آخر الأخبار

الصّخب والعنف.. كيف عالج وليم فوكنر قضية الصراع الإنساني؟

شارك

مع توالي آلة العنف التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، ومؤامرة الصّمت السياسية في المنطقة على مدى نحو 700 يوم، فضلا عن مفارقة الغرب -المنادي بالحرية والمساواة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها- تجاه ما يكابده الأطفال والنّساء والشّيوخ، بين قتل مدنيين وتجويع وجرائم حرب ترتكبها ترسانة الاحتلال بغطرسة لا مزيد عليها، راودني سؤال: هل انزوى البعد الإنساني واضمحلت الأعراف الأخلاقية في عصر الثورة التكنولوجية؟ وما دور الأدب حيال الحروب والصراعات ذات الصلة؟ ولأن الموضوع واسع فضفاض، اخترت التّعريج على عمل كان له أثر في الولايات المتحدة الأميركية؛ رواية "الصّخب والعنف" (The Sound and the Fury).

تعد هذه الرواية علامة فارقة في إنتاج الأمريكي وليم فوكنر (William Faulkner)، فترتيبها الخامس في رصيده الإبداعيّ، والثالث من حيث تناول مأساة الجنوب، وهي ليست أعظم كتاباته فحسب، بل إنها واحدة من كلاسيكيّات القرن العشرين، أنجزها في ثلاث سنوات ونشرها للمرّة الأولى عام 1929، في السنة ذاتها تزوج من المرأة التي أحبّها ومن أجل عينيها كتب الشعر، وإن وافقت عليه بعد طلاقها وهي أم لطفلتين.

في العام ذاته، 1929، نشر إرنست همنغواي رواية "وداعًا للسّلاح"، وكثيرا ما تعقد مقارنة بين الروايتين، لا سيما أنهما تعالجان الحرب وما ينجر عنها، لكن الفرق بين هذين العملين كبير، وسنتطرق لذلك. في سياق المقاربات والمقاربات سنجد حديثا آخر عن رواية جيمس جويس (يوليسيس)، الصادرة عام 1922، لا سيما أن جويس وفوكنر وظّفا أسلوب تيار الوعي (Stream of Consciousness)، والنّاس مولعون بالمقارنات في كل عصر ومصر، تقريبا.

كتب فوكنر هذه الرواية خمس مرات، وهي الرّواية الّتي قادته إلى طريق نوبل، مع ذلك فقد صرّح قبيل وفاته برغبته في إعادة كتابتها، مشيرا إلى احتمال فشله إن سعى لكتابتها مجدّدا. على النقيض، نجد روايته "بينما أحتضر" (As I Lay Dying)، الصادرة عام 1930، وفي بعض الترجمات "عندما أستلقي تهيّأ للموت"، إذ أنجزها في ستة أسابيع، ولم يكن متفرّغا تماما لكتابتها، فقد عمل 12 ساعة خلال تلك المدّة في مهنة يدويّة شاقّة، كان ينهي دوامه ثم يجلس للكتابة.

مصدر الصورة وليم فوكنر (غيتي)

رواية فوكنر المربكة

تنهض الرّواية على أربعة فصول، لكلّ فصل سارد/راوٍ مستقلّ، وفي تناصٍّ أدبيّ مع شكسبير، يتولّى المعتوه بنجامين (بنجي) سرد أحداث الفصل الأوّل، فيقصّ علينا نبأ آل كومبسون، وسنعرف بعد قليل لماذا التّناصّ هنا مع معتوه شكسبير، وليس معتوه فيودور دوستويفسكي المسمّى بالأمير ميشكن، البسيط السّمح على طريقة دون كيخوته! ووَفق مألوف عادة فوكنر فإنّه يتحرّك في دائرتين؛ دائرة الأسرة ودائرة المدينة والرّيف، بما فيهما من تناقضات وتحدّيات وآمال وآلام.

