"حين أموت سأرسل من السماء أمطاراً من الورود على الأرض، سأقضي سمائي بفعل الخير على الأرض"، عكست القديسة تريز الطفل يسوع الوجه الأقدس، الملقبة بـ "وردة المسيح الصغيرة"، بهاتين العبارتين في حواراتها الأخيرة قبل وفاتها، روحانية عميقة، ورغبة مستمرة في خدمة النفوس بلا حدود، وهو ما جعل تأثير هذه القديسة الفرنسية صغيرة السن يتخطى حدود العقائد الدينية ليلمس القلوب في شتى أرجاء العالم.
ألهبت كتابات تريز البسيطة عن "محبة الله" مشاعر كل من قرأها، فوجد فيها المسيحيون نموذجاً حياً للقداسة اليومية، ورأى فيها غير المسيحيين صورة نقيّة للإنسان الممتلئ حباً وسلاماً وصدقاً، فأصبحت رمزاً إنسانياً يحمل رسالةً عن "معرفة الله من خلال الثقة البسيطة والحب المتواضع".
وعلى الرغم من رحيلها المبكر عن هذا العالم، في عمر 24 عاماً فقط، تركت تريز وراءها إرثاً روحياً عميقاً، تجلّى في تعاليم رسمت درباً إيمانياً أُطلق عليه اسم "الطريق الصغيرة" نحو القداسة، وهو طريق روحي قائم على الثقة الكاملة بالله، وممارسة الأعمال اليومية الصغيرة بمحبة فائقة، فأصبحت واحدةً من أكثر القديسين المحبوبين، ويحمل اسمها ما يزيد على 700 كنيسة في العالم، وتُكرَّم في الكنيسة الجامعة كمعلّمة روحيّة، وتعد شفيعة فرنسا الثانية بعد القديسة جان دارك (1412-1430).
ومؤخراً، أثارت صورة "زهرة بيضاء" وُضعت على قبر البابا الراحل فرنسيس، كثيراً من التساؤلات والتأملات: هل هي تلميح رمزي إلى "وردة المسيح الصغيرة"؟ ورغبة لإبراز عمق صلة البابا وتأثره بالقديسة تريز في حياته وخدمته البابوية؟ وبدون شك، أسهمت رمزيّة تلك "الزهرة البيضاء" في تحريك القلوب، وأيقظت في الأذهان حضور القديسة تريز في عالم مضطرب مليء بالحروب والآلام، بلغةٍ لا تعرف إلا الحب، في الذكرى المئوية لإعلان قداستها هذا العام.
دأب البابا الراحل فرنسيس، طوال حياته وسنوات حبريته، على إبراز علاقته العميقة بالقديسة الكرملية تريز الطفل يسوع، التي كان يودع بين يديها مشاكله مناشداً إياها، "أن تحملها بين يديها وتساعده على قبولها".
وكان البابا حريصاً على وضع "زهرة بيضاء" على منضدة في شقته الخاصة في بيت القديسة مرتا، كرمز لعلاقته الوثيقة بالقديسة تريز، التي لجأ إليها مراراً من أجل بركتها وسط آلامه وآلام الآخرين، واليوم توضع "زهرة بيضاء" أخرى على قبره بجوار اسمه، في قلب بازيليك مريم الكبرى، والتي "لم تكن لفتة فنية بقدر ما كانت امتداداً لخط وفاء ومحبة" بينهما.
ظلت الزهور البيضاء رفيقة البابا الراحل طوال مسيرته، وتحدث عنها في كتاب حوارات "الكاهن اليسوعي"، إذ وصف صحفيان مكتبة هذا الكاردينال آنذاك بأنها تضم "مزهرية مليئة بالزهور البيضاء"، موضوعة أمام صورة للقديسة تريز، وفسّر وقتها قائلاً: "عندما تواجهني مشكلة، لا أطلب من القديسة أن تحلّها لي، بل أن تحملها بين يديها وتساعدني على قبولها. وعادةً أتلقى إشارة، في شكل زهرة بيضاء"، بحسب الفاتيكان .
والسؤال، من أين جاءت رمزية "الزهرة البيضاء" لحياة القديسة تريز؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في 29 مايو/أيار عام 1887، عندما أفصحت تريز لأبيها، في حديقة البويسُّونيه، عن سر رغبتها في حياة الرهبنة ودخول الدير، ورغم اعتراضه على صغر سنها، نجحت في إقناعه، فقطف زهرة وقدّمها لابنته، وقال لها: "هذه الزهرة البيضاء رمز لحياتك كلها".
