في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي
في تفاصيل الحياة اليومية تتجلى ألطاف الله الخفيّة فندرك بعضها ونعجز عن إدراك كثير منها، يعتاد الإنسان بطبعه معيّة الله فيغفل عن نعمه وألطافه الكثيرة، ولنا في حكايات الهجرة النبوية ما يعيننا على تلمس خفايا الرحمة الربانية والعناية الإلهية.
تطالعنا في مسار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الاختباء في غار ثور معجزات وكرامات خاصة برسول الله عليه الصلاة والسلام، ففي الطريق إلى المدينة وقعت حادثة قائف الأثر سراقة بن مالك المُدلجي الذي خرج لتتبع أثر رسول الله والظَّفَر بالجائزة التي رصدتها قريش لمن يعثر على رسول الله ويسلمه، فحين وصل سراقة إلى رسول الله ساختْ قدما فرسه في الرمال، فاستنجد برسول الله لينجيه بدعائه على أن يخفي عن قريش معرفته بمكان الرسول عليه صلوات ربي وسلامه، فدعا له فنجا واستخلص قوائم فرسه بعد أن انغرست في الرمال، ويذكر أن حوارًا جرى بين سُراقة ورسول الله؛ إذ قال له رسول الله: كيف بك إِذا لبست سِوَارَيْ كسرى ومِنْطَقَتَه وتاجه؟ فأجاب سراقة متعجبا: كسرى بن هرمز؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم. فمضى سراقة بوعد رسول الله. وتحقق الوعد في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحين فتحت المدائن بقيادة سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر رضي الله عنه ووصلت الغنائم إلى المدينة المنورة، ألبس عمر سراقة سواري كسرى وتاجه محقّقًا بذلك الوعدَ النبوي.
وقد نقل لنا الشعراء هذه التفاصيل بدقائقها محملة بالمشاعر التي صاحبتْها والعواطف التي حملتها أفئدتهم حين نظموا فأبدعوا في تصويرها أيما إبداع، فلننظر إلى ما قاله الشاعر محمود سامي البارودي واصفًا هذه الحادثة:
فَبَيْنَما هُوَ يَطوي البِيدَ أَدرَكَهُ
رَكضًا سُراقَةُ مِثلَ القَشعَمِ الضَّرِمِ
حَتّى إِذا ما دَنا ساخَ الجَوادُ بِهِ
في بُرقَةٍ فَهَوى لِلسَّاقِ وَالقَدَمِ
فَصاحَ مُبتَهِلاً يَرجُو الأَمانَ وَلَو
مَضى عَلى عَزمِهِ لانهارَ في رَجَمِ
وَكَيفَ يَبلُغُ أَمرًا دُونَهُ وَزَرٌ
مِنَ العِنايةِ لَم يَبلُغهُ ذُو نَسَمِ
فَكَفَّ عَنهُ رَسولُ اللَّهِ وَهوَ بِهِ
أَدرى وَكَم نِقَمٍ تفتَرُّ عَن نِعَمِ
ويستحضر الشاعر المصريّ طلعت المغربي الواقعة نفسها في إحدى قصائده، ويصورها ويصف أدق التفاصيل محملًا إياها شحناتٍ عاطفية عالية، وكأنه كان حاضرًا إذ جرت أحداثها؛ فيقول:
وأرَى سُرَاقَةَ رَاحَ يَتْبَعُ خَطْوَكُمْ
ضَلَّتْ خُطَاهُ وتَاهَ في البَيْدَاءِ
وجَوَادُهُ رَفَضَ الرُّضُوخَ لأَمْرِهِ
سَاخَتْ قَوَائِمُهُ بِذِي الصَّحْرَاءِ
ثم ينتقل الشاعر إلى درجة أعلى من وصف المشهد ويشخص فرس سراقة ويجعلنا نستمع إلى حوار تخيّل جريانه بين سراقة وفرسه، إذ يقول:
