في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في ضوء التغيير السياسي الجذري الذي شهدته سوريا عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وبعد اتخاذ حكومة الرئيس أحمد الشرع خطوات عدة في إطار ترتيبات المرحلة الجديدة يبرز ملف العدالة الانتقالية كأحد أكثر الملفات حيوية، والتي ينبغي على الحكومة التعامل معها، بهدف معالجة الإرث الثقيل من الانتهاكات الجسيمة، وترسيخ العدالة والسلم الأهلي، وفق ما دعت له الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وقالت الشبكة في تقرير لها استعرضت خلاله بالتفصيل رؤيتها لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا إن العدالة الانتقالية تعد المنهج الأمثل لتحقيق تعافٍ شامل من آثار النزاع، وبناء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة الوطنية، مما يضمن استقرارا دائما.
وتضمنت رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان عرضا للإطار القانوني لإنشاء وإدارة هيئة وطنية متخصصة لتولي مهمة تحقيق العدالة الانتقالية، مشيرة إلى ضرورة مراعاة أركان العدالة الانتقالية، والتي تضمن إنشاء محاكم مختصة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات، وفيما يلي استعراض لأبرز ما جاء في الرؤية.
View this post on Instagram
وبحسب رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يقوم المجلس التشريعي -الذي سيشكل عقب الإعلان الدستوري- بإعداد قانون تأسيسي لتشكيل الهيئة المختصة يحدد مسار عملها ومسار العدالة الانتقالية عموما.
ويستند القانون التأسيسي إلى التشريعات الوطنية ذات الصلة ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مما يعزز مصداقية الهيئة ويكسبها شرعية وطنية ودولية.
وأكد التقرير على أهمية استقلالية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية استقلالا كاملا عن السلطة التنفيذية، مع ضرورة عملها في ظل نظام قضائي مستقل ومحايد، وأن تتولى مهام الكشف عن الحقيقة وتوثيق الانتهاكات وتعويض الضحايا، وأن تساهم مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم الجسيمة.
وتكون المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى على رأس النظام القضائي الذي يتولى بدوره إنشاء المحكمة الخاصة بقضايا العدالة الانتقالية وصياغة القانون الجنائي الذي يختص بمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وفي ضوء ذلك حدد التقرير 4 أركان أساسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وهي:
وعلى مدار 14 عاما تمكنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان من جمع قائمة موسعة لمرتكبي الجرائم تضم أسماء نحو 16 ألفا و200 متورط، بينهم 6724 فردا من القوات الرسمية التي تشمل الجيش وأجهزة الأمن و9476 فردا من القوات الرديفة التي تضم مليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية.
ونظرا للتحديات الكبيرة التي تواجه جهود المساءلة والمحاسبة أكد التقرير على ضرورة التركيز على محاسبة القيادات العليا من الصفين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن التابعة للنظام السابق، والذين تورطوا مباشرة في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من مارس/آذار 2011 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2024.
ومن المهم إنشاء إطار قانوني واضح ومحدد للمحاسبة الجنائية تضعه لجان قانونية مختصة تضم خبراء محليين ودوليين تشكلها هيئة العدالة الانتقالية.
وتقوم هذه اللجان بمهمة مراجعة وإصلاح القوانين المحلية الحالية وصياغة قوانين وتشريعات جديدة تتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتتكامل مع مبادئ وأحكام القانون الدولي.
وبحسب التقرير، ينبغي الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية أو قبول اختصاصها بشكل واضح في الإطار القانوني.
ولضمان فاعلية المحاسبة الجنائية أشار التقرير إلى أهمية الاعتماد على لجان تقصي الحقائق التي تؤدي دورا محوريا في جمع الأدلة الجنائية والوثائق اللازمة وتقديمها إلى المحاكم المختصة بقضايا العدالة الانتقالية، مع التركيز على استرداد الأدلة والوثائق المخزنة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية.
وأوضح التقرير أن المحاكم المختلطة تمثل خيارا عمليا وفعالا في الحالة السورية، بالنظر إلى التحديات التي يعاني منها النظام القضائي الوطني، كضعف الموارد وإرث الفساد المترسخ من العهد السابق، فهي تضمن الحفاظ على سيادة الدولة والملكية الوطنية لعملية المحاسبة، مع التزام كامل بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
وأكد أيضا على أهمية الاستفادة من الآليات الدولية المتاحة لمحاكمة مجرمي الحرب الذين فروا خارج البلاد، بما في ذلك استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية، وتفعيل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين إلى الجهات القضائية المختصة.
أكد التقرير أهمية إنشاء لجان متخصصة لكشف الحقيقة تتولى مهام توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها ودعم جهود العدالة والمساءلة بهدف ترسيخ أسس المصالحة الوطنية.
ويتم ذلك عبر اعتماد منهج يركز على الضحايا عبر توثيق شهاداتهم ورواياتهم، مما يسهم في صياغة ذاكرة وطنية مشتركة بشأن الانتهاكات وجمع شهادات المتورطين بالانتهاكات بهدف فهم البنية التنظيمية لهذه الجرائم، وتحديد مصير المفقودين كخطوة جوهرية في عملية كشف الحقيقة، وإعادة الكرامة للضحايا والتخفيف من معاناة ذويهم.
ووفقا للتقرير، تؤدي لجان الحقيقة دورا محوريا في تحقيق مستوى من العدالة المحلية دون الاعتماد الكامل على النظام القضائي الرسمي، ويتم ذلك عبر تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في مختلف المحافظات السورية.