وتؤكد تريز نفسها اعتزازها بهذه الرمزية التي احتفظت بها طوال حياتها، ونجدها تستهل كتابة سيرتها "قصة نفس" وتقدمها بـ "قصة زهرة صغيرة بيضاء ربيعية كتبتها بيدها وأهدتها إلى الأم المحترمة أنييس ليسوع"، كما تختتم المخطوطة (أ) من سيرتها وهي تسأل، مشيرةً إلى نفسها: "كيف ستنتهي قصة هذه الزهرة الصغيرة البيضاء؟ هل تُقطف الزهرة الصغيرة وهي يافعة، أم تُنقل إلى شواطيء أخرى... إني أجهل ذلك. ولكن ما أعلمه علم اليقين هو أن رحمة الله سترافقها دوماً".
ويشير موقع الفاتيكان إلى أنه في شهر سبتمبر/أيلول عام 2013، في بداية فترة حبرية البابا فرنسيس، عندما دعا إلى أمسية صلاة في ساحة القديس بطرس من أجل السلام في سوريا، تُليت مقاطع من قصائد نظمتها القديسة تريز خلال الصلاة، وعند عودته إلى مقر إقامته، تلقى البابا هدية مفاجئة من بستاني عبارة عن "زهرة بيضاء" قُطفت لتوها من حدائق الفاتيكان.
كما كرس البابا فرنسيس "إرشاده الرسولي" السابع خلال حبريته، للقديسة تريز، والذي نُشر تحت عنوان " إنها الثقة "، بمناسبة الذكرى الـ 150 لميلادها، وأيضاً الذكرى المئوية لتطويبها، استعرض فيه البابا "عمق العبقرية الروحية واللاهوتية" للقديسة تريز التي طالما تمنى أن تكون رفاتها، وكذلك رفات والديها، لويس وزيلي مارتان، حاضرة في قلب ساحة القديس بطرس، وهو يلقي تعاليم دينية ويقدّم القديسة كمثال عليها.
قال البابا في إرشاده الرسولي متحدثاً عن القديسة تريز: "في زمنٍ يشجعنا على الانغلاق على مصالحنا الذاتية، تقدم لنا تريز مثالاً على جمال كيف نجعل الحياة هبةً تُقدم للآخرين.. في زمن انطوى على الفردية، تكشف لنا تريز قيمة المحبة المتجسدة في الشفاعة للآخرين. في زمن افتُتنت فيه البشرية بالعظمة وأشكال السلطة الجديدة، ترشدنا تريز إلى طريق الاتضاع. في زمن يُهَمّش فيه كثيرون، تعلمنا تريز فضيلة اليقظة ورعاية الآخرين. في زمن مليء بالتعقيد، تساعدنا تريز على إعادة اكتشاف البساطة، ووضع أولوية مطلقة للمحبة، والثقة، والتسليم لله".
وُلدت ماري-فرانسواز-تريز مارتان، في ألنسون في فرنسا، في الثاني من يناير/كانون الثاني عام 1873، وكانت أصغر أولاد لويس مارتان وزيلي غيران التسعة، توفي منهم ولدان وبنتان، ولها أربع شقيقات هن على الترتيب: ماري-لويز (فيما بعد الراهبة ماري للقلب الأقدس)، وماري-بولين (الأم أنييس ليسوع)، وماري-ليوني (فيما بعد الراهبة فرانسواز-تريز)، وماري-سيلين (فيما بعد الراهبة جينفياف الوجه الأقدس).
كان والدها يعمل صانعاً للساعات، أما والدتها فامتهنت الحرف اليدوية، ولأن تريز وُلدت ضعيفة البنية، فقد أرسلتها والدتها إلى مرضعة في عامها الأول، وقد عُرفت الطفلة بحنانها ودفء عاطفتها وارتباطها الوثيق بعائلتها، لذا كانت وفاة والدتها بمرض السرطان وتريز لم تكد تبلغ أربع سنوات وثمانية أشهر، تجربة صادمة لها أغرقتها في حزن عميق وحساسية مفرطة دامت ثماني سنوات.
يمكن تقسيم حياة تريز من واقع سيرتها الذاتية التي كتبتها بنفسها بعنوان "قصة نفس" إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، وهي الطفولة المفعمة بالسعادة قبل وفاة والدتها؛ والمرحلة الثانية من عام 1877 حتى 1886، ووصفتها بـ "شتاء التجربة"، وهي فترة برزت خلالها الحساسية الزائدة والتعب والوساوس الدينية؛ والمرحلة الثالثة من عام 1886 حتى عام 1897، والتي بدأت بتحول داخلي روحاني وانتهت بدخولها الحياة الرهبانية حتى الوفاة.
