد وتعزيز سلطته، من أجل الحفاظ على شكل ما من الاشتراكية، أي الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، خصائص جديدة تجمع بين متناقضين: الليبرالية والاشتراكية.
في العقد التالي، الثمانينيات، كان الحدث الأبرز في الصين هو مظاهرات ميدان تيانانمين عام 1989، التي يرى وانغ هواي أن سببها الرئيسي لم يكن، كما ادعى الحزب الشيوعي، "الدعوة إلى الديمقراطية"، بل إن النظام الهجين الذي تمثله "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" أدى إلى "ظهور مشاكل التنمية غير المتكافئة في الصين". ووصف هواي ذلك بأنه معاناة ناجمة عن "الصدمة العلاجية لإصلاحات السوق"، موجّهًا بذلك نقدًا حادًّا لسياسات الإصلاح والانفتاح. وكان وانغ من بين آخر المتظاهرين الذين غادروا الميدان صباح 4 يونيو/حزيران 1989، مع اقتراب دبابات جيش التحرير الشعبي.
عندما عاد وانغ إلى بكين أواخر عام 1989، كانت السلطات في انتظاره، حيث يقول : "كانت تلك أصعب فترة في حياتي". سُئل مرارًا: "ما هي منظمتك؟ من كانوا شركاؤك؟" وبعد استجوابات استمرت عدة أشهر، أُرسل إلى مقاطعة شنشي بشمال غرب البلاد، حيث خضع هو وعشرات من الباحثين الشباب المعتقلين من بكين لــ"إعادة التأهيل" من خلال تعريضهم للظروف الريفية، في نفي استمر عشرة أشهر.
تبدو "إعادة التأهيل" وكأنها نمط دائم في السياسة الداخلية الصينية، تُستخدم وسيلةً "للتأديب"، فقد خضع لها أيضًا الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ أثناء الثورة الثقافية، بأمر من ماو. وكما أثّر النفي الريفي في مسيرة شي السياسية وتطوره ليصبح قائدًا للحزب الشيوعي لاحقًا، فإن نفي وانغ كان نقطة تحول.
فقد كانت تجربة وانغ في شنشي، وهي للمصادفة مسقط رأس شي، تأكيدًا لما نُفي من أجله، لا نفيًا له. فالرجل الذي نُفي إلى الريف "ليعاد تأهيله"، عاد منه مقتنعًا بصدق ما ناضل من أجله. وفي هذا السياق، يقول وانغ هواي منتقدًا التعاطي الرسمي الصيني مع الثورة الثقافية، الذي يعتبره تلاعبًا بالتاريخ: "هذا التلاعب بالتاريخ أمرٌ ضارٌّ للغاية… هذا يُؤدّي إلى وضعٍ بالغ الخطورة. فمن جهة، لا تزال الثورة الثقافية من المحرمات، ولكن من جهةٍ أخرى، ولأنها من المحرمات تحديدًا، يُمكن استخدامها ضد أي شخصٍ لا يعجبك". وعلى ذلك، كان وانغ هواي من الأشخاص الذين لا يعجبون السلطة، ونفي "ليتأدب" كما كان يحدث فترة الثورة الثقافية.
كان الوضع الاجتماعي في شنشي نقطة تحوّل في التطور الفكري لوانغ هواي، حيث يعتبر أن "تعليمه الحقيقي" بدأ هناك، قائلًا "أدركت فجأةً كم كانت حياتي في بكين بعيدة كل البعد عن هذا العالم الآخر". في تلك البيئة، عايش وانغ نتائج "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" وسياسات الإصلاح على أرض الواقع. كانت شنشي تعاني من فقر مدقع، أدى إلى زيادة حادة في الجريمة والمشاكل الاجتماعية؛ اندلعت صراعات عنيفة على الأراضي؛ لجأ الرجال إلى المقامرة، بل ضربوا وباعوا زوجاتهم وبناتهم. عاش وانغ في قرية منخفضة تحت سطح البحر، وكان مسكنه الجامعي يغمره الفيضان أثناء نومه. وكان من مهامه اليومية كتابة كتيبات تعليمية تحذر الفلاحين من المقامرة والجريمة، كما ساهم في إعادة بناء مدرسة ابتدائية دمرتها الفيضانات.