وتضم هذه المجالس وجهاء المجتمع من شخصيات قيادية ووجهاء عشائريين ورجال دين مع الاستفادة من تجارب المجتمع السوري التي طورت على مدى السنوات الماضية، وآليات الصلح العشائري، والتي تشمل حلولا تقوم على الصفح أو التسامح بموجب اتفاقيات تراضٍ أو دفع الدية أو الاعترافات العلنية كبديل للعقوبات التقليدية.
أكد التقرير على أهمية إعداد وتنفيذ برامج شاملة لجبر الضرر والتعويض تتضمن تقديم الدعم المادي والمعنوي للضحايا، وضمان إعادة إدماجهم بشكل فعال في المجتمع، وذلك من خلال لجان متخصصة تتولى مهام تحديد الفئات التي يشملها برنامج التعويض، وتحديد طبيعة الأضرار التي يمكن التعويض عنها، سواء كانت اقتصادية أو جسدية أو نفسية، وتصميم هيكل متكامل للتعويضات يشمل التعويضات الفردية والتعويضات الموجهة للمجتمعات المتضررة والتعويضات المقدمة على شكل خدمات، إضافة إلى جبر الضرر المعنوي.
ولا يقتصر التعويض المادي على المنح المالية المباشرة فقط، بل يمكن أن يشمل أيضا منح الضحايا خدمات تفضيلية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وإعادة حقوق الملكية وتمويل مشاريع الإسكان وتأهيل البنية التحتية، ودعم التأهيل الاقتصادي الفردي والجماعي، إضافة إلى إنشاء برامج لتعويض خسائر الدخل.
وعلى صعيد الدعم المعنوي للضحايا، يمكن أن يشمل برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي والدعم القانوني.
ومن الممكن تقديم تعويضات رمزية كاعتراف علني بالتضحيات التي قدمها الضحايا، وتقديم الاعتذارات العلنية من قبل مرتكبي الجرائم.
ومن طرق تخليد ذكرى الضحايا إقامة النصب التذكارية، وتخصيص أيام وطنية لإحياء الذكرى، وإنشاء المتاحف والمراكز الأرشيفية التي توثق الانتهاكات، وإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، وإدماج إرث الثورة والانتهاكات في مناهج التعليم الوطنية، إلى جانب الاعتراف الرسمي بالتضحيات التي قدمها الشعب السوري، وتقديم الاعتذارات العلنية من الأطراف المسؤولة.
أكد التقرير أن إصلاح مؤسسات الدولة كافة يعد ضرورة ملحة نظرا لما شهدته من فساد وتدهور خلال عهد النظام السابق، لكنه شدد على منح الأولوية في المرحلة الانتقالية للمؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، كونها الأكثر تورطا في الانتهاكات الجسيمة التي استهدفت الشعب السوري خلال سنوات النزاع.
ويمثل إصلاح القضاء أولوية أساسية في المرحلة الانتقالية بهدف تعزيز آليات المساءلة، والحد من الإفلات من العقاب، وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي، وفق خارطة طريق، أبرز محاورها إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى والقوانين الناظمة لاستقلال القضاء، وإلغاء المحاكم الاستثنائية ودمجها في إطار القضاء العادي، وتعزيز الشفافية في آليات تعيين وترقية القضاة، وتحسين ظروفهم المعيشية، وإشراك المجتمع المدني والجهات الدولية في دعم عملية الإصلاح القضائي
وعلى صعيد القطاع الأمني، وضع التقرير إطارا متكاملا للإصلاح الأمني في سوريا يرتكز على محاور عدة، هي إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتحديد مهامها وصلاحياتها بشكل واضح، وإصلاح العقيدة الأمنية بما يضمن حماية المواطنين واحترام حقوق الإنسان، وتطوير نظام واضح للتجنيد والتوظيف ضمن الأجهزة الأمنية، وتعزيز مبادئ الشفافية وآليات المساءلة والرقابة الداخلية.
أما عملية إصلاح المؤسسة العسكرية السورية فقد أقر التقرير بأنها ستكون في مرحلة ما بعد سقوط الأسد وتفكك الجيش السابق عملية طويلة ومعقدة، لكنها تظل ضرورة حتمية لاستعادة الاستقرار وبناء دولة قوية ومتماسكة، واستعادة الثقة بين المواطنين والقوات المسلحة.
وتتطلب هذه العملية إجراءات أساسية تشمل نزع سلاح المجموعات المسلحة كافة، وتفكيك الهياكل العسكرية الموازية ودمج جميع الفصائل ضمن جيش وطني موحد، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على نحو يضمن عدم تكرار الانتهاكات السابقة.
ووفقا للتقرير، يتطلب إصلاح المؤسسة العسكرية اعتماد خطة شاملة تتضمن عددا من المحاور، أهمها سن التشريعات الضرورية لعملية الدمج والمساءلة، وإنشاء هيكل تنظيمي جديد يعكس التنوع المجتمعي ويعزز الهوية الوطنية، وإنشاء هيئة مدنية مستقلة للإشراف والمحاسبة ومراقبة عملية الإصلاح وضمان الشفافية.
وخلص التقرير إلى أن الالتزام بمسار العدالة الانتقالية يعد ضرورة وطنية لضمان عدم تكرار مأساة الماضي، وتحقيق الاستقرار الدائم الذي يطمح إليه السوريون بعد عقود من الاستبداد والنزاع المدمر.
وشدد على أن نجاح هذه الرؤية يتطلب التزاما جماعيا من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الضحايا والناجون ومؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي، كما أنه لا يمكن لأي ركن من أركان العدالة الانتقالية الأربعة أن يحقق الفعالية المنشودة بمعزل عن بقية الأركان.