في عام 1881، انتقلت الأسرة إلى مدينة ليزيو الفرنسية، والتحقت تريز كطالبة في مدرسة دير البنديكتيات، كانت شديدة الخجل ومنطوية، مما جعلها تكره أجواء المدرسة، وفي سن العاشرة، عام 1883، عانت من نوبات مرضية وغيبوبة دامت ثلاثة أشهر، وبينما كانت تتضرع للسيدة العذراء بدموعها، شُفيت على الفور، وآمنت تريز بأن هذا الشفاء كان معجزة، حسبما قالت في "قصة نفس".
انضمت أختا تريز، بولين ثم ماري، قبلها إلى دير الكرمل المنعزل في ليزيو، وهناك أرادت تريز أن تكرّس حياتها في خدمة الله، لأنها رأت أن "الرسالة الروحية يمكن أن تكون أكثر نفعاً للنفوس من خلال رهبنة التأمل"، لذا تقدمت بطلب انضمام لدير الكرمل وهي في الرابعة عشرة من عمرها، فرحّبت بها الراهبات، إلا أن الأب دولاترويت، المشرف الكنسي على الدير، رأى أن تنتظر حتى تبلغ الحادية والعشرين.
طلبت تريز بصحبة والدها مقابلة الأسقف هوغونان، أسقف بايو-ليزيو، لتلتمس منه الانضمام المبكر للدير، ووعدها بالنظر في الأمر، ثم سافرت مع والدها وأختها سيلين إلى روما، وأثناء اللقاء العام، قُدّمت إلى البابا ليو الثالث عشر، وعلى الرغم من الحظر المفروض على الحديث، ناشدته تريز أن يسمح لها بدخول الكرمل وهي في سن الخامسة عشرة، فأجابها: "إذا شاء الله، ستدخلين".
دخلت تريز، في التاسع من أبريل/نيسان 1888، دير الكرمل بعمر الخامسة عشرة، وقضت فيه السنوات التسع والنصف المتبقية من عمرها، لم تكن فترة خالية من المتاعب، وكرّست ذاتها للصلاة وحياة التأمل، وعاشت بأمانة صارمة لقواعد الرهبنة، ومارست واجباتها اليومية بتواضع وصمت، حتى أن كثيراً من الراهبات لم يدركن عمق قداستها إلا بعد وفاتها، حين نُشرت "قصة نفس" التي كشفت عن حياة "مملوءة بالبطولة الروحية".
في عام 1893، أُختيرت تريز لتكون معلّمة للراهبات المبتدئات، طوال السنوات الأربع الأخيرة من حياتها، عبّرت خلالها عن "طريقها الصغير" للتقرّب من الله، والذي وصفه البابا بندكتوس الخامس عشر، فيما بعد، بأنه طريق "يحمل سر القداسة للعالم أجمع".
تحدثت تريز عن هذا السر في "قصة نفس" قائلة: "أستطيع، رغم صغري، أن أطمح إلى القداسة، لا أقدر أن أسمو بنفسي، فعليّ أن أحتمل ذاتي كما أنا، بكل ما فيّ من ضعف، لكنني أريد أن أجد طريقاً صغيرة، قصيرة ومستقيمة، طريقاً جديدة تقودني إلى السماء".
لم تحلم تريز يوماً بأن تكون كاتبة، فهي كتبت ما كتبته في صمت غير مدركة أن أحداً خارج الدير سيعرف اسمها أو يقرأ ما كتبته، وأصبحت دفاترها بعد وفاتها مجلدات إيمانية حملت لملايين النفوس على مدار ما يزيد على قرن "يقظة روحية ونظرة جديدة إلى الله"، عمادها الثقة والاتكال والحب.
ويقول الأب شاهين ريشا الكرملي، في مقدمة عامة عن كتابات القديسة تريز: "في مئة عام، حققت بعد وفاتها، ما حلمت به في زوايا ديرها، وغصّ به نَفَثُها المصدور، وهو أن تجوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها.. وبالفعل صارت نُتف كتاباتها، وصرخات أشعارها، وبسمات مسرحياتها، وشهقات نزاعها، مجلداً ضخماً ترجم إلى ما يزيد على 40 لغة".
ويمكن تقسيم الأعمال الكاملة لكتابات تريز إلى ستة أقسام: المخطوطات الثلاثة (أ، ب، ج) لسيرتها الذاتية "قصة نفس"، والمسرحيات (8)، والقصائد الشعرية (54 + 8 قصائد إضافية)، والرسائل (266)، والصلوات (21)، والأحاديث الأخيرة (الدفتر الأصفر + كلمات تريز الأخيرة لأختها سيلين).
