آخر الأخبار

من تاتشر إلى الجولاني: كيف يغيّر السياسيون صورتهم؟ ولماذا؟

شارك الخبر
مصدر الصورة

بعد أن كان اسم "أبو محمد الجولاني" مرادفاً لواحدة من أقوى الجماعات الجهادية في سوريا، أصبح أحمد الشرع في نسخته المحدّثة، حديث كثير من السوريين وغيرهم، كرمز للمرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة، بعدما خلع عباءته الجهادية، وارتدى ملابس مدنيّة.

وبينما يُجري الشرع مقابلات مع وسائل إعلام عالميّة، ويستقبل وفوداً دولية في القصر الجمهوري في دمشق، ويلتقط صوراً وسط الناس في الأماكن الشعبية، ويدخل إلى المسجد الأموي تحت عيون الكاميرات، تنقسم الآراء حول التحوّلات الملحوظة في الصورة العامة للقيادي في "هيئة تحرير الشام"، أو من بات يعرف خلال الأيام بالقائد العام للإدارة السورية الجديدة، بعد سقوط حكم بشار الأسد.

في الواقع، لم يكن تحوُّل الجولاني من "زعيم جهاديّ إلى سياسيّ معارض" أمراً حديثاً، "بل تطوّر بعناية على مرّ السنين، وكان واضحاً لا في تصريحاته العامة ومقابلاته الدولية فحسب، بل أيضاً في مظهره المتغيّر"، تكتب زميلتنا المُختصّة بشؤون الجماعات الجهادية في "وحدة المتابعة الإعلامية في بي بي سي" مينا اللامي، في مقال نشرته بي بي سي قبل أيام.

قد تُشكّل التحوّلات التدريجية في صورة الجولاني، حالة نموذجيّة للدراسة من قبل المختصّين في التسويق السياسي، والباحثين في أسس صناعة الصورة العامة أو "العلامة التجارية الفارقة" للسياسيين.


* هيئة تحرير الشام تواجه اختبار الحكم الشامل: من إدلب إلى سوريا بأكملها
* كيف يشكل التنوع الطائفي والعرقي الهوية السورية؟
مصدر الصورة

على مواقع التواصل، يتسابق المعلّقون على قياس التغييرات في طول لحية الشرع وهندامه وطريقة كلامه؛ لكنّ هذا التحوّل ليس ظاهرة جديدة أو فريدة من نوعها، كما يخبرنا أستاذ التسويق في جامعة نوتنغهام كريستوفر بيتش.

يأخذُنا بيتش إلى تجربة مماثلة، خاضتها مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا في الفترة بين 1979 و1990. "ففي السبعينيات، مع بداية صعود تاتشر سُلّم القيادة في حزب المحافظين، كانت تحتاج إلى تغيير صورتها كي تبدو مقنعة كرأس للدولة، وكرئيسة وزراء محتملة"، يقول.

استعانت تاتشر حينها بخبراء في العلاقات العامة والتسويق، لحياكة صورة محبوكة بعناية، تُمثّلها كشخصية تُلبّي متطلّبات القيادة، توحي بالثقة، وبالقدرة على الإمساك بزمام الحكم. باتت تختار ملابس تشي بالصلابة والودّ في آن، وعدّلت نبرة صوتها الرفيعة، لتصير هادئة وثابتة، حتى أنّها غيّرت تسريحة شعرها. وهكذا تشكّلت علامة "المرأة الحديدية"، وباتت صاحبة التأثير الأعمق على الحكم والسياسة في بريطانيا، لنحو عقدين من الزمن.

على مثال زيلينسكي

مصدر الصورة

كي لا نعود بالزمن كثيراً إلى الوراء، يمكننا أن نجد مثالاً راهناً في التسويق السياسي، حقّق نجاحاً، في علامة الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي.

عُرف زيلينسكي في البداية، ككاتب وممثّل كوميدي، وحظي بشهرة في مسلسل بعنوان "خادم الشعب"، يحكي قصة مواطن عادي يصبح رئيساً. ومع صعود نجمه في عالم السياسة، استخدم زيلنسكي خلفيته تلك، لتقديم نفسه كنموذج مغاير عن النخب السياسية التقليدية في أوكرانيا.

بعد الغزو الروسي لبلاده، وبفضل خطاباته، وقمصانه الزيتية الرياضيّة الصيفية والشتوية، أصبح رمزاً للصمود في وجه العدوان، ومُمثّلاً للروح المعنوية للشعب الأوكراني.

