في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي
يمثل أدب الأطفال صنفا حيويا من الأدب المتداول في عصرنا الراهن، وهو يستند إلى تاريخ طويل من التطور في مختلف الثقافات شرقا وغربا، شأنه شأن غيره من أصناف الأدب الكبرى، وتحت هذه التسمية الشاملة نجد أنواعا فرعية تمثل ألوانا من الشعر والقصة والرواية والمسرحية، مثلما تنقسم هذه الأنواع إلى أنماط أخرى وفق أساليبها أو موضوعاتها، ولكل منها تاريخ مميز بعلامات وإنجازات وكتابات تتفاوت في قيمتها واستمرار حياتها، ولا شك في أن أهمها تلك النصوص والآثار التي قاومت الزمن وانفلتت من عقاله، فاستمرت في الحياة والفاعلية والتأثير، مما مكنها من ضمان حضورها حتى أيامنا الراهنة.
ولعل من أشهر تلك العلامات الباقية التي تجمع بين المكانة التاريخية واستمرار الحضور والتأثير: "خرافات إيسوب" التي تنسب إلى واضعها أو جامعها "إيسوب" اليوناني الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد، وحكايات لافونتين (فرنسا) في القرن الـ17 الميلادي، وحكايات الأخوين غريم من القرن الـ19 (ألمانيا)، إلى جانب حكايات عربية وشرقية تعود إلى القرون الوسطى نحو: كليلة ودمنة لابن المقفع، وبعض الحكايات والخرافات المستمدة من ألف ليلة وليلة، ومنها أقاصيص السندباد وعلاء الدين وعلي بابا ونحوها من أقاصيص يعاد إنتاجها وتوظيفها بصور مختلفة حتى اليوم. وتشير هذه الأقاصيص الخيالية والخرافية إلى أهمية عنصر الرمز والخيال والإيحاء في أدب الأطفال، وأنه من أهم ركائز نجاح هذا الأدب في الماضي والحاضر.
وأما تاريخ أدب الأطفال العربي الحديث، فيعود في جذوره إلى موارد تراثية تتمثل في اهتمام فطري وتلقائي بتربية البنين والبنات، وما كان ينشد لهم من أناشيد حفظتها كتب التراث تحت مسمى "الترقيص" أو "التزفين" تغنيها الجدات والأمهات للصغار، وفي العصر الحديث اندرجت بدايات أدب الأطفال بأثر من الترجمة والتفاعل مع تجارب الأمم والثقافات الأخرى، ولم يكن ذلك بعيدا عن الاهتمام بالتربية، فقد عني معلمو النهضة ومفكروها بمسألة التربية، وأدركوا صلتها بقضية النهضة، فأسهم رفاعة الطهطاوي (ت 1873م) في بدايات أدب الأطفال من خلال ترجمة بعض الأقاصيص الأجنبية، كما أسس مجلة لأدب الأطفال والثقافة المدرسية باسم (روضة المدارس المصرية).
وإذا كان المجال لا يتسع لتتبع تاريخي موسع فيكفينا في هذا المقام أن نذكر بدور أمير الشعراء أحمد شوقي (ت 1932م) الذي اطلع أثناء دراسته في فرنسا على تطور أدب الأطفال وأعجب بحكايات لافونتين، فسار على منوالها فيما نظمه من أشعار ومزجها بما يعرف من التراث العربي في مجال قصص الحيوان وكليلة ودمنة ونحوها، وأنتج منها أشعاره الباقية التي تمثل شوقياته الموجهة إلى الأطفال. وتبعت هذه الجهود ما قدمه رواد كثيرون ذوو فضل على تطوير أدب الأطفال بمختلف الأنواع الأدبية في القرن الـ20 مثل: محمد عثمان جلال، ومحمد الهراوي، وكامل كيلاني، وعبد التواب يوسف، ومحمد عطية الإبراشي، ومحمد سعيد العريان، ويعقوب الشاروني، وكذلك ما قدمه: سليمان العيسى الذي أسس مرحلة جديدة من أشعار الطفولة في النصف الثاني من القرن الـ20، وتجربة زكريا تامر في تطوير القصة القصيرة الموجهة إلى الطفل في سبعينيات القرن الـ20 ضمن تجربة دار الفتى العربي في بيروت، وهي التجربة التي استأنفها محمود شقير باهتمام لافت فنيا وموضوعيا في العقود الأخيرة، وركز فيها على مشاغل الأطفال والفتيان والفتيات في فلسطين الأسيرة تحت الاحتلال.