ويقول الأب البلجيكي كونراد دي ميستر الكرملي، في دراسته "اليدان الفارغتان": "منذ طبع سيرتها الذاتية عام 1898، كان لرسالة تريز تأثير على عدد لا يحصى من المسيحيين، وسمّى البابا بيوس الحادي عشر، الذي أعلن قداستها، تريز (كلمة من عند الله). والآن أصبح تأثيرها أكثر انتشاراً، ممزوجاً كما الخميرة في العجين".
كما كتبت الفيلسوفة اليهودية، إديت شتاين (فيما بعد القديسة تريزا بنديكتا للصليب)، إلى صديقة كانت قد اصطدمت بأسلوب تريز قائلة: "ما تكتبينه لي عن الصغيرة تريز يدهشني. إلى الآن، لم أكن لأفكر أنه يمكننا التطرق إليها بهذه الطريقة، إن الانطباع الوحيد الذي كان لديّ، هو أنني كنت أجدني أمام حياة إنسانة مختَرَقة كلياً بحب الله وحده، إلى أقصى حد"، بحسب دراسة الأب دي ميستر.
وتُوصَف كتابات تريز بأنها تشكّل حدثاً روحياً وعملاً ثقافياً رائداً، إذ كتبت معظم رسائلها وخاصة مخطوطات سيرتها الذاتية "قصة نفس"، وأشعارها وأعمالها المسرحية وصلواتها، انصياعاً منها لرغبة من رئيسة الدير، أو نزولاً عن أمنية راهبة من الراهبات، كما كتبت في ظروف غير ملائمة للإبداع الفكري، كضيق الوقت وانعدام الحرية وصعوبة اختيار الموضوع، ومحدودية المطالعة، وعلى الرغم من ذلك جاءت كتابات القديسة موحّدة رغم تنوعها.
تشاطر تريز قارئها في هذه الكتابات حياتها والنعم الكثيرة التي أسبغها الله عليها، وتشركه في تقدمة ذاتها "ذبيحة للحب الإلهي الرحيم"، فنجدها تقول في المخطوطة (ب): "فهمت أن الحب يضم جميع الدعوات، الحب هو كل شيء، إنه يحتضن جميع الأزمنة وجميع الأمكنة.. بكلمة واحدة، إنه أبدي".
وتقول في رسالة إلى أختها ماري: "أشعر جيداً بأن ليس شيء من هذا كله ما يرضي الله تعالى في نفسي الصغيرة، ما يرضيه هو أن يراني أحب صغري وفقري، إنه الرجاء الأعمى الذي لي في رحمته.. ها هو ذا كنزي الوحيد".
وعن هذا الكنز كتبت تريز قصيدة بعنوان "العيش بالحب" تقول في بعض مقاطعها: "العيش بالحب، عطاء بدون حساب، بدون مطالبة بأجر على الأرض/ آه! بدون حساب أعطي كوني متأكدة جداً أنه عندما نحب، لا نحسب!/ إلى القلب الإلهي، الفائض بالمحبة، أعطيت كل شيء.. وبخفة أجري/ لا أملك شيئاً على الإطلاق غير كنزي الوحيد: العيش بالحب".
وترى تريز في تنوع الأزهار متعددة الألوان صورة لمحبة الله لجميع البشر، فالكل يمجّد الله، كبيراً أم صغيراً، وليس الصغار أقل كمالاً من غيرهم: "فهمت أن حب ربنا يتكشّف في النفس الأكثر بساطة، النفس التي لا تقاوم نعمته في شيء، كما في النفس الأكثر سمواً".
وتبرز تريز بُعداً جديداً للعطاء في حبها لله في رسالة أخرى وتقول: "أرى بسعادة أنه بحبنا لله يكبر القلب، ويستطيع أن يعطي حناناً، بشكل لا يضاهى، إلى الأعزاء عليه أكثر مما لو كان مُركزاً في حب أناني عقيم".
كما حرصت تريز على التأكيد في أكثر من موضع على ضعفها، وصراعها الدائم بين "الرغبة والعجز"، وأبرز مثال على ذلك عندما تحدثت عن رغبتها في أن تصبح قديسة: "لقد رغبت في أن أكون قديسة، لكن يا للأسف! لقد لمست دائماً، عندما قارنت نفسي بالقديسين، أن هناك بينهم وبيني الفرق عينه الذي بين جبل تضيع قمته في السماوات وبين حبة رمل مظلمة"، وعلى الرغم من ذلك تقول، في مخطوطة (ج)، إنه "لن يكون أكثر القديسين قداسة، كاملين إلا في السماء".