إعلان

في الفصل الثّاني يتولّى كوينتن خيط السرد، وفي الفصل الثالث يمسك جاسون بزمام الحكي، إلى أن يظهر الراوي في الفصل الرابع ويمضي بنا وصولا إلى نهاية العمل. إذا شاهدت الفيلم الإسباني "The Invisible Guest 2016" الذي أخرجه أوريول باولو، فإنّك بالطبع تتذكر أن القصة نقلت إلينا من وجهات نظر متباينة، هذا التلاعب المقصود بمشاعر المشاهد والانفعالات المتعمدة ترفع درجة التشويق، وتجعل المتلقي يجلس على طرف الكرسي ويتابع التفاصيل الدقيقة باهتمام منقطع النظير، وهذا ما حاول فوكنر إيصاله للقارئ عبر أسلوب تيار الوعي؛ فهل نجح؟

يجيب فوكنر نفسه عن هذا السؤال الحيوي، فخلال محاضرة في جامعة فرجينيا عام 1957، تحدث عن الرواية مبديا شعوره بالإحباط، ووصفها بأنها مجموعة من المحاولات الفاشلة أفضت إلى رواية! أرجع أسباب تبرمه وإحباطه إلى أنه ساق القصة على لسان بنجامين -الأخ المعاق ذهنيا- فاكتشف أن القارئ لن يفهمها على هذا النحو، فلجأ إلى الشّقيق الآخر كوينتن، ومن بعده جيسون، ثم الراوي العليم.

فلم يكن غريبا، والحال هذه، أن تلفت الرّواية انتباه بعض النّقّاد، لكنّها لم تدخل حيّز اهتمام القرّاء سنين عدّة، ربّما لصعوبة أسلوبه وتعقيده وجدّته، ربّما لطول فقراته مقارنة بغيره، وربّما نفر المتلقّي من هذه الرّواية للتّداخلات الزّمنيّة المربكة، وقد علم فوكنر أنّها رواية معقّدة وليست سهلة للقارئ العادي، لذلك طلب من النّاشر أن يميّز الجمل والفقرات الّتي تتحدث عن الماضي بلون يختلف عن تلك الّتي تتناول الحاضر، وبناء عليه لم يتشجّع النّاشر لهذا العمل، ولم يكن فوكنر معروفا حينها لا سيّما أنّ أعماله السّابقة لم تحقّق نجاحا يُذكر، فقرر النّاشر "Jonathan Cape and Harrison Smith" طباعة عدد قليل من النّسخ، ووَفق موقع "Raptis Rare Books" كانت النّسخ المطبوعة 1789 نسخة فقط.

بالرغم من أنّ الرواية صغيرة الحجم، تقع في 162 صفحة من القطع المتوسط، فإن كتابتها وَفق تيار الوعي جعلتها صعبة، فالسّارد في تيار الوعي لا يميز الزّمن، كأنما يعاني من إعاقة عقلية، فتجده يخلط بين الماضي والحاضر، هنا يمكنك تخيل المعلّم عبد السّميع البواب في فيلم (البيه البواب)، حين يتساءل "يوم الخميس كان بكرة.. يبقى التلات كان إيه؟!"، أو بعضهم حين يطلق تحية لا تخلو من مفارقة زمنية، يقول "صباح الليل"!

هنا مسألة تحتاج إلى إعادة تقديم، وتستوجب انتباه الكتّاب الجدد، لماذا؟ لأنّ بعضهم يتوهّم أنّه بتأليف كتاب أو كتابين سيصبح محلّ اهتمام الكوكب، غير صحيح، فقد ظلّت الرّواية الّتي ندوزن على وترها بعيدة عن الأضواء إلى أن فاز صاحبها بجائزة نوبل بعد عشرين سنة من صدور طبعتها الأولى. كذلك، انعقد رجاء البرتغالي خوسيه ساراماغو -سنوات طويلة- في أمنية واحدة؛ أن يكتب عنه بعض محرّري جريدة نوسوتروس، وطلب من ألفريدو بيانتشي مدير المجلّة أن يوزّع روايته الأولى عليهم، فمن الجائز أن يكتب عنها أحد!

مصدر الصورة وليم فوكنر التحق بالعمل في شركة Metro-Goldwyn-Mayer السينمائية، وظل يكتب سيناريوهات الأفلام 13 سنة (شترستوك)

من القصة إلى الشاشة

ولأن الرواية لم تنجح جماهيريا، فقد عانى طويلا لتوفير أساسيات حياته، وكتب رواية بعنوان "الملاذ" (Sanctuary)، ترجمها بعضهم بعنوان "المعبد" عام 1931، قال إنه كتبها على عجل -كما صنع في رواية "بينما أحتضر"- نظرا لحاجته الماسّة إلى المال، وخلال تلك الآونة التحق بالعمل في شركة "Metro-Goldwyn-Mayer" السينمائية المعروفة اختصارا بـ" MGM"، وظل يكتب سيناريوهات الأفلام 13 سنة.