لِمَ يَا جَوَادُ اليَوْمَ أنْتَ خَذَلْتَنِي؟
مَا كُنْتَ يَوْمًا تَرْتَضِى إيذَائِي
فَخُطَاكَ تُسْرِعُ إِنْ بَعُدْنا عَنْهُمُ
وإذَا قَصَدْنَاهُمْ فَفِي إِبْطَاءِ
ثم يقول على لسان سراقة نفسه معللًا تباطؤ فرسه عن اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَكَأَنَّهُ قَدْ قَالَ ذَا رَكْبُ الهُدَى
منْ ذا يُطَاوِلُ رَكْبَهُ بِغَبَاءِ؟
حَقَّاً فَرَكْبُ المُصْطَفَى لا يُقْتَفَى
بِالسُّوءِ ذَاكَ تَصَرُّفُ البُلَـهَاءِ
فَعِنَايَةُ الرَّحمَنِ تَحْرُسُ رَكْبَهُ
وعِنَايَةُ الرَّحمَنِ خَيْرُ وِقَاءِ
ويأخذنا الشاعر بعد ذلك في قصيدته نفسها إلى عالم آخر، يفصل فيه ما دار من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراقة المدلجي، ويذكر وعد رسول الله لسراقة أن يلبسه سواري كسرى عوضًا عما وعدته به قريش من جائزة إن استطاع أن يقتفي أثر رسول الله وصاحبه ويدلهم عليه؛ فيقول:
وهُنَا يقولُ سُرَاقَةُ اذهَبْ سَيِّدِي
لا … لَنْ أُناصِبَكُمْ بِأَيِّ عَدَاءِ
هَاتِ الأَمَانَ أَيَا مُحَمَّدُ هَاتِهِ
فَعَطَاؤُكُمْ واللهِ خَيْرُ عَطَاءِ
أَنَا لَنْ أَدُلَّهَمُ عليكُمْ سَيِّدِي
أبَدًا ومَهْمَا حَاوَلوا إِغْرَائِي
ارْجِعْ سُرَاقَةُ لا غُبَارَ عليكُمُ
واسْمَعْ لِمَا سَأَقُولُ مِنْ أَنْبَاءِ
يَوْمًا سَتَلْبَسُ فِي يَدَيْكَ أَسَاوِرًا
هِيَ مِلْكُ كِسْرَى صَاحِبِ الخُيَلاءِ
ارْجِعْ سُرَاقَةُ وانْتَظِرْ مَا قُلْتُهُ
فَهْوَ القَرِيْبُ ولَيْـسَ ذَا بِالنَّائِي
يذهب الشاعر طلعت المغربي في أبيات القصيدة التالية لأحداث المسير بعد الغار إلى تأكيد أهمية ما جمعته لنا الهجرة النبوية من دروس طيبة نستأنس بها في هذه الحياة وأيامها، ونتقوى بها على مصاعب الدنيا وتعقيداتها، إذ يقول:
هِيَ رِحْلَةٌ هَاجَرْتَ فِيهَا سَيِّدِي
أَحْدَاثُها جَلَّتْ عَنِ الإِحْصَاءِ
عَطَّرْتَ طَيْبَةَ سَيِّدِي بِمَجِيْئِكُمْ
ومَلأتَ كُلَّ الكَوْنِ بالأَضْوَاءِ
وبَنَيْتَ مُجْتَمَعًا يَفِيضُ مَحَبَّةً
ومَوَدَّةً يَخْلو مِنَ البَغْضَاءِ
هَجَرُوا حُظُوظ النَّفْـسِ حِينَ أمَرْتَهُمْ
وسَمَوْا بِأَخْلاقٍ عَلى الجَوْزَاءِ
وطَرَقْتُ بَابَ اللهِ في غَسَقِ الدُّجَى
ودُموعُ عيني قَدْ سَبَقْنَ نِدَائِي
ثم يختم حكاية الهجرة في قصيدته راجيًا شفاعة رسول الله، داعيًا آملًا أن يعفو الله عنه ويغفر له، جاعلًا من الهجرة أفقًا أرحب ومجالًا أوسع؛ فترك المعاصي والترفع عن الدنايا هجرة تعلو بها النفوس وتسمو وترقى:
أرجوكَ تَغْفِرُ لِي ذُنُوبِي كُلَّهَا
ولْتَمْحُ يَا رَبَّ الورَى أَخْطَائِي
تَعْفُو وتَصْفَحُ لَيْسَ يَنْفَدُ فَضْلُكُمْ
أنتَ الكريمُ البَرُّ ذُو الآلاءِ
أنَا إِنْ عَصَيْتُ فهذِهِ بَشَرِيَّتِي
ولئِنْ عَفَوْتَ فَأَكرَمُ الكُرَمَاءِ
أنَا بالحبيبِ مُحَمَّدٍ مُسْتَشْفِعٌ