ويرى الأب جان سليمان الكرملي، في مقدمة عن القيمة اللاهوتية لكتابات تريز أنها "امرأة قديسة عبقرية، القداسة توّجت أنوثتها، والعبقرية كلّلت قداستها، فجاء لاهوتها منيراً، وغدا مثالها حياً مشوقاً".
ويضيف: "تريز الحميمة مع العذراء مريم، والشغوفة بالقديسات كمريم المجدلية وسيسيليا وأنييس وتريزا الآفيلية وجان دارك وغيرهن، تعي دورها ومكانتها كامرأة، أعطتنا تراثها الروحي بأسلوب أنثوي، رقيق، واقعي وحي".
ما يؤكد ذلك أن تريز لم تتردد في التصريح والبرهان، في المخطوطة (أ)، على أن النساء "يحببن الله بعدد أكبر من الرجال، وإبان آلام المسيح، أظهرن شجاعة أكبر من شجاعة الرسل، إذ تحدين إهانات العسكر وتجاسرن على مسح وجه المسيح".
ويقول الأب جان سليمان: "تريز امرأة شابة، عرفت أن الحب وحده يعطي الحياة معناها، وهو الذي يردم الهوة بين الله والبشر، ويكتسب البشر بهذا الحب اندفاعاً وقوةً".
ويضيف: "خلقت القديسة تريز لاهوتاً أنثوياً أغنت به التراث الكاثوليكي العريق الذي عرف الكثيرات من القديسات الملهمات ... ففتحت أمام مؤمنات اليوم طريقاً معبداً للكلام مع الله وفي الله، وبرهنت على أن القداسة هي الحب، والحب هو المعرفة اللاهوتية الأسمى والأشمل، وأظهرت أن المرأة في الكنيسة هي، بحياتها، مثل الكنيسة، (أم ومعلّمة)".
حتى شهر أبريل/نيسان 1897 لم يخطر على بال الراهبات اللواتي كن يشاهدن تريز تتنقل بخفة في الدير، أن صحتها تزداد سوءاً، وكتبت أختها سيلين (الراهبة جينفياف)، بحسب ما أورده الأب الفرنسي غي غوشيه في دراسته "قصة حياة تريز مارتان" بحسب الطبعة الثانية التي اعتمدنا عليها والصادرة في باريس عام 1988، قائلة: "إن صحة الكرملية الصغيرة، تريز الطفل يسوع، لفي خطر شديد.. الكل ينتظر أن يرى المعلم الإلهي يقطف هذه الزهرة الرائعة الجمال".
بدأت الأعراض الأولى لمرض السل تظهر قبل وفاة تريز بنحو 18 شهراً، ومع ذلك واصلت التزامها بواجبات الحياة الرهبانية ما استطاعت، حتى اضطرت في النهاية إلى الانتقال إلى غرفة المرضى بالدير، وخلال أيام مرضها الأخير، كانت تعاني من إرهاق شديد وآلام مبرحة، وتعرضت لتجربة روحية صعبة.
وكلما مرت الأيام، توالت آلام شديدة في الصدر، وبصق الدم حيناً بعد حين، وكتبت أختها ماري في الخامس من يونيو/حزيران من نفس العام: "نحن في قلق شديد، عندما نرى كم تسوء الأمور، فتصبح تريز في حالة من الانهيار الشديد وتشعر في بعض الأحيان، كما تقول لنا، بغمّ كأنها ستموت وشيكة".
كانت تريز تصاب بنوبات طويلة من السعال، وتصف ذلك بنفسها: "أسعل أسعل، وسعالي أشبه بصوت قاطرة سكة حديد عندما تصل إلى المحطة"، وبناء عليه بدأت تتغيب عن جميع الأنشطة في الدير، الواحدة تلو الأخرى، ولن تُعفى تماماً من أي مهمة إلا في 18 مايو/أيار 1897، وفي أثناء أسبوع الفصح، بدأت حواراتها الأخيرة مع أختها الأم أنييس، التي أخذت تدوّن كلماتها طوال أشهر قبل الوفاة، والمنشورة تحت اسم "الأحاديث الأخيرة".
ويقول الأب غوشيه في دراسته إن تريز رغم مرضها وآلامها الشديدة، واصلت نشاطها، وكان بوسعها أيضاً كتابة بعض القصائد الشعرية لتبعث البهجة لدى أخواتها الراهبات، ويذكر أن الأم هنرييت، من كرمل باريس، سمعت بهذه الكرملية الشابة التي تنظّم الشعر، فأرادت أن تختبر الأمر، ووجهت إلى المريضة (تريز) ما يشبه التحدي، فتلقت الأم هنرييت قصيدة من تريز عنوانها "وردة نُثرت أوراقها".