إعلان

هذا الملمح يحيلنا على طرف من حياة نجيب محفوظ، الذي دخل مجال كتابة السيناريو عام 1947، بمساعدة المخرج صلاح أبو سيف، وظل في هذا المجال 12 سنة. في وقت لاحق، أصدر ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري قرارا بتعيين محفوظ مديرا عاما للرقابة على الأفلام سنة 1959، وظل في هذا المنصب عشر سنوات.

لم يغب عن فوكنر أن العمل في السّينما يؤثر في إبداعه، وكان يؤمن بأن الكتابة للسينما تحتّم على الأديب المساومة في فنه وأصالة عمله، لا سيّما أن السّينما تعتمد على العمل الجماعي، وهذا العمل لا يتساوق غالبا مع رؤية المبدع، فهو في الكتابة سيد قراره دون منازع، وليس كذلك حين يتعلق الأمر بالسينما. هذه النقطة تعرض لها نجيب محفوظ وتسامح معها، فارتأى أنه مسؤول عن النص المكتوب، ولا علاقة له بتصرف المنتج أو المخرج في المادة على الشاشة، لكن مبدعين آخرين رفضوا أن يتصرف أحد في حرف واحد مما كتبوه.

مثلما يتحرّك نجيب محفوظ في الحارة المصريّة، وإبراهيم نصر الله في الملهاة الفلسطينيّة، وأمير تاج السّر في الجغرافيا السّودانيّة، وميسلون فاخر وعلي بدر في الأراضي العراقيّة، وهاشم محمود حسن على الخريطة الإريتريّة، يتحرّك فوكنر في إطار جغرافيّ محدّد؛ الولايات الأميركيّة الجنوبيّة، ولا غرو أن يتأثّر به أدباء أميركا اللّاتينيّة، ومن بينهم الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز (نوبل 1982)، والأميركية توني موريسون (نوبل 1993) التي ركزت أعمالها على العنصريّة والنّسوية، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا (نوبل 2010)، والأوروغوياني خوان كارلوس أونيتي، والمكسيكي كارلوس فونتيس، فضلا عن الصيني مو يان (نوبل 2012)، وكثرة كاثرة مما يضيق عنهم الحصر.

مصدر الصورة إرنست همينغوي (أسوشيتد برس)

فوكنر وهمنغواي والسرد

شهرة همنغواي مردّها إلى عالم القصّة القصيرة، إذ يعدّ "بابا الشّغلانة" في عصره، وإذا كانت القصّة قبل همنغواي تُنسب حصرًا إلى تشيخوف، ويمكن أن يُطلق عليها دون حرج القصّة التّشيخوفيّة، فإن همنغواي نفخ فيها من روحه خبرته حتّى ليحقّ أن تُسمى القصّة الهمنغاويّة! أفاد من هنري جيمس، وأبعد نفسه والرّاوي عن القصّة، وأتاح للشّخوص أن تعبّر عن نفسها وأن تقول ما لديها دون توجيه أو رقابة الكاتب، فلا نعرف شيئا لا تعرفه الشّخصيّة، ولا نجد الرّاوي عالمًا ببواطن الأمور، هو يتنقل بنا ويندهش معنا، ويأخذ معلوماته من الشّخوص، مثلنا تمامًا، فكلّ ما في القصّة في حالة تماسّ مباشر مع شخوصها.

ومن القصّة القصيرة جاءت شهرة همنغواي، وبها اكتسب صيته في عالم الأدب والسينما، فلما أن كتب رواياته الطّويلة لم تكن بالدقّة نفسها، ولا بالأهمّيّة ذاتها، ومن ثم تجد صديقه ف. سكوت فيتزجيرالد يوجّه له بعض النّصائح، ويقول إنّ أهم تأثير صنعه في حياة همنغواي أنّه علّمه تقبّل الملاحظات، بقطع النّظر عن العمل بها أو لا.

ويعقد فيتزجيرالد مقارنة عابرة بين "وداعا للسلاح" و"ذهب مع الرّيح" لمارغريت ميتشل، يخلص منها إلى أنّ رواية ميتشل لمّت الشّاميّ مع المغربيّ، وضمّت أشتاتا مجتمعات من حكايا الجدّات عن الحرب الأهليّة الأميركيّة (1861-1865). وهذه الرّواية على ضعفها في نظر كبار الأدباء والنّقّاد تُقارن برواية "وداعا للسّلاح".

