تنسج الروائية الفلسطينية رولا غانم مشروعها الإبداعي من قلب المعاناة، حيث تعتبر أن الكتابة عن فلسطين هي "وجود برمته" لا مجرد استدعاء للذاكرة، فبالنسبة لها، "فلسطين ليست مسرودة إنما هي جوهر إيمان إنساني".
من هذا المنطلق، تتحدث غانم، في حوارها مع "الجزيرة نت" عن رحلة عميقة لاستكشاف علاقة السرد بالهوية، والكتابة بالمقاومة، والبوح الشخصي بالهم الجماعي.
وجاء وصول روايتها "تنهيدة حرية" إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، ليكون أكثر من مجرد إنجاز أدبي، إنه شهادة على أن الجرح الفلسطيني، رغم نزيفه المستمر، لا يزال قادرا على إنتاج الجمال والمعنى وتحدي محاولات الإلغاء.
في هذا الحوار، تتحدث الروائية عن رؤيتها للحرية كهاجس إنساني يسبق الشعار السياسي، وعن بحثها الدؤوب عن البطولة في تفاصيل حياة الإنسان "العادي" الذي تعتبره بطلا حقيقيا في زمن لم يعد فيه أي إنسان عاديا، كما تتناول علاقتها بالتراث الروائي العربي والفلسطيني، وكيف تستلهم منه دون أن تقع في أسر الشعارات الجاهزة، وتكشف عن الأقفاص الأكثر قسوة التي تواجه الكاتب خارج أسوار المعتقل.
السرد لا يتحقق ما لم يحمل الحكاية، والحكاية ليست عبورا إذا كان المحكي عنه شعبا يتضور ألما ويكافح درءا لخطر يهدد وجوده، فالسرد والنول الذي أنسجه عليه ليس ذاكرة، إنما وجود برمته، ففلسطين ليست مسرودة إنما هي جوهر إيمان إنساني، ولهذا الجوهر ذاكرة، وعليهما أنسج روايتي.
أما بخصوص الهوية المهددة بالطمس، فما دام هناك قرآن وإنجيل، وما دام هناك أقصى وكنيسة قيامة، فإنه لمن المستحيل حتما أن تطمس هوية هذا البلد المقدس، الأدب هو ما نجسد به قوة حضورنا ودفاعنا، وقوة غيابنا وهزيمتنا أيضا، أما الطمس فهذا أمر لم يقدر عليه عدو من قبل، ولن يقدر عليه عدو الآن.
أنجزت مجموع رواياتي وأنا في وطني فلسطين، عدا واحدة في القاهرة، وأنجزت اثنتين منهما خلال أشرس هجمة تقوم بها إسرائيل ضد بلادي وتطحن بها شعبنا بشكل لا يصدق، ترتكب بحقه جرائم إبادة جماعية يشهد عليها العالم، وبما أنني بين دفتي كتاب هذا الوطن، فإن كلماتي وحروفي أرجو أن تكتب سطرا في صفحة وجوده.
الحق يحتاج إلى مدافعين عنه، والكتابة عن حقنا هي جزء من الدفاع، والدفاع مقاومة، فالمقاومة هي كل ما تسطره كلماتنا لأننا كما ترون وتشاهدون نواجه أمما من الأعداء، ولا يسعنا التخلي عن بوحنا ولا عن صراخنا معا، رواياتي هي هذا المزيج، وأتمنى ألا تؤطر بفلسطين، وأن تكون جزءا من المشروع السردي العربي برمته.
تبلورت من خلال قصص أبطالي الذين بذلوا جهودا مضنية وتمردوا، وعانوا الويلات لحين الانعتاق وتجسيد العدالة والحرية.
الحرية هي هاجس كل فلسطيني، يبحث عنها على الورق وعلى الأرض، نحن نعيش في حصار مطبق منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وحتى قبل ذلك، تلتف حول أعناق مدننا عشرات الحواجز في الضفة الغربية، أما غزة فأصبحت قطعة من الجحيم مع الخذلان الذي رأيناه جميعا.
التراث هو لغتنا وحياتنا المستمرة لا ينفك ولا ينفصل، هو بحر متلاطم الأمواج وأنا موجة في أمواجه، أثره في وأثري به تقوله النتائج، إنها تجري ضمن جداول كتاباتي، أما عن الشعارات والخطابات فأنا أسرد كروائية، وأحيانا يوجد ضمن قضايا شعبنا العربي عموما هدف لا يمكن إلا أن تخاطبه، مثل الحرية، فهذا نقع به عادة لأنه فخ جميل لا أحب أن أتجاوزه.
في اعتقادي، نحن أصلا في زمن ليس فيه إنسان عادي، كل إنسان عادي هو بطل بطريقته الخاصة، فمن يستيقظ ويتمكن من أداء دوره في الحياة ويعود حيا لم يتشظ نفسيا أو يتحول إلى وحش فهو بطل، وتسليط الضوء علينا نحن العاديين الأبطال تجربة تستحق التوثيق بعيون مقدرة ومتفهمة، يجب أن نصفق لأنفسنا بين الحين والآخر، ونحتفي ببطولاتنا ونطلق تنهيدتنا الأخيرة.
الأدب يمكنه تشكيل أو تعريف البطولة من خلال الاحتفاء بالناس دون مطالبتهم بالتحليق والطيران مثل "سوبرمان" أو الضرب بعصا سحرية على الأقدار لتغييرها، هذا امتداد لعطاء أدبائنا الكبار، كما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته، وكما حول الطيب صالح درويشه "الزين" إلى بطل، منذ زمن بعيد، التفت الأدباء في عالمنا العربي إلى حاجة الناس لأبطال من بينهم، يعرفونهم ويثقون بهم ويشاركونهم الأوجاع والأحلام.
أن يتفاعل مع النص، وأن تتحرك مشاعره ويؤمن بحقنا في الحرية وبقضيتنا العادلة وأن يكتب عنا، وأن يتحدث عن منفانا وظلمنا، وهذا أضعف الإيمان.
طبعا، هي تسهم بشكل كبير في بلورة الوعي والثقافة، من خلال طرح قضايا متنوعة، سواء كانت اجتماعية أو سياسية وغيرها، وتعمق فهم الشعوب لهوياتهم وتعزز من انتمائهم لأوطانهم.
من الأقفاص الأشد قسوة، ممارسة سياسة "تكميم الأفواه" وتقييد حرية الرأي والتعبير، وإقصاء المثقفين وتهميشهم، فهذا يجعل الكاتب يعيش في حالة عزلة واغتراب.