تقول القصيدة: "وردة نُثرت أوراقها، من غير تكلّف، بنفسها تجود كي تزول عن الوجود/توطأ، من دون تأسف، بتلات الورود/ وهذا الحطام زينة بسيطة من غير فن تُقام"، بيد أن كرملية باريس اعتبرت أن القصيدة رغم جمالها ينقصها مقطع الخاتمة، لأنها تعتقد أنه "عند الموت يجمع الله هذه الأوراق المنثورة ليصنع منها وردة جميلة تتلألأ مدى الأبد"، وهذا يخالف المعنى الذي قصدته تريز تماماً.
وردّت عليها تريز: "لتنظم الأم بنفسها هذا المقطع كما ترى، أما أنا فلا يحضرني شيء لكي أنظمه.. أمنيتي أن أكون وردة تسقط أوراقها للأبد، لأبهج إله الصلاح، هذا كل ما في الأمر".
كما كتبت تريز قصيدتين، إحداهما للقديسة الفرنسية جان دارك، السجينة التي أصبحت تريز تفكر فيها أكثر من ذي قبل وهي تواجه الموت وتقول "يا جان، تبدين لي أكثر إشراقاً وبهاءً، في سجنك المظلم، هذا الشعاع السماوي من المجد الأبدي، من أتاك به؟"، بحسب الآب غوشيه.
أما أنشودتها الثانية فتكشف عن وصيتها المريمية، إذ قالت لأختها جينفياف: "لا يزال عندي شيء أقوم به قبل موتي. لقد حلمت دائماً أن أعبّر في أنشودة العذراء القديسة عما أفكر في شأنها"، فكتبت تقول: "يا أمي، طفلك الوديع يريدك قدوة للنفس التي تطلبه في ليل الإيمان"، ولم تلمح القديسة تريز إلى قصة حياتها إلا في المقطع الأخير "عما قليل سأذهب لأراكِ في بهاء السماء، يا من جاءت وابتسمت لي في صباح الحياة، تعالي فابتسمي لي أيضاً .. يا أم .. فها هوذا المساء".
ويقول الأب غوشيه في دراسته: "أدركت (تريز) في هذه اللحظة أن بوسع مؤلفاتها البسيطة أن تصنع خيراً... وراجعت طوال هذه المدة، ما كتبته، وقلمها بيدها، لكنها لم تتوخ غاية أدبية، وهي لا تقوى على العمل، لربما راجعت قصة حياتها، لتكافح التجارب المضنية التي تبغي أن تُنسيها ما غمرها من الحب".
كما اكتشفت تريز في مسرحيتها الثانية عن جان دارك معنى جديداً، فهذه الشابة التي تواجه الموت وتحيا نزاعاً داخلياً، ليست إلا هي نفسها، لقد تنبأت تريز من غير أن تدري، وقالت لأختها الأم أنييس: "قرأت مرة أخرى مسرحية جان دارك التي ألفتها، سترين فيها مشاعري في الموت، فقد عبّرت عنها كلها".
لكن متى يأتي هذا الموت؟ تجهل تريز ذلك مستسلمةً وتقول: "لا أرغب في الموت أكثر منيّ في الحياة، لو كان لي أن أختار، لفضّلت الموت. ولكن لما كان الله هو الذي يختار لي، فإني أفضّل ما يشاء. فما يفعله هو إياه أحب".
وفي ذروة مرضها قالت لأختها ماري: "لو كنت تعرفين كم من المشروعات أصمم، وكم من الأشياء سأصنع، عندما أكون في السماء، سأشرع في أداء رسالتي. رسالتي بأن أجعل الناس يحبون الله كما أحبه أنا، وأن أعطي النفوس طريقي الصغير. إذا لبّى الله رغبتي فسأقضي سمائي في الأرض حتى نهاية العالم. أجل، سأقضي سمائي وأنا أصنع الخير في الأرض... سأعود... سأنزل".
توفيت تريز يوم الخميس 30 سبتمبر/أيلول عام 1897، وكانت آخر كلمات نطقت بها "إني أحبه...إلهي...إني... أحبك"، ورأت الراهبات الجاثيات وجهها يعود هادئاً جداً، وفي الغد، يوم الجمعة، عُرض جثمان تريز في الخورس، وفي غرفة المرضى التقطت لها أختها جينفياف صورتها الشمسية الشهيرة، ودُفنت في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول.
في 30 سبتمبر/أيلول عام 1898، أي بعد عام من وفاة تريز، وفت الأم أنييس بوعدها ونُشر مجلد من 475 صفحة، تحت عنوان "قصة نفس"، نشرته مطبعة سان بول في مدينة بار لودوك الفرنسية، وجاء اختيار هذه المطبعة بدعم من خال تريز، إيزيدور غيران، الذي تكفّل بتمويل النشر، وأُرسلت نسخ من هذه الطبعة إلى أديرة الكرمل في فرنسا وخارجها، بالإضافة إلى ثلاث نسخ إلى روما، واحدة منها وُجّهت إلى البابا ليو الثالث عشر.
وفي مايو/أيار عام 1899، اضطر دير الكرمل في ليزيو إلى إصدار طبعة ثانية من الكتاب، وفي عام 1900 بيعت ستة آلاف نسخة، وأُعدت له الترجمة الأولى وكانت باللغة الإنجليزية (1901)، تبعها الترجمات البولونية (1902) والإيطالية والهولندية (1904) ثم الألمانية والبرتغالية والإسبانية واليابانية والروسية (1905).
وفي 12 فبراير/شباط 1899، كتبت الراهبة ماري للقربان المقدس إلى نسيبتها سيلين بوتيه، بحسب ما ورد في دراسة الأب غوشيه: "جميع الناس يحدثوننا عن هذا الملاك الحبيب الذي يصنع كثيراً من الخير بما كتب. يشبهها الكهنة بالقديسة تريزا (الآفيلية) ويقولون إنها فتحت للنفوس طريقاً جديداً، هو طريق الحب".
وتضيف: "إنهم جميعاً متحمسون لها، لا في ما حولنا فحسب، بل في فرنسا كلها، وفي معظم العظات يستشهدون بنصوص مستوحاة من مخطوطها. لا بل هناك ناس دنيويّون لا تخنقهم التقوى، متحمسون لما كتبت، ويجعلونه مطالعتهم المفضلة".
وخلال الفترة من 1906 وحتى 1917، برزت دعاوى لإعلان قداستها، وتدخلت الصحافة في الأمر، وكان الصحفي فرانسوا فويو قد كشف في صحيفة "لونيفرس" عام 1906، أن الأب بريفو في روما يسعى لإعداد دعوى قداسة لكرملية ليزيو، كما أعرب البابا بيوس العاشر عن أمنيته في تطويبها، ولم يتردد، في لقاء خاص، أن يستبق المستقبل ويسميها "أكبر قديسة في العصر الحديث".
أُخرج جثمانها، الراقد في مقبرة ليزيو، في السادس من سبتمبر/أيلول عام 1910، بحضور المطران مونييه ومئات الأشخاص، وأجرى الطبيبان، لانييل ودي كورنيير، الفحوص المعتادة، ثم وُضعت رفات تريز في تابوت من الرصاص، ونُقل إلى ضريح آخر.
تولى البابا بيوس الحادي عشر الكرسي الرسولي، وجعل من تريز "نجمة حبريته"، لا تفارق صورتها مكتبه، إلى أن طوّبها البابا في كاتدرائية القديس بطرس في روما في التاسع من أبريل/نيسان عام 1923، بعد أن رأى فيها، بحسب وصفه، "كلمة من عند الله" في عصرنا.
ولأول مرة، في 17 مايو/أيار عام 1925 من داخل تلك الكنيسة وبحضور 50 ألف شخص، وبمحضر 33 كردينالاً و250 مطراناً، كتب البابا بيوس الحادي عشر اسم الصغيرة تريز مارتان في جدول القديسين، وأعلنها بعد عامين "شفيعة أولى لإرساليات جميع العالم"، مساويةً للقديس فرنسيس كسافريوس، الراهب اليسوعي الإسباني الذي بذل حياته عند حدود الصين.
أصبحت القديسة تريز معروفة في طول الأرض وعرضها، ويقول الأب غوشيه في دراسته إنه خلال الفترة بين عام 1898 و1925، وُزّعت صور لتريز تزيد على 30 مليون صورة، وبفضلها رغب عدد كبير من الفتيات في دخول الكرمل في ليزيو، كما شجعت "قصة نفس" رهبانيات كثيرة، وتخطت "الروحانية التريزية" حدود الدير في ليزيو، و أُنشئت في عام 1933 جمعية "منذورات القديسة تريز" لخدمة القديسة، كما أسس الأب مرتان، في عام 1948، رهبانية للرجال باسم "مرسلو القديسة تريز".
