لم يكد تمرّ ساعات قليلة على قرار جامعة إسطنبول، إلغاء شهادة تخرج رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، مع ما صحب القرار من جدل وصخب على المستويين السياسي والشعبي، حتى فوجئ الرأي العام، بنبأ اعتقال إمام أوغلو في الساعات الأولى من صباح يوم 19 مارس/ آذار الجاري، تنفيذًا لقرار المدعي العام، حيث شمل القرار احتجاز أكثر من مائة آخرين.
قائمة المحتجزين شملت بيروقراطيين مقربين من أكرم، ورئيس بلدية شيشلي بإسطنبول، ونائب رئيس حزب "الجيد" في إسطنبول، إضافة إلى رجال أعمال، بعضهم تم اعتقاله وهو يحاول الفرار خارج البلاد وبحوزته 40 مليون ليرة نقدًا، فيما تمكن آخرون من الهرب فعلًا.
بالطبع أثارت الاعتقالات حالة واسعة من الجدل، ففيما رآها البعض محاولة من قبل الحكومة وتحديدًا الرئيس، رجب طيب أردوغان، للحيلولة دون ترشح أكرم للرئاسة، اعتبرها آخرون واحدة من أكبر جرائم الفساد ودعم الإرهاب في تاريخ تركيا.
إذ تنوعت قائمة الاتهامات ما بين الرشوة والابتزاز والتحايل، والحصول على البيانات الشخصية بدون وجه حق، وصولًا إلى اتهام أكرم بعضوية وقيادة تنظيم للجريمة المنظمة، ودعم الإرهاب كما سيأتي لاحقًا.
إجمالي الفساد الذي تم الكشف عنه هو الأكبر في تاريخ تركيا، حيث يقدر بـ 560 مليار ليرة، بحسب ما نشره إعلام تركي منسوبًا إلى جهات التحقيق، فكيف بدأت القضية؟
في مارس/ آذار من العام الماضي 2024، تمّ تسريب شريط مصور، لمجموعة من الأفراد في مكانٍ ما تبين لاحقًا أنه مكتب محاماة، وهم يحملون حقائب مختلفة الحجم، ويقومون بإفراغ ما فيها من أموال على منضدة، فيما يقوم شخص بعدّها بواسطة ماكينة إلكترونية.
كان من السهل التعرّف عليهم لكن أهم هؤلاء، والذي كان يقوم بعدِّ الأموال، هو فاتح كيليتش، الملقب بـ "الصندوق الأسود" لرئيس بلدية إسطنبول، وأقرب المقربين إليه، منذ أن كان أكرم رئيسًا لبلدية "بيليك دوزو".
المفارقة أن الشخص الذي نشر الفيديو، لم يكن ذا علاقة بحزب العدالة والتنمية الحاكم، بل رئيسًا سابقًا لفرع الشباب بحزب الشعب الجمهوري في ولاية موش، ويدعى أركان تشاكير، تمامًا مثل الشخص الذي أثار قضية عدم قانونية شهادة أكرم الجامعية، والذي كان من خارج دائرة مؤيدي أردوغان والحزب الحاكم.
حينها قال تشاكير إن صفوف الأموال المتراصة أفقيًا ورأسيًا التي تظهر في الصورة، جاءت من أصحاب شركات الإنشاءات الذين نجحوا في الحصول على مناقصات من بلدية إسطنبول، أي أنها كانت بمثابة رشاوَى!
ومنذ تلك اللحظة بدأت جهات التحقيق في ممارسة عملها، ويومًا بعد الآخر كان نطاق العملية يتسع شيئًا فشيئًا، إذ تم اعتقال مقربين من أكرم، ومن المنتمين لحزب الشعب الجمهوري، أبرزهم رئيس بلدية بيشكتاش بإسطنبول، رضا أكبولات، الذي اعتقل في يناير/ كانون الثاني الماضي، حيث تؤكد تقارير صحفية، إدلاءَه باعترافات تفصيلية مذهلة، حمَّل فيها أكرم مسؤولية العمليات المشبوهة المنسوبة إليه.