يقول أستاذ التسويق في جامعة لسيسيتر البريطانية البروفيسور بول باينز إن معرفة زيلينسكي العميقة بوسائل الإعلام، وكيفية عملها، وعلاقاته القوية بأقطابها، نظراً لخلفيته كممثل وامتلاكه شركة إنتاج، كلها عوامل ساعدته في إضفاء مصداقية على صورته العامة، وجعلت منه علامة فارقة.

يقول باينز: "قد يبدو الأمر غريباً، أن نرى ممثّلاً يُجسّد دور رئيس في مسلسل تلفزيوني، يصبح رئيساً حقيقيّاً لبلاده، لكن هذا الأمر من سمات عصر ما بعد الحداثة. امتلك زيلينسكي القدرات المطلوبة، وأظهر صفات بطولية واضحة، وعمل بجدّ كبير لكسب تأييد الجماهير حول العالم، فتحدّث في برلمانات دول عدّة، خصوصاً تلك التي تُعَدّ من أكبر المانحين، مثل ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وعلى الصعيد الداخلي، اتخذ خطوات لتعزيز معنويات شعبه وتحفيزه على القتال والدفاع عن وطنه".

ما هو علم التسويق السياسي؟

يختلف السياق التاريخي لصعود تاتشر عن السياق الأوكراني أو السوري، فلكلّ بلد سياقه السياسي وأزماته الخاصة... ولكنّ الترويج لشخصيات القادة علمٌ قائم بذاته، ويمكن أن يحدث فرقاً حقيقياً في صعود تلك الشخصيات أو أفولها، بحسب المختصّين.

ببساطة، يستعير التسويق السياسي قواعد ومبادئ التسويق التجاري ذاتها، ويطبّقها في عالم السياسة، عوضاً عن تطبيقها على ترويج السلع، أو العلامات الفاخرة، أو الرحلات السياحية، أو المنتجات الرياضية. ويُعنى التسويق السياسي ببناء صورة عامّة أو "علامة تجارية فارقة"، تصير أشبه ببصمة للأحزاب والشخصيات والحركات السياسية، ويلعب بالتالي دوراً في مدى شعبيتها، ونظرة الجماهير لها، وإرثها.

يقول الأكاديمي كريستوفر بيتش إن جذور الترويج السياسي، قديمة جداً، تعود بحسب تعبيره إلى "اليونانيين القدماء الذين كانوا يسوّقون برامجهم وتعهداتهم السياسية على ألواح منحوتة، ويجولون فيها بين المدن والقرى".

على مرّ القرون، "تطوّر التسويق السياسي، خصوصاً بوجود الإعلام الحديث، واستخدام الملصقات، والراديو، والتلفزيون، للتواصل مع الناخبين، وصولاً إلى الإعلام الرقمي الذي غيّر بالكامل طريقة تواصل السياسيين مع الجمهور".

ويتابع: "التسويق السياسي اليوم صناعة بملايين الدولارات، يستهدف الجماهير بدقّة، وله تأثير واسع. صناعة صورة عامة أو علامة فارقة في عالم السياسية، تعني صقل سردية متماسكة، تعكس قيم الشخصية أو الحزب، وتقدر على خلق رابط عاطفي مع المناصرين".

ويرتبط نجاح خطط التسويق السياسي، بالعمل بناءً على دراسات واستطلاعات رأي دقيقة، لفهم مزاج الجمهور. ويشير بيتش إلى مجموعة مبادئ أساسية يحرص المسوّقون السياسيون المحترفون على تطبيقها لجعل العلامة السياسية فعّالة وناجحة. يقول: "من الركائز الأساسية: التميّز عن المنافسين، والقدرة على تقديم رؤية وقيم واضحة. هناك أيضاً الأصالة والثقة، وضرورة أن يكون الجمهور قادراً على التماهي مع القائد، وأن يكون الأخير متصلاً بهموم الناس".

بحسب الأستاذ بيتش، فإن حملتي باراك أوباما لانتخابات الرئاسة الأمريكية عامي 2008 و2012 تُعدّان حالتين نموذجيتين في تطبيق تلك المبادئ التسويقية بنجاح. اعتمد أوباما إطلالات مختلفة – ربطة عنق وملابس رسمية أمام شرائح من الجمهور، وأكمام مرفوعة بدون ربطة عنق أمام شرائح أخرى – لإظهار مرونة أكبر. يقول بيتش: "أراد أوباما الظهور أحياناً بشكل رسمي كرجل دولة، وأحياناً أخرى ببساطة وودّية ليكون أكثر قرباً من الناخبين".