أما تجربة أدب الأطفال في فلسطين والأردن، فنشأت مبكرا من خلال عدد من الأدباء والتربويين الذين حرصوا على وضع نماذج من أدب الأطفال شعرا ونثرا في الكتب المدرسية وفي الكتب الأدبية وكتب المطالعة الداعمة للتعليم، أمثال: راضي عبد الهادي، وإبراهيم البوارشي، وإسحاق موسى الحسيني، وخليل السكاكيني، وفائز علي الغول، وحسني فريز، وعيسى الناعوري وغيرهم من الرواد والكتاب الأوائل.
وبعد هؤلاء اتسع الاهتمام وكثر عدد الأدباء المهتمين بالكتابة للأطفال، وأفادوا من ظهور المجلات الموجهة إلى الأطفال، وكذلك حرصت الصحف الأردنية على تخصيص صفحات أو ملاحق للأطفال، إلى جانب اتساع دور المؤسسات الرسمية والأهلية وكثرة دور النشر وتطور المطابع وظهور الهيئات المتخصصة في الطفولة، واتساع الوعي بثقافة الأطفال، وتأسيس الجوائز المخصصة لهذا المجال، وصولا إلى تدريس مواد تعليمية متخصصة في أقسام اللغة العربية وأقسام التربية في مجال "أدب الأطفال" و"ثقافة الأطفال"، وإعداد الرسائل الجامعية والبحوث والدراسات النقدية والتاريخية المتعلقة بهذا المجال، مما ينم على الرصيد الإبداعي الواسع المشجع على الدراسة والبحث. ويؤكد لنا ما سبق أهمية البيئة الحاضنة في تطوير أدب الأطفال ورعايته، فليست المسألة محصورة في ظهور الأدباء الأفراد المهتمين أو المتمكنين فحسب، بل لعل البيئة المشجعة والحاضنة هي الأساس في تطوير مجال أدب الأطفال ودعمه ورعايته.
ونشير إلى ملاحظة خاصة تتمثل في اتساع مساهمة المرأة ابتداء من سبعينيات القرن الـ20 في مضمار أدب الأطفال وثقافتهم، فتأسست صورة الكاتبة الأم التي تؤلف وتقرأ قصصها وأشعارها للأطفال في مدارسهم وصفوفهم، وليس أدل على اتساع المشاركة الإيجابية للمرأة في مجال أدب الأطفال من مشاركة 13 كاتبة وباحثة في الكتاب الذي بين أيدينا، من مجموع 20 مشاركا ومشاركة، مما يعني أن 65% من المشاركين في الملتقى هم من النساء المهتمات بأدب الأطفال إبداعا ونقدا وبحثا.
وإذا كانت الأجناس والأنواع الأدبية تعرف وتميز بخصائص فارقة تميز النصوص التي تنتمي إلى هذا الجنس الأدبي أو ذاك، فإن أدب الأطفال يتميز بتعريفه وفق المتلقي أو الجمهور الذي يتوجه إليه، وكما يقول كيمبرلي رينولدز مؤلف "أدب الأطفال مقدمة قصيرة"، "فمن المعتاد في مجال نقد أدب الأطفال أن الجمهور هو من يحدد ويعرف أدب الأطفال، إذ لا يتم تعريفه من خلال خصائص الجنس الأدبي أو الفترة الزمنية أو الأسلوب أو المؤلف". (ص34).
وهذه الميزة تشكل حجر الزاوية ومدار هذا الأدب، فهو من ناحية عناصره وتقنياته وربما كثير من موضوعاته ومضامينه لا يكاد يختلف عن الأدب العام، وإنما ميزته الفارقة ما تفرضه فئة الأطفال أو الجمهور من تبدل وتغير في تلك الخصائص والمضامين لتتلاءم مع الطفل وفق وعيه، إنه محكوم في اختياراته بمن يتوجه إليه الأدب وليس بمن ينتجه. واستنادا إلى هذا المبدأ فمن المهم إشراك الأطفال في نقد هذا النوع من الأدب وعدم الاكتفاء بنقد المتخصصين والأكاديميين والنقاد والقراء (كبار السن)، ويمكن الإفادة من توجهات نقد استجابة القارئ وتطوير بعض ما يقترحه من آليات وطرائق تجعل من "النقد من منظور الأطفال" فرعا ملائما لأدب الأطفال مثلما دعا الناقد المعروف "بيتر هانت" فيما يتعلق بأدب الأطفال.
وينال هذا الأدب اهتمام فئات واسعة من الناس، بدءا من الكتاب الذين ينتجونه، ووصولا إلى الأطفال الذين يتلقونه ويستهلكونه، إلى جانب الأسر والمدارس والمؤسسات المعنية بالأطفال، فضلا عن النقاد والمهتمين بالأدب، والمعلمين والتربويين، والرسامين والخطاطين والمصممين الذين يساهمون بالرسم والخط والتصميم والإخراج، إلى جانب قطاع الطباعة والنشر الذي تطور اهتمامه بأدب الأطفال حتى صار له دور متخصصة بإخراج كتب الأطفال ونشرها ....