بدأت شهرته خارج وطنه، وكثيرا ما يحدث ذلك، لدرجة أن جان بول سارتر قال "فوكنر أحد اثنين أثّرا في فن كتابة القصة الفرنسيّة"، ولا ينفي ذلك أنه وجّه له نقدا يرى أنه غارق في الماضي، ولا يقدم صورة للمستقبل. لعلّ من المفيد هنا الاستئناس بما وقع للكاتب الأيرلندي وليم بتلر ييتس (Yeats)، إذ كان يوصي ناشريه في لندن بألّا يرسلوا كتبه إلى صحف دبلن، وألّا يطلبوا من أيرلنديين كتابة مراجعات لأعماله، ومبعث ذلك أن أولئك النقاد كانوا يتفذلكون في نقدهم، ويحاولون الظهور على أكتاف الأدباء، وفق رؤية ييتس.

إعلان

بالعودة إلى فوكنر، فإنّه ابن الولايات الأميركيّة الجنوبيّة، ومن المفارقات أنه لم يكتب عن معاناة العبيد في ولايات الجنوب، إنّما تناول الصراع النّفسيّ الّذي استولى على الرّجل الأبيض في الجنوب الأميركيّ، وانهيار القيم والعقد المختلفة الناجمة عن الحرب. وإذا كان همنغواي تميّز في القصة، فإن فوكنر أنتج 80 قصة، ومجموعتي شعر، إلى جانب 19 رواية، لكنه في الرواية أقدر منه في القصة، على خلاف همنغواي، إذ أتاحت له الرواية التجريب وهو ما لم يتوفر في عوالم القصة القصيرة.

بعض الترجمات تطلق عليها "الضّجّة والعنف"، وفي بعضها "الصّخب والغضب"، وأخرى "الصّوت والغضب"، وفي ذلك إشارة إلى ما يعتري الترجمة من اضطراب المصطلح، لكن التّرجمة الأكثر شهرة ورواجا لها هي "الصّخب والعنف"، أخذ العنوان من قول ماكبث -في مسرحيّة شكسبير- حين علم بانتحار زوجته، واجتماع كلمة اسكتلندا على قتاله، نظر ماكبث إلى الحياة في لحظة تأمل وانقباض، قال "إنّها شمعةٌ قصيرة، ما الدّنيا إلا ظِلٌّ زائل، ممثّلٌ تعس يصرخ ساعة على المسرح، ثم لا يُسمع أبدًا! إنّها حكايةٌ يقصّها معتوه، ملؤها الصّخب والعنف، ولا تعني أيّ شيء".

وعليه فإنّ ترجمة الرّواية إلى "الضّجّة والعنف" ليست مناسبة، ما لم تؤيّدها وتدعمها مسوّغات منطقيّة، صحيح أنّ الضّجّة تؤدّي المعنى، وأنّ اختلاف التّرجمات حاصلٌ، ورواية همنغواي "The Old Man and the Sea" ترجمت بعنوان "الشيخ والبحر"، وكذلك "العجوز والبحر"، وفي العربية الفصحى العجوز يخصّ المرأة لا الرّجل، وتُرجم مصطلح "Pragmatique" في العربيّة إلى كلمات وتعبيرات مثل (النّفعيّة- الذّرائعيّة- السّياقيّة- علم الاستعمال- علم التّخاطب- علم المقاصد- الانفعاليّة)، غير أنّ مصطلح "التّداوليّة" الّذي سكّه الفيلسوف المغربيّ طه عبد الرحمن عام 1970، له القِدح المعلّى من بين كلّ تلك التّرجمات، وكُتب له الذّيوع والشّيوع.

قورنت رواية فوكنر بأخريات من الروائع العالمية، مثل "الجريمة والعقاب" و"الإخوة كارامازوف" لفيودور دوستويفسكي، لما يجمعها من القضايا الاجتماعية والأزمات النفسية على الصعيدين الخاص والعام. في السياق، قورنت أفكار فوكنر العدمية والانفصامية واغتراب الإنسان في مجتمعه بأفكار ألبير كامو، وذهب بعض النّقاد الأميركيين إلى أن هذا الاغتراب لن ينتهي إلا بالعودة إلى القيم الروحية، إذ إن الانغماس في الماديات مبعث هذه المتاهة، ولعل ذلك يتفق بوجه ما مع أفكار ألدوس هيكسلي الذي نادى في كتاباته باللّذة الذهنية، خلافا لأفكار د. هـ. لورانس المحرّض على اللذة الحسية الشهوانية.