وفي فبراير/ شباط الماضي، تم اعتقال رئيس بلدية بيكوز بإسطنبول، علاء الدين كوسلر وآخرين، بتهم التلاعب في المناقصات، ومساعدة منظمة مخصصة لارتكاب الجريمة.
وقبلهما في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تم اعتقال رئيس بلدية إسنيورت بإسطنبول، أحمد أوزر، والذي حظي بدعم قوي من أكرم لترشيحه للمنصب على حساب مرشح حزب الشعب الجمهوري، الذي أجبر على الانسحاب، وذلك في إطار ما يعرف بـ "الإجماع الحضري".
ويعود هذا المفهوم إلى حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية DEM، حيث أعلنه في ديسمبر/ كانون الأول 2023 أي قبل الانتخابات البلدية الأخيرة بثلاثة أشهر، وذلك بزعم التعاون مع الأحزاب المختلفة لتقديم مرشحين في الولايات والمناطق المختلفة.
لكن في نطاق تحقيقات جهات الأمن، اتضح أن أكرم استغل هذه المظلة، لإقامة تحالفات مع تنظيمات إرهابية، حيث تم تسجيل بعض المنتسبين لها على أنهم أعضاء في حزب الشعب الجمهوري، وذلك قبل أيام قليلة من الانتخابات البلدية في مارس/ آذار 2024.
كما اتضح لجهات التحقيق، أن كثيرًا من هذه الأسماء تسللت إلى هياكل المؤسسات التابعة لبلدية إسطنبول الكبرى، وكذلك إلى مناصب قيادية في البلديات الفرعية التي فاز بها حزب الشعب الجمهوري.
مع تقدم جهات التحقيق في عملها، واعتقال مقربين من أكرم إمام أوغلو، كان الخناق يضيق عليه، فكان اللجوء إلى خطة بديلة، وهو إعلان الترشح الرئاسي، لحمل السلطة على التفكير ألف مرة، قبل اعتقاله حتى لا تشعر بالحرج داخليًا وخارجيًا.
وهذا ما اعترف به النائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري، سيزغين تانريكولو، إذ قال خلال مشاركة متلفزة: " كنا على علم مسبق بتحقيقات الفساد والإرهاب التي تستهدف أكرم إمام أوغلو، لذا صممنا الانتخابات الرئاسية التمهيدية داخل الحزب لإخراجه من هذه التحقيقات".
ويبدو أن رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، أدرك حقيقة تلك الانتخابات التمهيدية، فاعتذر عن عدم الترشح، وبذلك صار أكرم المرشح الوحيد، لكن الاعتقال عاجله قبل أن يحين موعد تلك الانتخابات.
ما بين صعود أكرم إلى المسرح السياسي التركي، وتهاويه ليست ثمة قصة طويلة، كالتي مرَّ بها أردوغان منذ أن كان شابًا صغيرًا في معية الراحل الأستاذ نجم الدين أربكان في حركة "المللي غوروش" وأحزابه المختلفة، حتى وصوله للرئاسة.
فقد بدأ أكرم حياته السياسية يمينيًا مغمورًا في حزب الوطن الأم، قبل أن يقرر أن ييمم وجهه صوب حزب الشعب الجمهوري "اليساري الأتاتوركي"، لكن في طريقه إلى ذلك التحول الحاد، حاول أكرم الالتحاق بعربة حزب العدالة والتنمية الحاكم، لكن الحزب رفضه ولم يرحب به لأسباب غير معروفة.
ومن خلال حزب الشعب تمكن من الفوز برئاسة بلدية "بيليك دوزو" في إسطنبول، ومنها شق طريقه إلى الترشح لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
في عام 2019 ترشح أكرم في مواجهة رئيس الوزراء السابق، بن علي يلدريم، في مواجهة رآها البعض غير متكافئة نظرًا لتاريخ يلدريم السياسي، وسجله المهني المعروف، لكن أكرم حقق المفاجأة وفاز عليه في الجولة الأولى ثم في الإعادة بفارق كبير، إضافة إلى نجاحه في استغلال إعادة الانتخابات لبناء مظلومية وظّفها جيدًا في تعظيم شعبيته.