قال وانغ: "في ذلك العام، [أي خلال الأشهر العشرة] أدركتُ أهمية نظام الرعاية الاجتماعية وشبكة التعاونيات لكثير من الناس في الصين. هذه ليست فكرة اشتراكية. حتى السلالات الإمبراطورية التي حكمت الصين حافظت على التوازن بين المناطق الغنية والفقيرة من خلال الضرائب والصدقات. يحصر الناس تجربة الصين في الدكتاتورية الشيوعية وإخفاقات الاقتصاد المخطط، ويعتقدون أن السوق هو من سيتولى كل شيء الآن. إنهم لا يرون كم من الأمور في الماضي نجحت وحظيت بشعبية بين عامة الناس، مثل التأمين الطبي التعاوني في المناطق الريفية، حيث نظم الناس أنفسهم لمساعدة بعضهم بعضًا. قد يكون ذلك مفيدًا اليوم، لأن الدولة لم تعد تستثمر في الرعاية الصحية في المناطق الريفية".
هكذا، فإن الثورة الثقافية في الصين ربما تكون قد انتهت من حيث الشكل، لكنها لم تنتهِ من حيث المضمون. لقد أصبحت نمطًا متجذرًا لا تستطيع الدولة تجاوزه، ولا يستطيع مثقف مثل وانغ هواي أو غيره من الكتاب انتقاد الحكومة دون أن يخشى استحضار "أشباح الثورة الثقافية" وادعاءات "إعادة التأهيل". وإذا كانت عبارة "ثورة ثقافية" تُستخدم للإشارة إلى ثورات تحررية قادها المثقفون ضد الأنظمة السلطوية، كما في الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، التي قادها الطلاب وانضم إليها المثقفون والفنانون، فإن التجربة الصينية تقلب هذه الصورة رأسًا على عقب: فهنا، لم تكن الثورة الثقافية ثورة المثقفين، بل كانت ثورة السلطة على المثقفين والطلاب، وثورة المركزية على النقد، والمنفى على الفكر الحر.
يركز وانغ في كتاباته ونقاشاته على تناقضات "الصين الحديثة"، فهي دولة مركزية ترعى اقتصاد السوق الحر في حين تتبنى الاشتراكية. ولكن، يبقى تركيز وانغ هواي على الثراء الفاحش ورؤوس الأموال التي اقتحمت الحزب الشيوعي، حيث يرى أنه "على الرغم من التزام الحزب الشيوعي الرسمي بالمساواة، فإنه فتح باب العضوية أمام رجال الأعمال الأثرياء، وبذلك فقد استخدم العديد من مسؤوليه المحليين سلطتهم ليصبحوا رواد أعمال ناجحين على حساب سكان الريف الذين كان من المفترض أن يخدموهم، وتحالف مسؤولوه المحليون مع مضاربي العقارات، فتم الاستيلاء على أراضٍ زراعية بشكل غير قانوني، مما خلق تحالفًا بين النخبة السياسية والتجارية، يذكّرنا بنماذج مماثلة في الولايات المتحدة وشرق آسيا".
شارك وانغ في مواجهة "البدلة" بشكل مباشر. والبدلة هنا ليست مجرد زيّ رسمي، بل رمز للخصخصة التي اجتاحت مؤسسات الدولة، وخاصة الحزب الشيوعي. ففي عام 2004، اندلعت إحدى أجرأ الاحتجاجات العمالية في مدينة يانغتشو، مسقط رأس وانغ هواي.
فبعد أن باعت الحكومة المحلية مصنع نسيج مملوكًا للدولة لمطور عقاري، تم الاستيلاء على أسهم العمال بنسبة لا تتجاوز 30٪ من قيمتها الفعلية. قادت الإدارة الجديدة المصنع إلى الخسائر، مما أسفر عن تسريح أكثر من ألف عامل. على إثر ذلك، خرج العمال إلى الشوارع في تحرك غير مسبوق: قطعوا طريقًا سريعًا رئيسيًّا، وأوقفوا حركة الحافلات، وهاجموا بوابات المباني الحكومية. كان الغضب عارمًا، والنقمة شديدة على الخصخصة التي جردتهم من حقوقهم.