توفي فوكنر يوم الجمعة، الموافق 6 يوليو/تموز 1962، عن عمر 64 عاما، وسبق القول إنه مات بأزمة قلبيّة، لكن سائقا نقل الجثمان من مصحّة لعلاج مدمني المواد الكحوليّة والمخدرات، وطيّر خبرا مُفاده أن فوكنر مات بعد تناول جرعة كبيرة من الخمر، وكانت شهرة همينغواي أوسع منه، مما دفع الناقد الأميركي المعروف آلان تيت إلى القول في رثائه "كان فوكنر أفضل كاتب قصصي أنجبته أميركا منذ وفاة هنري جيمس سنة 1916، وهو في رأيي أكثر أصالة وأعمق من معاصره همينغواي الذي فاقه شهرة".

مصدر الصورة رواية (أبشالوم.. أبشالوم!) لفوكنر، دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية عام 1983، لاحتوائها على أطول جملة في تاريخ الأدب الإنجليزي، وتحوي 1288 كلمة (الجزيرة)

متاهة السرد الطويل

بعد 83 عاما من صدرو النسخة الأولى من الرّواية، حقّقت إحدى دور النشر رغبة فوكنر في استعمال الألوان للتمييز بين الأحداث القديمة والأحداث الآنية في الرواية. وفق المصطلحات النقدية تسمى القفزات الزّمنية أو الأحداث الواقعة قبل بداية زمن السرد "الاسترجاع/ الارتداد/ الانخطاف خلفا"، وتعادل مصطلح الفلاش باك بلغة السينما، ولئلا تتداخل مع أحداث الرواية داخل إطارها الزمني جاء طلب فوكنر عام 1929، لكن عدم توفر التقنيات وارتفاع التكلفة حالا دون ذلك، وفي 2012 أصدرت دار النشر البريطانية "The Folio Society" نسخة ملونة من الرواية، استعانت خلالها بأربعة عشر لونا لتمييز القفزات الزمنية في الرواية، وهذا يسهّل على القارئ تتبع أحداث العمل.

قد تبدو هذه المحاولة سخيفة، لكنك إن قرأت الرواية أو حاولت ذلك ستعرف قدر هذا الصنيع، ولعلنا من باب تضافر الأدلة نسوق مثالا آخر على صعوبة كتابة فوكنر؛ فإن روايته "أبشالوم.. أبشالوم! " دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسيّة عام 1983، لاحتوائها على أطول جملة في تاريخ الأدب الإنجليزي، وتحوي 1288 كلمة. تعبر هذه الجملة عن حالة كوينتن كومبسون الذهنية المضطربة، وظف فيها الاستطرادات، وأبشالوم اسم أحد أبناء نبي الله داود، وصدرت الرواية عام 1936، أي بعد سبع سنوات من رواية (الصخب والعنف).

إعلان

لا يغيب عن القارئ أن حشد جملة واحدة بهذا العدد الكبير من الكلمات مرهق، من ثم واجه مترجمو أعمال فوكنر صعوبات في نقلها إلى لغات أخرى. لعل الفقرات الطويلة تستهوي كثرة كاثرة من الأدباء، فتجد دون روبيرتسون في روايته التاريخية "Paradise Falls" يكتب فقرة واحدة على 16 صفحة! وهذا في المتوسط يعادل نحو 4 آلاف كلمة، وكذلك الأمر عند روس لوكريدج في رواية "Raintree County"، فإن سألت: لماذا دخل فوكنر الموسوعة العالمية بـ1288 كلمة ولم يدخل روبيرتسون ولوكريدج بـ4000 كلمة؟ فالجواب أن فوكنر كتب جملة واحدة بهذا العدد من الكلمات، في حين أن روبيرتسون ولوكريدج كتبا فقرة مطولة، والفرق لا يحتاج إلى تفصيل.

ما دمنا نتحدث عن التعقيد في الجملة والفقرة، فإن بعض الكتاب حرص على تدفق الكتابة وتعقيد العبارة، من دون مراعاة تقسيم الفقرات أو توظيف علامات الترقيم والفواصل، منهم ليو تولستوي، مارسيل بروست، توماس مان، جيمس جويس، صامويل بيكيت، خوسيه ساراماغو؛ فتطول الجمل وتتداخل أصوات الشخصيات مع صوت الراوي، ويتعين على القارئ أن يفض اشتباك النص، وليس ذلك بمقدور كل أحد. على النقيض يقف غي دو موباسان، أنطون تشيخوف، أو. هنري (ويليام سيدني بورتر)، فرانز كافكا، إرنست همنغواي من أنصار الجملة القصيرة والإيقاع التلغرافي، واليوم يميل إيقاع العصر إلى تبني الجمل السلسلة الموجزة.

