آخر الأخبار

العشاء الأخير: حكاية لوحة ليوناردو دافنشي "الملعونة"

شارك الخبر

كلّ ما كان ليوناردو دافنشي يريده حين حمل ريشته وألوانه، ووقف أمام الجدار الملاصق لمطبخ ذلك الدير الإيطالي، قبل أكثر من 500 عام، كان كسب الوقت، لينجز لوحته الجديدة، بتأنٍّ، وبدون ضغوط.

كانت تلك الرغبة هي ما جعل لوحة "العشاء الأخير" تحفة فنيّة خالدة لا تزال تشغل النقّاد والمؤرخين إلى يومنا، وتُحاك حولها نظريات المؤامرة، والروايات، وتُستلهم منها نسخ وتأويلات لا تعدّ، في السينما، والرسم، والثقافة الشعبيّة، والإعلانات، والموضة، وصولاً إلى الميمز.

لكنّ رغبة ليوناردو تلك، كانت في الوقت نفسه، أشبه "بلعنة" حكمت على تحفته الفنيّة بالفناء والضمور. كيف؟ سنخبركم القصة.

حكاية ردّ اعتبار

في عام 1495، كان ليوناردو دافنشي في الأربعينات من عمره، ورائداً من رواد النهضة، أو التيار الفني المُجدِّد في الرسم، والنحت، والموسيقى، والعمارة، والأدب، الذي طبع تاريخ في أوروبا، بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر تقريباً.

ورغم أنّ صيت دافنشي كان قد ذاع كأحد عباقرة زمانه فناً وعلماً ومعرفةً وتعدُّداً في التخصّصات، إلا أنّ سمعة أخرى كانت تحوم حوله: كان دافنشي بطيئاً، ويتأخّر في تسليم لوحاته، ما جعله موضوعاً للسخرية بين معاصريه، وقيل إنه لن ينجز "عملاً آخر في حياته".

في عام 1495، حين كلّفه دوق ميلانو لودفيكو سفورزا بالرسم على أحد جدران دير سانتا ماريا ديلي غرازي (القديسة مريم صاحبة النعم) التابع لرهبنة الدومنيكان، وجد الرسام الفرصة لردّ اعتباره، وإثبات قدرته على إنجاز عملٍ بتقنيات مختلفة عمّا كان شائعاً في عصره.

وتماماً كما كان دافنشي يعوّل على إتمام لوحة "العشاء الأخير" لتحقيق طموحه، كان الدوق سفورزا يعوّل على أنامل دافنشي السحرية، لإظهار ثروته الباذخة، وتقواه اللامحدودة، ومكانته كراعٍ للفنون في مدينة ميلانو الإيطالية، التي كانت واحدة من معاقل تيار النهضة بجانب فلورنسا وروما والبندقية.

في تلك الحقبة، كان رسم الجداريات يتمّ بواسطة تقنية الفريسكو، وتعني الطلاء على الجصّ الرطب. وكان ذلك يتطلّب الإسراع بوضع الألوان على الجصّ لكي يمتصّها، فتصير جزءاً من الحائط حين ينشف، ما يمنحها مناعة ضدّ عوامل الزمن.

"العيب" بنظر دافنشي في تلك التقنية أنها كانت تفرض على الفنان تحديد مخطّط كامل للوحة قبل البدء بها، وتمنعه لاحقاً من إجراء أي تعديل، وذلك ما لم يكن يناسب الرسام الراغب بالتأني في وجوه شخصياته، وتفاصيل لوحته وخطوطها، لذلك استخدم تقنية تجمع بين الألوان الزيتية، ومادة التمبرا، وهي مادة صمغية تصنع من صفار البيض، وتجف بسرعة.

حكاية ضمور

أنجز دافنشي تحفته الفنية عام 1498، لكن تقنيه المُستحدثة لم تصمد طويلاً، إذ صارت الألوان تبهت والطلاء يتقشّر، بعد سنوات قليلة من إنهاء الرسم، بل وحتى قبل وفاته.

وكانت اللوحة تحتلّ جداراً ضخماً في غرفة الطعام داخل الدير، على مقربة من المطبخ، فكانت تتعرّض للبخار والحرارة والرطوبة، إلى جانب دخان الشموع، ما أثّر عليها سلباً.

وقد "تعرضت" لوحة "العشاء الأخير" لأضرار كثيرة أثرت على ألوانها مع مرون الزمن، كان أولها حين قرّر القيّمون على الدير فتح باب في الجدار، ما أدّى إلى إزالة الجزء الذي يصور قدمي المسيح من اللوحة.

وحاول رسامون كثر ترميمها على مرّ السنين، لحمايتها من التلف، لكنهم أضروا بها أكثر مما أفادوها، إذ قاموا بإضافة مواد صبغيّة أدّت إلى تلف في الطبقة الأصلية من الألوان.