وانغ هواي لم يكن بعيدًا عن هذه اللحظة. إذ أدى دورًا مباشرًا في دعم العمال، وساعدهم في اتخاذ خطوات قانونية ضد الحكومة المحلية. علاقته بالعمال كانت شخصية أيضًا؛ قبل التحاقه بالجامعة، كان وانغ قد عمل في مصنع قريب، راتبه حينها لم يتجاوز دولارين شهريًّا، لكنه كان يتذكر كيف كان العمال، رغم قسوة ظروفهم، يشعرون بشيء من الأمان.
لم يكن حضوره في يانغتشو تنظيميًّا بقدر ما كان عودة إلى ذاته الأولى. وكأنه رجع إلى مسقط رأسه راكبًا دراجته القديمة، مرتديًا نفس السترة الباهتة، ونفس السروال المخملي، لكن وجهه هذه المرة لم يكن فقط على وشك الابتسام، بل كان يبتسم فعلًا: فقد ثار الفلاحون والعمال على البدلة.
ولذلك، يرى وانغ أن الديمقراطية "ليست مجرد مسألة توسيع للحرية السياسية للطبقة الوسطى، أو خلق حقوق قانونية ودستورية لأقلية مُكِّنت سلفًا بدرجة كبيرة من خلال إصلاحات السوق… فالديمقراطية في الصين يجب أن تستند إلى الموافقة والتعبئة الفعالة لغالبية السكان، وأن تكون قادرة على ضمان العدالة الاجتماعية والاقتصادية لهم". ومن هنا، فإن الحل من وجهة نظره هو أن الدولة "لن تتغير إلا عندما تتعرض لضغط من قوة اجتماعية كبرى، مثل العمال والفلاحين".
كانت مشاركته نابعة من اقتناعه بأن الخصخصة هي أحد أهم أسباب الفساد في النظام السياسي والاقتصادي الصيني. وفي مواجهة مباشرة مع الحزب وسياسات الدولة الاقتصادية، يقول وانغ هواي إن "الأساس المؤسسي للفساد ينبع مباشرة من الملكية الخاصة للشركات المملوكة للدولة". ويضيف "الفساد لا يقتصر على فساد الأفراد فحسب، بل يشمل أيضا عملية الخصخصة التي يُمكَّن من خلالها العديد من أصحاب السلطة، إلى جانب المستثمرين، من تحويل الأموال من الممتلكات العامة إلى جيوب خاصة، والتخلص من مسؤولية الدولة تجاه الطبقة العاملة".
يُقدّم وانغ هواي نقدًا جذريًّا لمسار ومفاهيم "التحديث الصيني" و"الصين الحديثة،" حيث يرى أن الفكر الصيني المعاصر بعد عام 1989 انفصل عن النقد البنيوي للرأسمالية والدولة ومفهوم التحديث نفسه. ويرى أن الإصلاحات بعد عام 1989 سرّعت اندماج الصين في النظام الرأسمالي العالمي، رغم احتفاظها الرسمي بعباءة الاشتراكية، قائلا: "لقد امتثلت الصين تمامًا لإملاءات رأس المال ونشاطات السوق". ومن ثم فهو يشكك في كون الاشتراكية لا تزال قائمة فعليًّا في الصين بشكل بنيوي.
يبتعد وانغ هواي عن الجموع، ويبتعد بفكره عن الفكر الصيني المعاصر، لأن المفكرين المعاصرين من وجهة نظره تخلوا عن الجذور، قائلا: "لقد تخلو عن تحليلهم لرأس المال وتأثيره في الثقافة والسياسة الصينية، والعلاقات المتضاربة بين السوق والمجتمع والدولة، وركزوا فقط على مستوى الأخلاق أو الأطر الأيديولوجية للتحديث". ومن ثم، يجدهم تحولوا من مثقفين صينيين حقيقيين ونقاد بنيويين يطرحون أفكارًا ذات صلة بالعمال والفلاحين، إلى ما يُشبه الوعّاظ الأخلاقيين: "أصبح النقد الأخلاقي بديلًا عن التحليل الطبقي والاقتصادي".