مصدر الصورة فوكنر يعد رابع روائي أمريكي يفوز بجائزة نوبل للأدب (أسوشيتد برس)

رحلة فوكنر الأدبية

في دنيا الكتابة، اكتشف فوكنر بعد نظر والدته التي شجعته على القراءة، وكان لها دور في تكوين ثقافته منذ نعومة أظفاره، وقرأ في صغره كتابات تشارليز ديكنز، ومغامرات الأخوين غريم، وغيرها من الحكايات الخرافية والشعبية. ولعل من المفيد أن نعرج على أهمية القراءة الحرة، فقد وصل فوكنر إلى اقتناع بأنه لن يكمل دراسته النظامية، وترك المرحلة الثّانوية متوقفا عن التعليم ليعمل في بنك محلي، وتجوّل بين أزقّة محكمة أكسفورد ليستمع إلى ثرثرة العجائز، وفي عام 1919 التحق بجامعة مسيسيبي ثلاثة فصول دراسية فقط، وآثر الحياة العملية وخوض تجربة الكتابة.

وفي خمسينيات القرن الماضي التحق بجامعة فرجينيا كاتبا مقيما "Writer-in-Residence" في كلية تشارلوتسفيل، وحاضر بها، وكان ما تقدّم من حديث عن تجربته في الكتابة الإبداعية. لكن ما يجب الإشارة إليه أنه فاز بجائزة بوليتزر مرتين؛ الأولى عام 1955، والثانية في العام الموالي لرحيله، 1963، ودارت أقاويل حول علاقته بمسؤولي الجائزة التي تشرف عليها جامعة فرجينيا.

من اللّافت أن عددًا من المبدعين العالميين لم يكملوا دراستهم النّظاميّة، وإن اختلفت بواعث ذلك، فنجد أن تشارلز ديكنز، ومارك توين، جاك لندن، سكوت فيتزجيرالد، إرنست همينغواي، جون شتاينبك، جورج أورويل، ريموند كارفر ضمن هذه القائمة، ولم يوفّق الأيرلندي أوليفر جولدسميث في حياته الدراسيّة، وفصل من الجامعة مدّة، وفشل في دراسة الطب والحقوق، وإن ظلّ أصدقاؤه ينادونه بلقب دكتور.

في العالم العربيّ توجد قامات أدبيّة لم تحظ بشهادة أكاديميّة، من هؤلاء مصطفى لطفي المنفلوطي، مصطفى صادق الرّافعيّ، عبّاس محمود العقّاد، أمين يوسف غراب، محمد شكري، إبراهيم الكوني، وغيرهم.

في نوفمبر/تشرين الثاني 1949، أعلن فوز وليام فوكنر بجائزة نوبل للأدب، لكنّه تسلّمها في العام الموالي، وتشير بعض المصادر -خلطا أو خطأ- إلى أنّه فاز بها عام 1950، لكن وَفق موقع الجائزة "قررت لجنة نوبل للآداب أنّ أيًّا من التّرشيحات المقدمة لعام 1949 لا تستوفي المعايير المنصوص عليها في وصية ألفرد نوبل، وفي مثل هذه الحالة يمكن للمؤسسة حجز الجائزة للعام التالي، وقد طبِّق هذا النظام حينها. ومن ثم، حصل ويليام فوكنر على جائزة نوبل عام 1949 وتسلمها عام 1950″، أما الفائز بالجائزة عام 1950 فهو برتراند راسل.

ويعد رابع روائي أميركي يفوز بجائزة نوبل للأدب، سبقه إليها سنكلر لويس عام 1930، يوجين أونيل سنة 1936، والقاصّة بيرل بيك عام 1938، وقد اختار يوكنا بتوفا "Yoknapatawpha" مسرحًا لأحداث أعماله، كما ارتبط الإنجليزي توماس هاردي بمقاطعة ويسيكس (Wessex)، وهي مقاطعة من خياله جعلها مسرحا لأحداث أغلب أعماله.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار