في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
عقد في مدينة القامشلي (شمال شرقي سوريا) -في 26 أبريل/نيسان الماضي- مؤتمر بعنوان "وحدة الموقف والصف الكردي" شارك فيه 400 عضو من ممثلين لتنظيمات كردية سورية وشخصيات مستقلة وممثلون من حزب العمال الكردستاني التركي وعدد من الأكراد العراقيين، وبحضور مندوب عن الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق مسعود البارزاني ومسؤول أميركي.
ومن الواضح أن قوات سوريا الديمقراطية ( قسد ) كان المحرك الرئيسي خلف المؤتمر، وهو ما انعكس على لغة بيانه النهائي الذي كتب باللغة التي أرادتها قسد أو على الأقل التي وافقت عليها، بينما جاء رد الرئاسة السورية مؤكدا أن حقوق الأكراد محفوظة في إطار الدولة السورية الواحدة على قاعدة المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون "دون الحاجة لأي تدخل خارجي أو وصاية أجنبية".
وبين الغاية من المؤتمر والرفض السوري القاطع لمحاولات فرض تقسيم واضح تحت أي مسمى، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تقدير موقف بعنوان " عقدة اللامركزية: تأثير الحسابات الكردية على إقامة الدولة السورية " ناقش فيها تداعيات المؤتمر على مسار المسألة الكردية في سوريا ، ودلالات توقيته، وانعكاساته على جهود الوحدة السورية.
لم تكن إقامة هذا المؤتمر ممكنة دون إرادة "قسد" ورغبتها فهي التي تسيطر بقبضة حديدية على معظم شمال شرقي سوريا، وحرصها على مشاركة المجلس الوطني الكردي (خصمها السابق) وتقديم قياداته للرأي العام الكردي ولوسائل الإعلام لتنطق باسم المؤتمر، وهذا يأتي في إطار إظهار وحدة الصف الكردي.
وقد تأسيس المجلس الوطني الكردي في أربيل برعاية الرئيس البارزاني في أكتوبر/تشرين الأول 2011، بعد أسابيع قليلة من إطلاق المجلس الوطني السوري الذي ضم قيادات وناشطين من مختلف الأعراق والديانات والخلفيات الفكرية.
وأراد البارزاني إيجاد تجمع للقوى السياسية الكردية في سوريا، ليشارك باسمها في نشاطات الثورة وفيما يمكن أن ينجم عنها من متغيرات في بنية الدولة السورية، ولأن البارزاني كان يخوض معركة مكتومة مع حزب العمال الكردستاني حول زعامة عموم الأكراد في المشرق، فقد سعى إلى أن يقف المجلس الوطني الكردي مانعا أمام زحف حزب العمال الكردستاني وحليفه حزب الاتحاد الديمقراطي، نحو المجتمعات الكردية السورية.
وفي أواخر عام 2011، وبعد عدة شهور من اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد ، شكَّل حزب الاتحاد الديمقراطي فصائل مسلحة في مناطق الوجود الكردي شمال شرقي سوريا باسم الهيئة الكردية العليا، التي تحولت لاحقا إلى وحدات حماية الشعب عام 2014، مع اندلاع المواجهات في العراق وسوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية .
وبدعم أميركي كبير، أحرزت وحدات حماية الشعب نصرا كبيرا على تنظيم الدولة الإسلامية في عين العرب (كوباني) أوائل 2015، وأسست بذلك تحالفًا وثيقًا وطويل الأمد مع القوات الأميركية التي اقترحت على القيادات الكردية توسيع إطارها ليضم مسلحين عربا ومسيحيين أشوريين وتغيير اسمها إلى قوات "قسد".
ووسط المنافسة بين المجلس الوطني الكردي وقوات "قسد" على تمثيل الأكراد السوريين، لم تلبث أن حسمت لصالح حلفاء حزب العمال الكردستاني، جراء الدعم الكبير الذي قدمه الأميركيون وبدون انقطاع لقسد، إضافة إلى الموارد المالية التي حققتها من السيطرة على حقول النفط والغاز شرق وشمالي شرق سوريا.