وانطلاقًا من هذا الموقف، يوجّه وانغ هواي نقدًا قاسيًّا إلى ما يُسميه "العالم الفكري الصيني الرسمي"، الذي هو في رأيه، يتجاهل الأزمات البنيوية العميقة، إذ يقول "رأس المال يتغلغل في كل ركن من أركان الحياة الاجتماعية والسياسية، وعمليات التحديث تُغرقنا جميعًا في أزمات اجتماعية متعددة، مثل الانفجار السكاني، والتدهور البيئي، واختلالات نظام التوزيع الاجتماعي، والفساد، والظروف السياسية المرتبطة بها التي لا يمكن فصلها عن هذه القضايا. ومع ذلك، فإن الحقيقة المذهلة هي أن العالم الفكري الصيني يتجنب مناقشة أي منها".
في ضوء هذا الغياب للفكر النقدي البنيوي، يحلم وانغ هواي بالعودة إلى الجدالات الفكرية الحقيقية داخل الحزب الشيوعي، تلك التي كانت حاضرة فيما يسميه " الأيام المجيدة " حين كان للنقاش والنضال والأفكار داخل الحزب معنى سياسي وفكري أصيل، قبل أن يُستبدل كل ذلك ببيروقراطية الدولة وتكنوقراطية السوق.
لا يمكن إلا أن يقال إن وانغ هواي مثقف شجاع، وفعليًّا يوصف بأنه "شخصية ثورية". فبجانب نقده للبيئة الفكرية داخل الصين، يطرح أفكارًا تتحدى بشكل مباشر التوجهات الدولية الرسمية لأعلى سلطة في الصين، وخاصة فيما يتعلق بالعولمة والتنظير لآسيا.
يردد الرئيس شي جين بينغ مرارًا أنه يجب الحفاظ على العولمة الاقتصادية والانفتاح الدولي لأنهما ضروريان لمستقبل الصين. خلال اجتماع وزراء خارجية ورؤساء الهيئات الدائمة لمنظمة شنغهاي للتعاون، مؤخرًا، قال شي يجب على المنظمة أن "تعزز عالما متعدد الأقطاب أكثر مساواة ونظاما، وأن تدعم التشاور المكثف والمساهمة المشتركة من أجل تحقيق المنافع المشتركة لجعل العولمة الاقتصادية أكثر فائدة وشاملة على الصعيد العالمي".
وفي نفس السياق، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن "التعددية القطبية والعولمة الاقتصادية هما الاتجاهان السائدان في تقدم المجتمع البشري… تؤمن الصين… بعولمة اقتصادية شاملة ومفيدة للجميع… ومستعدة للعمل مع جميع الدول لتوجيه التعددية القطبية والعولمة الاقتصادية نحو الاتجاه الصحيح، كما يتوقعه العالم أجمع، ولجعل الحوكمة العالمية أكثر عدلًا وإنصافًا". بالنسبة لشي ، تعد العولمة الأداة الرئيسية لإنجاز التحديث الصيني والديمقراطية، مؤكدًا التزام الصين بها، باعتبارها ركيزة لتحويل الصين إلى "دولة اشتراكية حديثة مزدهرة وقوية وديمقراطية ومتقدمة ثقافيًّا ومتناغمة بحلول احتفالها بالذكرى المئوية لتأسيسها في عام 2049".
لكن وانغ هواي يرى العكس تمامًا، إذ ينتقد هذا التصور بشدة، معتبرًا أن تجارب الدول الأخرى أثبتت أن العولمة أدت إلى "انهيار الاكتفاء الذاتي للصناعات الوطنية". ويرفض ربط شي بين التنمية الداخلية والعولمة الاقتصادية، قائلا إن العولمة "لا تستطيع حل المشكلات الاجتماعية المتعددة التي نواجهها الآن. من منظور تطور العالم الحديث، لم تُنتج عولمة الإنتاج والتجارة مؤسسات سياسية واجتماعية جديدة قادرة على تجاوز الأشكال التنظيمية الجديدة للدولة والمجتمع داخل الدول القومية، كما أنها لم تتمكن من معالجة المشكلات السياسية والاقتصادية للمناطق الطرفية في آسيا وأميركا اللاتينية. بل كانت أقل قدرة على سد الفجوة بين ما يسمى بشمال أوروبا".