مصدر الصورة

كذلك يشير بيتش إلى مثال دونالد ترامب "الذي نجح خلال الانتخابات الأخيرة بتقديم نفسه على أنه المستضعف، رغم أنه شغل منصب الرئيس لأربع سنوات سابقاً. كان من اللافت كيف استمرّ بتصوير نفسه كمرشّح ضدّ المؤسسة الحاكمة، مستخدماً الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّه، والجدل المحيط بحملته، كوسيلة لتعزيز صورته كشخصية تعارض وتناضل ضدّ المنظومة السياسية الأمريكية القائمة".

هناك أمثلة معاصرة مشابهة، مثل رئيسة الوزراء النيوزلندية السابقة جاسيندا أردرن التي عزّزت صورتها كقائدة متعاطفة ولطيفة وقريبة، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي لقبت بـ "ماما ميركل" في إشارة إلى أنها توحي بالطمأنينة. هناك أيضاً رجب طيب أردوغان الذي يربط صورته العامة بعظمة التاريخ الإمبراطوري العثماني، مع مخاطبة الحسّ القومي التركي، والدفاع الدائم عن القيم التركية التقليدية.

كما نجد شخصيات أخرى أثرت صورتها العامة بشكل سلبيّ على مكانتها السياسية، ومن بينها، كما يقول بيتش، رئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك الذي بدت صورته العامّة "كشخصيّة بعيدة المنال، ونخبوية، ومنفصلة عن عامة الشعب".

هالة القائد "الذي لا يقهر"

في الانتخابات الديمقراطية، ترتبط صناعة التسويق السياسي وخلق علامة brand للقادة والزعماء، بأهمية جذب الناخبين، وتحقيق نتائج أفضل في استطلاعات الرأي، وزيادة الشعبية، للفوز بالأصوات.

ولكن، حتى في السياقات الشمولية أو القائمة على شخصية قائد واحد، هناك أيضاً حاجة لتسويق صورة عامّة دقيقة، "لخلق هالة حول شخصية مُسيطرة، لا تُقهر، وتحظى بالولاء"، بحب البروفيسور بول باينز.

في هذا السياق، يتحدّث بيتش عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "ظهوره بزيّ الجودو أو على صهوة حصان بلا قميص، يرسل رسالة قوة وصلابة. إنها صور مدروسة لتدعيم علامة القائد القوي، حتى وإن لم يكن الهدف إقناع الناخبين بقدر ما هو ترسيخ الهيمنة".

الأمر ذاته ينطبق على زعماء آخرين يركّزون على الرمزية والمشهدية، مثل العروض العسكرية والاحتفالات الضخمة، لتعزيز الهوية القومية وإشعار المواطنين بأن القائد قوي ولا يهزم. على هذا المنوال، يصدّر الإعلام الكوري الشمالي صورة كيم جونغ أون كـ "منقذ الأمة وحاميها".

ويقول باينز إن كلا الزعيمين يستخدمان "صوراً مختارة بعناية لتعزيز هيمنتهما وترسيخ ما يشبه الرابط الأبوي بينهما وبين الشعب".

مصدر الصورة

ماذا عن الجماعات المتطرّفة؟

في الثمانينيات، غالباً ما صورت وسائل الإعلام والحكومات الغربية المجاهدين الأفغان — المقاتلين الإسلاميين ضد الغزو السوفيتي — على أنهم مناضلون من أجل الحرية. لكن هذا التصور تغيّر جذرياً منذ التسعينيات.

يدرس البروفيسور بول باينز، "تغيير العلامة التجارية" لدى جماعات مثل "القاعدة"، وتنظيم "الدولة الإسلامية"، و"الشباب"، و"بوكو حرام"، وغيرها من الجماعات التي تتبنّى أيديولوجيات متشدّدة.

ويقول باينز لبي بي سي إن "القاعدة كانت أول علامة تجارية brand إرهابية عالمية"، إذ تجاوزت نطاقها الإقليمي، وسعت لصنع هوية عابرة للحدود، وعلامة قائمة على العنف والترهيب، والعداء للغرب والولايات المتحدّة والحداثة، وقد أسهمت في جذب بعض العناصر، لكنها في المقابل أثارت نفور فئات واسعة".

ويلفت باينز إلى أن ذلك "لا يقتصر على الجماعات الإسلامية المتشدّدة، فاستخدام التطرّف في الدعاية السياسية يجد مكانته في أوساط اليمين المتشدّد في أوروبا والولايات المتحدة".