كان واضحًا أن الرجل لن يكتفي برئاسة البلدية الأهم في تركيا، بل سيعمل على شق طريقه إلى رئاسة البلاد، وهذا حق مشروع دونما شك، وقد عززت الدعاية الداخلية والغربية هذا الإحساس لديه، خاصة بعد فوزه للمرة الثانية برئاسة البلدية في 2023 على حساب وزير سابق حينها وهو مراد قوروم.
في طريقه إلى تحقيق أحلامه، عمل أكرم على تعزيز مكانته داخل الحزب، على حساب شخصيات ذات ثقل، في مقدمتها رئيس حزب الشعب السابق، كمال كليجدار أوغلو، حيث لعب أكرم دورًا مؤثرًا في الإطاحة به لحساب رئيس الحزب الحالي، في المؤتمر العام الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والمفارقة أن وقائع ذلك المؤتمر قيد التحقيق الآن بعد أن اتهم أعضاء من الحزب أكرم باستخدام المال للإطاحة بكليجدار أوغلو.
سياسة تأميم الحزب لصالحه، والعصف بالمخالفين والتعالي عليهم، عملت على خلق جبهة عريضة ضده اجتهدت في كشف جميع أوراقه ومخالفاته لجهات التحقيق، ولعبت دورًا مؤثرًا في القضية.
لم تكن تلك العملية الأمنية من السهولة بمكان، إذ جرَّت خلفها تداعيات اقتصادية وحزبية. فعلى المستوى الاقتصادي، تعرضت الليرة التركية، لهزة عنيفة، حيث شهدت انخفاضًا بنحو 11% قبل أن تقلص خسائرها بنحو 5.5%، حيث اضطر البنك المركزي إلى ضخ نحو 8 مليارات دولار بحسب رويترز.
كما انخفض مؤشر بورصة إسطنبول الرئيسي بأكثر من 6% ما اضطرها إلى وقف التداول مؤقتًا.
أما حزبيًا.. فإن حزب المعارضة الرئيسي تنتظره أيام صعبة، خاصة إذا قررت جهات التحقيقات القضائية، إلغاء نتائج المؤتمر العام، وأثبتت استخدام المال لشراء الأصوات، ما يعني عودة كليجدار أوغلو إلى رئاسة الحزب، ومن ثم إعادة هيكلته للإطاحة بجميع المقربين من أكرم، وهي عملية ستترك آثارها التنظيمية والشعبوية السلبية على مسيرة الحزب.
لكن من غير المتوقع أن تشهد تركيا اضطرابات أمنية عنيفة على غرار أحداث جيزي بارك 2013، فحجم وقائع الفساد التي يتم الكشف عنها منذ اعتقال أكرم كبيرة ومهولة ومدعومة بالوثائق والصور، ما ينفي عنها صفة "التسييس"، ويقود إلى تقليل حجم التعاطف الشعبي معه يومًا بعد الآخر.
كما أن انخراط اليسار الكردي في عملية سلام مع الحكومة، سيجبره على الاكتفاء بالمواقف الكلامية، دون التورط في أي مواجهات في الشارع من أجل أكرم.
وبخلاف بعض ردود الفعل الأوروبية الباهتة، فإنه من غير المنتظر أن تصعد القارة العجوز الموقف ضد تركيا، خاصة وهي تخوض معها مفاوضات ومباحثات لضمها إلى نظامها الأمني الجديد ودعم أوكرانيا.
كذلك أكدت الولايات المتحدة من جانبها أن حملة الاعتقالات شأن تركي داخلي، ما يعني أن ورقة الضغوط الخارجية التي ربما كان يعول عليها أكرم، تسرّبت من بين يديه.
والخلاصة أنه بدا واضحًا أن الحكومة التركية قد أحكمت أمرها قبل الإقدام على هذه العملية الأمنية، الأقوى منذ محاولة الانقلاب الفاشلة 2016، سواء من حيث إحكام الأدلة، أو التحسّب للتداعيات المحتملة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.