أما فيما يتعلق بآسيا، فإن الصين الحديثة، ركزت مرارًا على الترويج لمبدأ "آسيا للآسيويين"، وهي صيغة تذكّر بالشعار الأميركي في القرن التاسع عشر "أميركا للأميركيين"، الذي استُخدم لمناهضة الاستعمار الأوروبي في نصف الكرة الغربي. الصيغة الصينية اليوم تؤدي وظيفة مشابهة، إذ تُستخدم لرفض التدخلات الغربية في شؤون القارة الآسيوية، وبوجه خاص، الوجود الأميركي السياسي والعسكري في المنطقة. وفي هذا السياق، يقول شي: "إن الأمر متروك لشعوب آسيا لإدارة شؤون آسيا، وحل مشاكل آسيا، والحفاظ على أمن آسيا".
غير أن وانغ هواي يرفض هذا النوع من الطرح الذي يُصوّر آسيا فضاءً حضاريًّا مستقلًّا مغلقًا ومنفصلًا عن بقية العالم. بل على العكس، يشير إلى أن الحداثة الآسيوية لا يمكن فهمها إلا في ترابطها التاريخي العميق مع الحداثة الأوروبية. فقد كان هناك تبادل اقتصادي وثقافي كثيف بين آسيا وأوروبا منذ القرن الثالث عشر، لدرجة أنه بدون هذا التبادل "لم تكن الثورة الصناعية لتحدث أصلًا في أوروبا"، بحسب تعبيره. ويتابع وانغ نقده لهذه الرؤية الانعزالية عبر تأكيد أن مفهوم "آسيا" نفسه لا يعني كيانًا موحدًا أو أصيلًا، بل نتاج تاريخي معقد مليء بالتناقضات.
فهو يرى أن "فكرة آسيا لطالما حملت وجوهًا متناقضة: استعمارية ومناهضة للاستعمار، قومية وأممية، محافظة وثورية في آنٍ معًا". وفي معرض رفضه لفكرة بناء تحالف إقليمي آسيوي على نمط الاتحاد الأوروبي، يُظهر وانغ أن السياسات الإقليمية في آسيا لا تزال رهينة منطق الدولة القومية، وهو ما يظهر جليًا في مشاريع مثل "ASEAN" أو "المنتدى الآسيوي"، التي لا تتجاوز الإطار الوطني في ممارستها الفعلية. ويؤكد أن "الروابط الإقليمية في آسيا لا تزال امتدادًا للعلاقات بين الدول، إذ تظل الدولة القومية هي الفاعل الأساسي في تشكيل العلاقات الإقليمية". وعليه، يرى وانغ أن محاولة تكرار تجربة الاتحاد الأوروبي في آسيا محكوم عليها بالفشل، نظرًا إلى التنوع الثقافي والديني الكبير في القارة. فهو يقول: "أيّ محاولة لتصوير آسيا كثقافة موحدة أمر غير ممكن… ينبغي أن تستند رؤية آسيا إلى تنوعها الثقافي والسياسي".
في حديثه مع موقع OpenDemocracy ، يرفض وانغ هواي المقاربة الشائعة التي تساوي بين الديمقراطية والتعددية الحزبية والانتخابات، معتبرًا أنها غير كافية لتقييد السلطة البيروقراطية أو تحقيق تمثيل سياسي فعلي. فالسؤال، في رأيه، لا يتعلق بعدد الأحزاب، بل بطبيعة السلطة وتوزيعها.
يشير إلى أنه حتى في الأنظمة التي تعتمد انتخابات دورية وتعددية حزبية، كما في روسيا أو إيران، لا يُضمن وجود ديمقراطية حقيقية، إذ قد تحتكر النخب السياسية والاقتصادية زمام الأمور. ويضرب مثالًا بالهند، حيث تُسجّل خيبة أمل واسعة من الأحزاب التقليدية، على الرغم من حيوية الحركات الاجتماعية، التي تبقى ضعيفة التأثير في النظام البرلماني. ويحذّر وانغ من الانخداع بالشكل الديمقراطي دون النظر إلى مضمونه الاجتماعي. إذ يرى أن الانتقال المفاجئ إلى نظام تعددي في الصين لن يؤدي بالضرورة إلى تمثيل شعبي أوسع، بل قد يفتح الباب أمام سيطرة الرأسماليين الكبار على البرلمان، مما يُحوّل الفقر والتهميش إلى ظواهر "مشروعة" تحت غطاء ديمقراطي زائف.