كثُرت المؤلفات والبحوث عن تريز في جميع اللغات، فخلال الفترة بين عام 1898 و1947، بحسب الأب غوشيه، وصل عدد تلك المؤلفات إلى 865 مؤلفاً، كما ألح القراء في مطالعة "قصة نفس" في الدفاتر الأصلية، فنشر الأب فرانسوا للقديسة مريم، في عام 1956، بأمر من البابا بيوس الثاني عشر، مخطوطات السيرة الذاتية في طبعة تصويرية، كما نُشر في عام 1961، مجلد يضم صورها الشمسية، تلك الصور الأصلية التي التقطتها لها أختها سيلين.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1997، أعلن البابا يوحنا بولس الثاني "القديسة تريز الطفل يسوع والوجه الأقدس" معلمة للكنيسة جمعاء، مثل القديسة كاترينا السيانية (القرن 14)، والقديسة تريزا الآفيلية (القرن 16).
ألهمت حياة القديسة تريز عدداً كبيراً من صنّاع السينما، فبمجرد إعلان قداستها تسابقوا على تقديم رؤى سينمائية لحياتها في عدد من الأفلام، كان أولها فيلم صامت أُنتج عام 1929 بعنوان "الحياة المعجزة للقديسة تريز مارتان" لجوليان دوفيفييه، جسّدت فيه سيمون بوردي دور القديسة تريز.
وأخرج موريس دو كانوج عام 1939 فيلماً بعنوان "تريز مارتان" بطولة إيرين كورداي، وفي عام 1952 أخرج الفرنسي أندريه هاغيه فيلماً بعنوان "معجزة القديسة تريز"، وهو عمل يحكي حياة تريز اعتماداً على الوثائق الأصلية، بطولة جان دوبوكور و سوزان فلون.
وأخرج فيليب أغوستيني عام 1964 فيلماً وثائقياً بعنوان "الوجه الحقيقي لتريز الطفل يسوع"، وفي عام 1986 أخرج آلان كافالييه فيلمه "تريز" ولعبت دورها الممثلة كاترين موشيه، وفاز الفيلم عام 1987 بست جوائز "سيزار" من بينها جائزة أفضل فيلم.
وأخرج ليوناردو ديفيليبيس عام 2004 فيلم "تريز: قصة القديسة تريز الطفل يسوع"، جسدت فيه دورها الممثلة ليندساي يونس.
ولم يغب تأثير القديسة تريز عن عالم الموسيقى، ولم يكن بالغريب إنتاج عدد من الأعمال الروحانية الموسيقية عن حياة القديسة وأشعارها، ففي عام 1969 ألف الموسيقي الإنجليزي جون تافنر أوبرا بعنوان "تريز" عن حياة القديسة، وفي عام 1973، ألف الموسيقي البرازيلي، خوسيه أنطونيو دي ألميدا برادو، عملاً بعنوان "تريز، محبة الله"، اعتمد فيه على نصوص للقديسة وعُرض بتكليف من وزارة الثقافة الفرنسية.
أما الراهب الكرملي والموسيقي الفرنسي، بيير إيليان، فقد أصدر أربعة ألبومات مستوحاة من أشعار القديسة، ثلاثة ألبومات، خلال الفترة بين عامي 1992 و1994، تحت عنوان "أغنيات تريز"، وألبوم رابع في عام 1997 بعنوان "القديسة تريز الطفل يسوع-أشعار"، وهو عبارة عن تلحين وغناء قصائد شعريّة كتبتها القديسة.
كما أصدر المغني غريغوار في عام 2013، ألبوماً بعنوان "تريز: العيش بالحب"، لحّن فيه بعضاً من أشعارها، وشاركه في الغناء مجموعة من الفنانين أبرزهم المغنية والمرنمة ناتاشا سان بيير، وفي عام 2016، قدمت فرقة "ذا تشيرمان دانسز" أغنية بعنوان "تريز"، تناولت مرض القديسة بالسل، وفي عام 2017، ألّف شيربان نيكيفور قدّاساً موسيقياً بعنوان "القديسة تريز الطفل يسوع".
"صفحات عديدة من تاريخ هذه الحياة لن تُقرأ أبداً على الأرض"، ذلك ما سبق وقالته القديسة تريز، فعلى الطريق الذي عبرته، لم يكن هناك سوى قلب صغير أحب كثيراً، قلب اختار طريق الاتضاع، قديسة عاشت في الظل، لكنها فتحت للجميع طريقاً جديداً نحو القداسة، طريق الثقة الكاملة بالله، "طريق الطفولة الروحية".
لم تعش القديسة تريز طويلاً، لكنها تركت شعلة لا تنطفئ، تهمس لكل نفس متعبة: "لا تخافي من ضعف، الله لا يحتاج إلا لحب صغير صادق"، واليوم، تظل كلماتها حيّة، وابتسامتها الرقيقة، تُغدق وروداً من السماء، وتدعونا أن نثق مثلها بالله، ونعيش مثلها لا بشيء إلا بالحب.