آخر الأخبار

“العنقاء”.. مدرسة أيقونية في قطاع غزة

شارك الخبر

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

غزة- بينما كان محمد حمّاد يسير بين أزقة الخيام، يراقب بألم وصمت تجمهر الأطفال حول قدور التكايا واصطفافهم على طابور تعبئة المياه، أطفال حفاة يتسكعون في نهار ضائع، يتأرجحون فيه بين ذل المكان وفراغ الزمان.

فر محمد إلى البحر متمعّنا في حروب إسرائيل الخفية التي تسعى لإبادة العقل بشكل بطيء ومتعمد، وبينما هو منهمك في التفكير، لاحظ وجود فتيات في عراء استراحات الشاطئ لساعات متأخرة من النهار، سألهن عن سبب وجودهن، فأجبنه "نحن طالبات في الثانوية العامة نلاحق الإنترنت الذي لا يتوفر إلا في المقاهي أو الاستراحات البحرية".

علا صوت داخلي يدعم ما يفكر فيه محمد "إنها ضرورة وحاجة ملحة"، صارعته هواجس المكان والزمان والمقدرات، استغرق في التفكير بكيفية الشروع بتنفيذ ما يصبو إليه، وأمضى عدة أيام مترنحا بين الاندفاع له والإحجام عنه.

وبقي على هذه الحال إلى أن شاهد مقابلة مصورة خلال تصفحه مواقع التواصل الاجتماعي، مع رجل طاعن في السن يقول فيها "تريد إسرائيل بشكل ممنهج أن يقضي الجيل حياته في مطاردة طوابير الطعام والشراب، لكننا مستعدون للاستغناء عن كل شيء إلا العلم والتعليم".

هو صراع الإرادة إذن الذي ثار كطوفان لدى محمد، فأخذ القرار بالتمرد على الواقع والشروع بالخطوة الأولى في بناء مدرسة لا تقتصر على كونها فضاء تعليميا، بل لتكون ملاذا لبناء الإنسان الذي تسعى إسرائيل لتدميره.

مصدر الصورة يعمل في المدرسة 66 معلمًا ومعلمة معظمهم من المتطوعين وأصحاب الخبرات الطويلة في التدريس (الجزيرة)

نهضة العنقاء

60 يوما فقط كانت كافية لتحقيق حلم محمد وفريقه، الذين نهضوا بمدرسة "العنقاء" التي اكتسبت من اسمها نصيبا وانتفضت من تحت الرماد بمفهوميها المعنوي والمادي بعيدا عن الأساطير، حيث إن 40% من مقدرات بنائها كانت من ركام الدمار الذي قاموا بإعادة تدويره.

إعلان

يقول مدير مشروع إنشاء المدرسة محمد حماد للجزيرة نت "حصلنا على الحديد من الحمامات الزراعية المتكسرة، واستصلحنا البلاط من الشوارع المجرفة ومن المناطق الحدودية، واشترينا العشب الصناعي من الملاعب، حيث كان رقعا متفرقة قمنا بحياكتها وغسلها واستخدامها، حتى الزينة جلبناها من بيوت الأصدقاء والأقارب التي تعرضت لتدمير جزئي".

أما المقاعد المدرسية فكانت جزءًا من الفكرة الثورية، حيث تم انتشال مقاعد من المدارس المقصوفة، ثم تجميعها وإصلاحها وتحويلها إلى مقاعد دراسية جديدة.

وبينما اعتمد الفريق المنفذ في توفير جزء كبير من المقدرات على إعادة تدوير الركام، فإن 60% من باقي المواد اللازمة قاموا بشرائها من سوق غزة المحلي، تماهيا مع شعارهم "غزة تغيث نفسها"، "ففي ظل إغلاق الحدود ومنع إدخال الموارد، ما حك جلدك غير ظفرك" كما يقول محمد.

وفي طريق تحقيق الحلم، اعترضت الفريق عقبات كان أبرزها إيجاد مساحة واسعة مستوية، وسط تكدس قرابة مليوني نازح جنوبي القطاع، بالإضافة إلى انعدام الكهرباء والماء، وافتقار السوق لـ"شوادر الخيام".

لكن جميع العقبات تم التغلب عليها، حيث نجح الفريق وبمساهمات من داخل القطاع وخارجه في تنفيذ مشروعي توليد الطاقة الشمسية وحفر بئر مياه لصالح المدرسة تستفيد منها مئات العوائل في المناطق المحيطة، ويقول حماد "إن أمرا غريبا حدث معهم خلال حفر البئر، حيث إن المياه المستخرجة كانت عذبة، خلافا لما هو متوقع، رغم بعدها عن البحر 200 متر فقط".

مصدر الصورة العنقاء تعد أكبر مدرسة ميدانية في قطاع غزة وتمتد على مساحة 3 دونمات (الجزيرة)

المدرسة الأيقونة

تبدو العنقاء بعيون الغزيين أكثر من مدرسة وأعظم من مشروع، يتهيأ للداخل إليها أنها صرح تعليمي، ويخيل لزائرها أنه خارج جغرافيا الحرب، فهي أكبر مدرسة ميدانية في قطاع غزة، ممتدة على 3 دونمات، تضم 2500 طالب وطالبة من مرحلة التمهيدي وحتى الثانوية العامة لكلا الجنسين، خصص لكل جنس 3 أيام أسبوعيا، على 4 فترات، من الصباح وحتى الساعة الرابعة عصرا.