يمد وانغ هذا النقد إلى أزمة أشمل تتعلّق بتآكل الأحزاب السياسية في مختلف أنحاء العالم، مشيرًا إلى أن البرلمانات في الأنظمة الليبرالية لم تعد أكثر من أدوات لضبط الاستقرار الاقتصادي، في ظل إجماع على سياسات الاقتصاد الكلي.
وفي هذا السياق، لم يعد الحزب الشيوعي الصيني، من وجهة نظره، حزبًا بالمعنى السياسي التقليدي، بل أصبح "حزب دولة"، مندمجًا في بيروقراطية الحكم ويعمل ضمن منطقها، لا بوصفه فاعلًا سياسيًّا مستقلًّا. وهي ظاهرة يراها جزءًا من اتجاه عالمي يُفضي إلى انفصال النظام السياسي عن البنية الاجتماعية.
لكن وانغ، رغم نقده الحاد، لا يتخلى عن رؤيته الديمقراطية. فهو لا ينتمي إلى النموذج الليبرالي الغربي، ولا يتمسّك بالاشتراكية التقليدية، بل يدعو إلى تصور جديد للسياسة يتجاوز هذه الثنائيات. ويرى أن الحزب لم يعد قادرًا على تمثيل الطبقات الشعبية، وهو ما يفرض الحاجة إلى تأسيس تنظيمات مستقلة تعبّر عن العمال والفلاحين وغيرهم، وتشارك بفعالية في النقاش وصنع القرار في الفضاء العام.
ويشدّد على أن السياسات يجب ألا تُقرّ فقط من قِبل الحزب، بل من خلال آليات تمثيلية حقيقية، بما في ذلك الكونغرس أو البرلمان. ورغم إدراكه لمدى رفض الحزب الحاكم لهذا النوع من الانفتاح، فإن وانغ يُصر على أن المشاركة السياسية الفعلية لا يمكن اختزالها في تنازلات اقتصادية ظرفية تُقدَّم عند تصاعد الاحتجاجات، بل تتطلب انفتاحًا بنيويًّا حقيقيًّا على رقابة المجتمع.
ينطلق وانغ هواي في هذا التصوّر من التزامه العميق بالحركات الاجتماعية والعمالية. وهو يعتبر أن التجربة الاشتراكية الصينية كانت محاولة غير مكتملة لصياغة منطق يتجاوز تناقضات الدولة، ولهذا اندلعت الثورة الثقافية سعيًا لإعادة تشكيل علاقات العمل والتقسيم الاجتماعي. لكنه في الوقت نفسه يرفض خطاب التخلي الكلي عن هذا الإرث، ويحذّر من اختزال الاشتراكية في إخفاقاتها، قائلًا إن اعتبار كل تجارب القرن العشرين الاشتراكية "خاطئة" هو ببساطة استسلام. ويختم بتحذير من نوع من "الصوابية السياسية" داخل أوساط اليسار المعاصر، يمنع النظر النقدي الجاد إلى التاريخ الاشتراكي، قائلا: "هناك من يظن أن مجرد الحديث عن هذا التاريخ يربطك تلقائيًّا بكوارثه. لكن هذه طريقة رخيصة في كتابة التاريخ".
وفي السياقات الحزبية، سواء في الغرب أو في الصين، يرى وانغ هواي أنها لم تعد تمثل القوى الاجتماعية، بل تحولت إلى أدوات إدارية تخدم منطق الدولة بدلًا من أن تمارس السياسة باسم الناس. في الديمقراطيات الغربية، لم تعد الأحزاب تخلق اختلافًا حقيقيًّا، بل أصبحت أدوات تمتلكها الدولة لإدارة الاستقرار في ظل إجماع اقتصادي عام. في السياق الصيني، يصف الحزب الشيوعي بأنه لم يعد حزبًا سياسيًّا بالمعنى الثوري، بل أصبح جهازًا بيروقراطيًّا فقد ارتباطه بالجماهير، ولم يعد يمثل الطبقات الشعبية أو يقودها، مؤكدًا أن هذه الظاهرة ليست حكرًا على الصين، بل هي حالة عامة من تآكل الحياة السياسية. وهكذا، فإن الأزمة في نظره ليست غياب الديمقراطية الليبرالية، بل غياب سياسة تمثيلية حقيقية مرتبطة بالقوى الاجتماعية، وخصوصًا الطبقة العاملة، التي أصبحت في الوقت الراهن غائبة سياسيًّا رغم وجودها العددي الضخم.