يقول باينز إن قادة القاعدة بن لادن والظواهري غيّرا أسلوبهما من البدايات حين كانت الفيديوهات أقرب إلى الخُطب الوعظية. "إذا نظرت إلى تسجيل فيديو للقاعدة من عام 1998، سترين أنه أشبه بخطبة. يقف بن لادن وكأنه شيخ أو إمام يخاطب تلاميذه. وهذا النهج تغيّر، فخلال 10 سنوات بدأت تسجيلات القاعدة تستخدم رسومات حاسوبية، وصارت أقل رداءة من حيث جودة الصورة، وتحسّنت قيمة الإنتاج كثيراً."

لاحقاً وبحلول عام 2012، اعتمد "تنظيم الدولة" أو "داعش" ما يسمّى "إدارة التوحش" وهو مصطلح إلى بثّ الرعب بواسطة تسيجلات الإعدامات العلنية والحرق وقطع الرؤوس.

يؤكد باينز أنّ الجماعات الإرهابية تواجه معضلة فريدة بين الدفع بأجنداتها من خلال العنف وبين الحفاظ على دعم شعبي ضروري لاستمرارها، وهو ما يدفع شخصيات مثل الجولاني إلى إعادة النظر في تلك الأساليب، وتشكيل صورة أكثر قابلية.

يقول بيتش: "في بعض الحالات، يمكن توظيف مبادئ التسويق السياسي لإعادة صياغة الصورة، عبر الاعتراف بالأخطاء السابقة، ووضع رؤية جديدة للمستقبل، والعمل على كسب ثقة الداخل والخارج".

في التاريخ أمثلة عدّة، منها كيف أعاد نابليون بناء صورته بعد نفيه الأول وعودته إلى فرنسا واستعادته الحكم لفترة قصيرة عرفت "بالمئة يوم". وفي التاريخ الحديث، نجد كيف بيل كلينتون بتجاوز فضيحته مع مونيكا لوينسكي بالتركيز على إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية.

التغيير والأمل

في الواقع، يمكن لكلمة "تغيير" بحدّ ذاتها، أن تصبح علامة سياسية قوية، تجتذب الساعين إلى بديل. ويقول بيتش: "كان 'التغيير' الشعار الأساسي لكير ستارمر (زعيم حزب العمال ورئيس الوزراء) في الانتخابات البريطانية الأخيرة. لقد خاض حملته كلّها على فكرة التغيير... فبعد 13 أو 14 عاماً (من حكم المحافظين)، كان الناس حقّاً يتطلعون إلى تغيير ما."

من جانبه يوضح باينز أنّ التسويق السياسي يعتمد كثيراً على الرسائل العاطفية. يقول: "غالباً ما نتناول في التسويق السياسي مفهوم 'الأمل' مقابل 'الخوف'. هناك الكثير من الحملات التي ترتكز على الخوف، وأخرى على الأمل. وفي نهاية المطاف، إذا كنت تسعى إلى قبول ثوري بقائد ما أو إلى تحوّل جذري، فالأمل هو الرسالة الأنجع. أما الأنظمة السلطوية فعادةً ما تلجأ إلى توظيف الخوف".

بهذا المعنى، يحاول أحمد الشرع أن يقطع مع ماضيه الإشكالي، والظهور بصورة "قائد وطني متمرّد" يسعى لتحرير البلاد. ويعلّق باينز: "إنه يقدّم نفسه الآن كما لو كان 'المخلّص'، ويحاول استبدال البذلة الجهادية بثوب القيادة الوطنية المقبولة دولياً".

من منظور التسويق السياسي، يرى باينز أن عملية إعادة التشكيل هذه ليست عشوائية، بل تستند إلى فهم ما يريده الجمهور. يقول: "يلجأ السياسيون إلى استطلاعات الرأي ومجموعات التركيز لتحديد الرسائل الأكثر قبولاً لدى الناس، ثم يكرّرون تلك الرسائل على أمل أن تُصدّق."

غير أن باينز يشدّد على أن نجاح مثل هذه الاستراتيجيات يعتمد في النهاية على أفعال حقيقية. "فالسوريون مرّوا بسنوات من الحرب، ومن الصعب خداعهم بتعديلات شكلية؛ إذا لم يقدّم الجولاني (الشرع) ما يثبت صدق تحوّلاته، فقد يخسر فرصة ترسيخ علامته الجديدة. الناس ليسوا أغبياء".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



إقرأ أيضا