وحتى خريف 2024، قبل أشهر قليلة من سقوط نظام الأسد، ظلت "قسد" تطارد المعارضين الأكراد السوريين في مناطق سيطرتها وتشتبك مع الجماعات العشائرية العربية المسلحة المناهضة، وتمارس الإكراه لتجنيد الشباب والفتيات.
ومع سقوط النظام في ديسمبر/كانون الأول 2024 ووصول حكومة سورية جديدة إلى دمشق، صنعت "قسد" -كما كافة القوى الكردية الأخرى- ظروفا موضوعية جديدة للصراع على سوريا.
أطلقت قيادات "قسد" تصريحات ترحيبية حذرة بالسلطة السورية الجديدة، وتحدثت عن ضرورة بدء حوار مع دمشق حول المسألة الكردية.
وتأخذ "قسد" بعين الاعتبار بناء إجماع كردي ردا على السرعة الملموسة التي استطاعت بها هيئة "تحرير الشام" تثبيت أقدامها في دمشق، وسط قبول شعبي واسع وتأييد معلن من الحكومة التركية الطرف الأهم في تقرير مستقبل المسألة الكردية.
وتعمل "قسد" في الوقت ذاته على إطلاق مسار تفاوضي مع القيادة السورية، لأنه بدا واضحا أن هناك طرفا لديه القدرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في سوريا.
وفي الوقت نفسه، كانت الاشتباكات المسلحة بين قوات "قسد" و الجيش الوطني السوري المدعومة تركيا تزداد احتداما شرق حلب، وتجبر قوات "قسد" على التراجع عن مواقع لها.
وقد صاحب تقدم قوات "الجيش الوطني" شرق حلب تصريحات عسكرية رسمية تركية تنذر بعزم الأخير على حسم ما تصفه بالوجود الإرهابي على حدودها مع سوريا.
وكانت الأوضاع في تركيا، منذ أواخر العام الماضي 2024، تتجه إلى تحولات كبرى في علاقة الدولة بحزب العمال الكردستاني، قد تنتهي بحل الحزب نهائيا والانضواء في الساحة السياسية التركية.
ورغم ادعاء "قسد" بأنها غير معنية بتطورات الساحة التركية، وأنها قوة كردية سورية مستقلة عن حزب العمال الكردستاني، فإن من الصعب تجاهل الأثر الذي يمكن أن يتركه التوصل إلى تسوية سياسية نهائية للمسألة الكردية في تركيا على وضع "قسد" ومصيرها.
وكانت حكومة إقليم كردستان العراق من بين أولى الحكومات التي رحبت بانتصار الشعب السوري، وبالإدارة السورية الجديدة.
وكان طبيعيا أن يسارع المؤتمر الوطني الكردي (حليف حكومة الإقليم) إلى التعبير عن موقف إيجابي من حكومة الشرع، وهو ما دفع المسؤول العسكري لقوات "قسد" مظلوم عبدي إلى السفر إلى أربيل منتصف يناير/كانون الثاني الماضي للقاء البارزاني، في إشارة إلى التصالح الكردي الداخلي.
ومباشرة بعد اللقاء مع البارزاني، أعلنت "قسد" خروج كافة عناصر حزب العمال الكردستاني التي وجدت في مناطق سيطرتها السورية، كما أطلقت حوارا مع المجلس الوطني الكردي لم يلبث أن توصل إلى رؤية مشتركة للتباحث مع دمشق.
وفي 10 مارس/آذار، التقى عبدي بالشرع وأعلن عن توقيع الاتفاق الإطاري لضمان حقوق جميع السوريين في المشاركة بالعملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناء على الكفاءة، دون تمييز ديني أو عرقي، والاعتراف بالمجتمع الكردي جزءًا أصيلًا من الدولة السورية، إلى جانب نقاط أخرى متعلقة بالانتشار العسكري والسيطرة على الموارد.
وتنظر "قسد" إلى الاتفاق على أنه مركبة إنقاذ ضرورية لحمايتها من هجمات تركية وشيكة، وأنه حافظ على بقائها آمنة في منطقتها لأطول زمن ممكن، ومنحها الدور الكردي الرئيس للحوار مع دمشق حول مستقبل المسألة الكردية السورية.