الحزب، إذًا، لا يمثل أحدًا، لكنه لا يزال يحتكر التمثيل. وبالتالي، تحول الأحزاب لأدوات تخدم الدولة وليس الشعب، هو ظاهرة تمثل جزءًا من تحول أوسع شمل انهيار التمثيل السياسي الحقيقي، حيث أصبحت السياسة تُدار تقنيًّا دون مشاركة شعبية فاعلة. وهذا، كما يرى ، لا يعني بالضرورة أن الحل يكمن في استيراد نموذج الأحزاب الليبرالية الغربية، بل في إعادة التفكير في سياسة جديدة تتجاوز كلا النموذجين، وتتأسس على التعبئة الاجتماعية والتمثيل الطبقي الأصيل.
يرى وانغ هواي أن اليسار العالمي يتعامل مع تاريخ الاشتراكية بتبسيط وتعميم، وهو ما يحذر منه قائلًا: "على اليسار أن يتأمل بعمق في فشل الاشتراكية في تجاوز التراتبية والبيروقراطية. ولكن، القول إن كل تجارب الاشتراكية كانت فاشلة أو أنها لم تكن اشتراكية أصلًا، هو بمثابة استسلام مبكر". لكنه لا يكتفي بالنقد، بل يُقدّم تفسيرًا أكثر دقة، معتبرًا أن الاشتراكية الصينية كانت محاولة غير مكتملة لصياغة منطق خاص للدولة الاشتراكية يمكنها من تجاوز تناقضاتها الذاتية، ويقول: "لهذا السبب اندلعت الثورة الثقافية، بحثًا عن تقسيم أكثر مرونة للعمل".
ويعتبر هواي أن مركزية فهم القرن العشرين لا تتأتى من دون الاطلاع على التجربة الاشتراكية، فقد كان أهم حدث في ذلك القرن، تفكك النظام الاشتراكي، الذي يشكل "أعظم تجربة في تاريخ البشرية بأكمله". ومقارنة بالرأسمالية، فهي لم تنتشر عبر الاستعمار والتجارة، بل جاءت ردًّا على التاريخ الرأسمالي. وفي هذا السياق، وانغ هواي لا يُدين الصين بوصفها مسؤولة عن تفكيك الاشتراكية، لكنه يعترف بأنها ساهمت بفعالية في هذا التحوّل، خاصة عبر تبنّيها سياسات السوق والانفتاح، مما جعلها جزءًا من الانهيار التدريجي للنظام الاشتراكي العالمي بعد 1989. ولذلك، يحاجّ بأن القرن العشرين لم يغيّر فقط الحاضر الصيني، بل أعاد تشكيل الماضي أيضًا. الصين الحديثة وُلدت من خلال إعادة كتابة تاريخها ودمجها لتجارب العالم داخل مشروعها الوطني، لكن هذا النوع من التفاعل التاريخي أصبح مهدّدًا في عصر العولمة الراهن.
في السنوات الأخيرة، كثّف وانغ عمله في مجالات التاريخ الفكري العالمي، والانتقاليّات المقارنة، والحداثة الصينية، أو ما يسميه “التفكير في الصين كفضاء”. في تأملاته حول ثورة 1911 وروابط آسيا الفكرية مع أوروبا، يجسّر وانغ بين الشرق والغرب، الماضي والحاضر.
فما يلفت النظر في مقابلات الرجل أنه حين يُسأل عن قضايا الحاضر في الصين، لا يبدأ بالإجابة المباشرة، بل يعود إلى التاريخ. بالنسبة له، لا يمكن فهم مشكلات اليوم دون العودة إلى القرن العشرين. ولهذا، حين يُسأل عن الحاضر، يبدأ بالسؤال المعكوس : "كيف وُلد القرن العشرون؟ وما موقعه في التاريخ الصيني؟".
في جوابه، يقدّم أطروحة جذرية: القرن العشرون لم يكن مجرد مرحلة زمنية في الصين، بل كان أول "قرن" حقيقي بمعناه المفاهيمي. فقبل ذلك، لم يكن لدى الصين مفهوم "القرن" كما نستخدمه اليوم، وكل التصنيفات الزمنية المستخدمة في سرد التاريخ الصيني الحديث، كما يقول، انبثقت من تجربة هذا القرن تحديدًا. ومن هنا، لا يُعدّ القرن العشرون امتدادًا طبيعيًّا لما قبله، بل نقطة قطيعة وتحول جذري، أعادت تعريف مفاهيم السياسة، والمجتمع، والتاريخ، وحتّى الحداثة ذاتها. بالنسبة له، لا يمكن الحديث عن "الحداثة في الصين" دون المرور عبر بوابة هذا القرن. في ظل الاستعمار العالمي والإمبريالية، تغيّر أيضًا مفهوم "الدولة القومية". لم تعد الدولة مجرد كيان ثقافي أو رمزي، بل أصبحت كيانًا سياسيًّا واقتصاديًّا بالدرجة الأولى، يتمحور حول المال والسلطة الاقتصادية.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، يطرح وانغ فكرة مثيرة: لكي تولد "الصين الحديثة"، كان على القرن العشرين أن يخترع الماضي، لا أن يرثه ببساطة. فقد تطلّب تشكّل الهوية الحديثة للصين، صياغة سردية خاصة للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لم يكن لهذا الماضي وجود موحّد في الوعي الصيني قبل ذلك، بل أُعيدت كتابته ضمن مشروع وطني جديد. وفي هذا السياق، لجأت الصين إلى استيعاب تجارب ثورية عالمية، مثل الثورة الفرنسية، والروسية، والأميركية، وثورة تركيا، لتكون مصادر لإلهامها السياسي والفكري. وكما يقول وانغ: "كانت عملية إنشاء الصين لما قبل تاريخها الخاص في القرن العشرين، أيضًا عملية تحويل لتواريخ العالم الآخر إلى جزء من تاريخها". تحوّلت هذه الأحداث "المحلية" في سياقاتها الأصلية إلى مكونات أساسية في الخيال التاريخي الصيني، لأنها وفّرت نماذج لفهم السيادة، والسياسة البرلمانية، والحزب، والدولة.
عند التمعن في شخصية وانغ، نكتشف رجلًا بطبقات معقّدة. فقد كان له تعاطف مبكر مع الماوية، ثم شكّك فيما بعد في الديمقراطية الليبرالية بعد أحداث تيانانمين، ليتحول لاحقًا نحو تبنّي التنمية بقيادة الدولة. يرفض وانغ الانصياع للتعريفات الأيديولوجية السطحية. يظل "وطنيًّا ناقدًا"، لا يتوانى عن نقد دولته، وهو توازن يجعله مؤثرًا ومثيرًا للجدل في آن واحد.
وختامًا، فإن وانغ هواي ليس مثقفًا عابرًا أو معارضًا نمطيًّا. لا هو مهاجر، ولا منشق، ولا منفي، بل ناقد من الداخل. إنه صيني اشتراكي، نقدي، باحث عن المعنى السياسي المفقود حول العلاقة بين الدولة والحزب والمجتمع. يُؤمن بأن الجذور الاشتراكية لم تكن خطأ، بل كانت فرصة غير مكتملة. ويرفض أن يكون مجرّد "مثقف معارض" بالمعنى الغربي، فلا يطمح للإطاحة بالنظام، بل لإصلاحه بنيويًّا، وجذريًّا، عبر العودة إلى التاريخ والنقد والتحليل الطبقي.
في النهاية، قد لا يُجيب وانغ هواي بشكل مباشر عن سؤال: "ماذا تريد من الصين؟" لكنه، عبر كتاباته ومحاضراته وتحليلاته، يُخبرنا أنه يريد شيئًا بسيطًا، وبالغ الصعوبة: أن تستعيد الصين ذاكرتها، وأن تحكم لصالح الذين أنشؤوها، لا لصالح البدلة، أي للأرض والإنسان، لا لرأس المال وأربابه.