وخلال الحملة الفرنسية على إيطاليا عام 1792، وصلت قوات نابليون - وكان لا يزال قائداً عسكرياً شاباً - إلى ميلانو، واستخدمت القاعة، حيث تتربّع اللوحة، كإسطبل.

وفي القرن التاسع عشر، تسببت فيضانات بنموّ العفن على الجدار، وفي الحرب العالمية الثانية دمر قصف لقوات الحلفاء جدار القاعة وسقفها، وبقيت اللوحة في العراء، عرضة لكلّ العوامل الجويّة، لعدّة أشهر.

وفي مسعى لإنقاذ اللوحة الأصلية التي تقشّرت معالمها وتحلّلت، بدأت المرممة الإيطالية بنين برامبيلا بارسيلون، ورشة لترميمها استمرت بين عامي 1978 و1999، فأزالت كل طبقات الطلاء التي وضعت فوق لوحة دافنشي الأصلية.

وقسمت جهودها الرأي العام والنقاد، بين من عدّ الترميم إزالة لمعالم اللوحة الأصلية، وبين من رأى أنها ساعدتنا على رؤية عمل دافنشي الأصلي بأفضل طريقة ممكنة.

ومع تقشّر اللوحة التي يزورها كلّ عام آلاف السوّاح، فإن ما كانت عليه في الأصل زال بمعظمه، ومعه بصمات ريشة دافنشي الأصلية. ولم يبق للشهادة على روعتها إلا نسخ متفرقة رسمها تلاميذه، هي الأقرب لما كانت عليه اللوحة الأصلية. والمفارقة أنّه رغم ضمور ألوانها، إلّا أنّ تأثيرها على الفن والثقافة لا يزال عظيماً.

حكاية طقس دينيّ

في عصر النهضة، كانت الكنيسة الكاثوليكية تولي اهتماماً بالغاً لإحياء الفنون التشكيلية، بهدف تزيين الأديرة والكاتدرائيات وقبب الكنائس، وإظهار عظمة عمارتها، كوسيط لإظهار جمال الخالق في أعمال الإنسان.

ولكنّ الغاية الأبرز من الرسم كانت نقل تعاليم الكنيسة، عبر تجسيد محطات مفصلية ومشاهد من الأناجيل، تكون مُحمّلة برمزيّة روحانية، وتُدرس عناصرها بعناية لنقل الفكرة مع - هالة من الرهبة - إلى عامة الشعب.

ورغم انتشار الطباعة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وما أحدثته من ثورة في نشر الكتاب المقدّس بدءاً من اختراع أول مطبعة في ألمانيا عام 1440، إلا أن القراءة كانت لا تزال حكراً على المتعلمين والنبلاء ورجال الدين، لذلك كان الرسم هو الوسيط الأبرز لنشر أي رسالة دينية أو سياسية.

ولأن الفنون الكلاسيكية تمحورت حول مواضيع عدّتها الكنيسة "وثنية"، عبر رسم آلهة الأساطير اليونانية والرومانية بشكل خاص، في الحقب الفنية السابقة، كانت الكنيسة تسعى لجعل الأناجيل المرجعية الرئيسية لأعمال الفنانين.

ولم يكن دافنشي أوّل رسام يختار مشهد العشاء الأخير من سيرة المسيح كما نقلها تلاميذه في الأناجيل، موضوعاً للوحاته. كما لم تكن هذه اللوحة أول أو آخر عملٍ بموضوع ديني في مسيرته، إذ رسم مريم العذراء في أكثر من لوحة، أشهرها "العذراء على الصخور" (نسخة أولى 1483–1493، نسخة ثانية 1491–1508).

وبخلاف محاولة دافنشي التجديد في التقنية المستخدمة، لم يكون موضوع اللوحة بحدّ ذاته، يحمل الجديد، إذ أن مشهد العشاء الأخير للمسيح مع تلاميذه قبل اعتقاله وصلبه، كما تصفه الأناجيل، كان له مكانة محورية في رسوم الأيقونات واللوحات الدينية.

ما يميّز عمل دافنشي، تركيزه على ذروة درامية في ذلك المشهد، وهو لحظة إخبار المسيح لأتباعه بأن أحدهم سوف يخونه، ويشي به، وإبرازه لوقع النبأ على تعابير وجوه التلاميذ، وحركة أجسادهم.

بحسب الإنجيل، قبل القبض عليه لمحاكمته، يتناول المسيح العشاء للمرة الأخيرة مع تلاميذه الاثني عشر، أو الرسل، وهم المبشرون الأوائل بالديانة المسيحية. وفي هذا العشاء، يكسر الخبز ويشرب الخمر، وهو طقس ديني يعدّ الأقدس في المسيحية، ويستعاد في كلّ قداس حتى يومنا، عند مناولة القربان، إذ أوصى المسيح تلاميذه أن يذكروه عبر كسر الخبز وشرب الخمر، كرمزين لجسده ودمه الذي يسفك كتضحية عن خطايا البشر.

تلتقط اللوحة ردود فعل التلاميذ ع ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك الخبر

إقرأ أيضا