بينما ترى إدارة الرئيس الشرع أنه يوفر مناخا سلميا لمسار إعادة توحيد سوريا الشاق والطويل، ويجنب الأطراف المعنية سفك الدماء، ويمنح دمشق زمنا ضروريا لبناء الدولة السورية ومؤسستها الدفاعية.
وتوصل الطرفان بالفعل لعدد من الإجراءات التنفيذية خلال الأسابيع القليلة التالية على توقيع اتفاق العاشر من مارس/آذار، شملت انسحاب قوات "قسد" من أحياء الأشرفية والشيخ مسكين شمال شرقي حلب، والاتفاق على تشكيل إدارة مشتركة لسد تشرين، في حين لم تتخذ "قسد" أية خطوة ملموسة بعد لإعادة حقول النفط والغاز إلى سيطرة الدولة السورية.
ويأتي انعقاد مؤتمر القامشلي ليوحي بانعطاف كردي عن روح اتفاق عبدي-الشرع، والآمال التي حملها لتسوية سلمية للمسألة الكردية السورية.
يقول المدافعون عن عبدي إنه لم يتراجع عن اتفاقه مع الشرع، حتى بعد المشاركة في مؤتمر القامشلي، وإن كل ما في الأمر أن عبدي يعمل في بيئة كردية بالغة التشظي. ورغم موقعه بالغ الأهمية والنفوذ، فإنه لا يستطيع السيطرة والتحكم في كافة أطراف المشهد الكردي السوري، ولا حتى في قرار قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، مما يعني أن المؤتمر يجب ألا يثير الكثير من القلق، وهو ما يؤكده دعم إقليم كردستان وحضور ممثل عن البارزاني.
بيد أن واقع التشظي الكردي السوري، الذي يستخدم مسوغا لتبرير التعثر في تطبيق اتفاق الشرع عبدي، واللغة عالية السقف التي كتب بها بيان القامشلي، قد يدفع إلى مزيد استعصاء المسألة الكردية السورية.
ويمكن القول إن طرفا ما أو أطرافا في القامشلي رأت في انشغال القيادة السورية الجديدة بالوضع في السويداء فرصة لإعادة تشديد الضغط على دمشق، ومحاولة تحقيق بعض المكاسب من الإدارة السورية الجديدة.
وتتعلق العقبة الكبرى الأخرى في طريق التسوية بأطروحة اللامركزية، التي تبدو أنها تسيطر على العقل السياسي الكردي السوري بمعسكريه الرئيسيين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي.
فالمؤكد أن الإدارة السورية، ومهما بلغت الضغوط، لن تقبل بإقامة أي قدر من الحكم الفدرالي، وترى أن التفاوض حول النظام الفدرالي مع أي مجموعة أقلية يعنى الموافقة على تقسيم سوريا، خاصة وأن بيان القامشلي تحدث عن مطالب لا تخص الأكراد السوريين وحسب بل توقع من دمشق كذلك إعادة تصور الدولة السورية باعتبارها متعددة الهويات وليست دولة مواطنة.
وتقول تقارير قادمة من أنقرة إن مؤتمر حزب العمال الكردستاني، الذي يتوقع أن ينتهي إلى حل الحزب والتخلي كلية عن العمل المسلح، ربما سيعقد في النصف الأول من مايو/أيار 2025.
ورغم ادعاء قادة "قسد" وحزب الاتحاد الديمقراطي أنهم غير معنيين بتطورات المسألة الكردية في تركيا، وأنهم ليسوا جزءا من العمال الكردستاني، إلا أن الجهات الكردية التي تقود عملية التفاوض مع تركيا حريصة على ألا يدفع التقدم نحو حل سياسي ونهائي للمسألة الكردية في البلاد إلى انفجار المسألة الكردية في سوريا، سيما أن اهتمام أنقرة بتطورات الوضع الكردي في سوريا لا يقل عن اهتمامها بتطوراته في تركيا ذاتها.