مفتَاحُِ بَابِ السِّـرِ في العَلْيَاءِ
يَا رَبِّ وامْنَحْنَا بِفَضْلِكَ هِجْرَةً
تَعْلو النُّفُوسُ بهَا عَلى الأَهْوَاءِ
ويكُونُ فِيْهَا هَجْرُ كُلِّ رَذِيلَةٍ
كَالْحِقْدِ والبَغْضَاءِ والشَّحْناءِ
كلما قرأنا الواقعة نفسها في قصيدة مختلفة نعيشها مجدّدا كما مرت بقلب الشاعر مفعمة بمشاعر متزاحمة من الرهبة والجلال، ففي إحدى قصائد الشاعر يوسف النبهاني نجد سردا للسيرة النبوية بأحداثها كلها، وعن واقعة سراقة قائف الأثر يحدثنا فيقول:
وَاقتَفاها سُراقةٌ لاِستراقِ النـ
ـنورِ مِنها كأنّه الحرباءُ
وَعَد النفسَ بالثراءِ ولكن
رُبَّ فقرٍ أَشرُّ منه الثراءُ
صَيَّرَ الخسفُ تحتهُ الأرضَ بحرًا
غَرِقتْ فيه سابحٌ جرداءُ
فَفَدى نفسَهُ ببذلِ خضوعٍ
حينَ مِنها لم يبقَ إلا الذَّماءُ
وَحباهُ وَعدًا بإِسوارِ كسرى
فَأتاهُ مِن بعدِ حينٍ وفاءُ
حملت رحلة الهجرة النبوية في طياتها خوارق ومعجزات خالدة، منها قصة خيمة أم معبد التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه نحو المدينة، إذ كانت هذه المرأة التي خلد التاريخ كنيتها (أم مَعبد) تقيم في خيمة على الطريق بين مكة والمدينة في وادي قُدَيد، وهي عاتكة بنت كعب الخُزاعية.
وكان رسول الله مع صاحبه أبي بكر ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهما ابن أريقط في الطريق فنفد منهم الزاد، وإذا هُم بامرأة كبيرة في السنّ تجلس أمام خيمتها، فتوقفوا عندها ليتزودوا بالماء والكلأ، وكان عام قحط على خزاعة كلها، فلم يجدوا عندها شيئا يبتاعونه ويقتاتون به، غير أن رسول الله رأى في جانب الخيمة شاة هزيلة طاعنة في السن فسأل أم معبد عنها إن كانوا يستطيعون أن يتزودوا بلبنها، فأجابت أم معبد بأن الشاة عجفاء، فاستأذنها رسول الله بالاقتراب من الشاة ومسح على ضرعها ودعا فدرّت لهم لبنًا تعجب الحاضرون من وفرته وصفائه، فارتووا منه جميعا وملؤوا إناء تلو إناء.
ويذكر أن أم معبد حين عاد زوجها وتعجب من رؤية اللبن حدثته بالخبر ووصفت له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها الشهير: "رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهَرَ الْوَضَاءَةِ، أَبْلَجَ الْوَجْهِ، حَسَنَ الْخَلْقِ، لَم تَعِبْهُ ثُجلَةٌ، وَلَم تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ، وَسِيمٌ قَسِيمٌ، فِي عَيْنِهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صَوْتِهِ صَحَلٌ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ، أَزَجُّ أَقْرَنُ. إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَا وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ. حُلْوُ الْمِنْطِقِ، فصْلٌ، لا نَزْرٌ ولا هذَرٌ. كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يتحدّ ....