إعلان

يعمل في المدرسة 66 معلمًا ومعلمة، معظمهم من المتطوعين أصحاب الخبرات الطويلة في التدريس، ويشيد محمد بكوادرها قائلاً "أغلبهم كانوا مديرين سابقين أو معلمين لديهم خبرة تتراوح بين 10 إلى 20 عامًا"، وقد تم تعيينهم بعدما خضعوا لمقابلات توظيف أشرفت عليها لجنة من وزارة التربية والتعليم، ليتم اختيار 66 معلما ومعلمة من أصل 400 من المتقدمين.

أما إقبال الطلاب على التسجيل فقد كان "صادما" كما وصفه حماد، وتحدث عنه قائلا "حين فتحنا أبواب التسجيل، كان عدد المسجلين يكتمل خلال ساعات قليلة، واضطررنا لإيقاف التسجيل بالقوة بعد ساعات فقط من الإعلان عنه، حيث أغلقت البوابات لإيقاف مد الراغبين في التسجيل".

وترجم هذا الإقبال انبهار العامة بالمدرسة، التي نقلت أطفالهم من جو الخيام البائس إلى مكان فسيح يضم بين جنباته ملعبا وحديقة ومساحات واسعة، وألوانا ومقاعد وإنارة ومقصفا ومتخصصين، فكانت مدرسة حقيقية تحوي ضمن أسوارها مدرسة قرآنية لتعليم التوحيد والفقه والقاعدة النورانية والسيرة وتلاوة القرآن والسنة بشكل لامنهجي.

الحلم صار حقيقة

وبعد جهد مضن تكلل بافتتاح مهيب، أزيح به الستار عن حكاية تحدٍّ بدأت بفكرة وصارت حقيقة وواقعا، لم يتمالك يومها محمد دموعه حين أبصر ثمرة جهده وفريقه، واصطفاف الأطفال في مكانهم الصحيح حيث الطابور المدرسي، حينها شد صديقه من ذراعه وسجدا لله شكرا أن استخدمهم لإنقاذ 2500 طفل من وحل الجهالة وعبث التشرد، واصفا ذلك بأنه "أسعد يوم في سنين عمري كلها".

وبعد مرور شهر من انتظام الدوام المدرسي، يشيد المشرفون على المدرسة بحالة الانضباط السائدة، ويقول محمد "هناك حالة عجيبة من الانضباط والالتزام، فلا يوجد طفل يأتي مرغما للمدرسة، ولا توجد حالات لتغيب طلاب أو عدم انتظام أو هروب، الاندفاع نحو التعلم كان لافتا".

ونجح محمد في الحصول على اعتراف وزارة التربية والتعليم لمنشآته التعليمية، كما أن بيانات الطلبة مسجلة لديها، وتم الاتفاق مع الوزارة على منح شهادات للطلاب الملتزمين في نهاية العام الدراسي، كما تمكن وبالتعاون من منظمة "يونيسيف" من تحديد إحداثيات المدرسة وموقعها المكاني على نظام "جي بي إس" في محاولة لتحييدها من خطر الاستهدافات الإسرائيلية.

إعلان

"ألم يكبلك الخوف من الخوض في مشروع يتجمع فيه مئات الأطفال تتحمل المدرسة مسؤولية سلامتهم؟" سألته الجزيرة نت ليجيب "أرى أن ترك الأطفال في مستنقع الجهل هو قتل بطيء لهم وقضاء على حياتهم، فهل نخشى عليهم من موت ممكن أكثر من خوفنا عليهم من موت حتمي"، وأضاف "نحن نعيش الحرب منذ 15 شهرا، إلى متى سنظل فريسة للخوف الذي يمنعنا من تحقيق أحلامنا ويدفعنا للهروب من أفكارنا؟".

مصدر الصورة مستويات التعليم في المدرسة تمتد من التمهيدي وحتى الثانوية العامة لكلا الجنسين (الجزيرة)

"شعبنا يستحق الأفضل"

تعد "العنقاء" واحدة من أكثر من 284 مشروعا كبيرا مسجلا، قام بها فريق "عونا" الشبابي التطوعي، شملت حفر الآبار وتشغيلها وفتح الشوارع وإزالة الركام ومشاريع الصرف الصحي، وإنشاء المخيمات وتوزيع اللحوم وتقديم الطرود وإنشاء مستشفى طبي ودعم النقاط الطبية، وإنشاء مدارس تعليمية ودعم نقاط التعليم.

ويتحدث الشاب العشريني الطموح عن خطواته المقبلة "أسعى لتجهيز قاعات بأحدث التقنيات، بسعة تصل إلى 900 طالب لعقد الدورات اللامنهجية، كما أرنو لتوسيع المدرسة لاستيعاب أعداد إضافية من الطلبة المتكدسين على قوائم الانتظار، إضافة للسعي لتوفير الإنترنت نظرا لاحتياج طلاب الثانوية العامة له في دراستهم بشكل مستمر".

وتحول حماد من ناشط إعلامي يوثق مجازر الاحتلال في بداية الحرب على غزة إلى مؤثر وملهم يغيث المكلومين ويعزز صمودهم، يقول "وصلت لقناعة أن نروج لإنجازاتنا، لا لمأساتنا، شعبنا يستحق الأفضل، وأسعى دوما لإحداث تحول حقيقي في حياة الناس حتى في أحلك الظروف".

ويختم حماد حديثه للجزيرة نت "أكره أن تظهر غزة بمظهر المتسول، وللعالم الشرف بمساندة غزة دون منة أو تفضل، وبهمتنا المتقدة سترون غزة كما لم تروها من قبل".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا