كان انفصالها عن زوجها بمثابة نقطة تحول في حياتها عندما باتت ضحية لمختلف أنواع التحرش الجنسي عبر الإنترنت، مرارا وتكرارا.
هذه قصة حقيقة لشابة لبنانية عرفت عن نفسها بـ "ر.ف" في حديثها لموقع "الحرة"، وهي تروي معاناتها مع المتحرشين عبر الفضاء الإلكتروني.
تقول الشابة، البالغة من العمر 32 عاما، إن حياتها اختلفت منذ بدأت تنشر صورها عبر تطبيق التواصل الاجتماعي "إنستغرام"، مما جعلها تتعرض لعمليات تحرش جنسي من رجال ونساء على حد سواء.
ومع تعاظم أهمية الإنترنت وزيادة عدد مستخدميه حول العالم، تزداد الجرائم عبر الفضاء الافتراضي بمختلف أنواعها من الاحتيال إلى التحرش، لا سيما من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
ووجد استطلاع سابق لمركز "بيو"، وهو منظمة أميركية تركز على الأبحاث المجتمعية بما في ذلك التحرش عبر الإنترنت، أن 75 بالمئة من ضحايا التحرش عبر الإنترنت يقولون إن تجربتهم الأخيرة كانت على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن النساء والفتيات في الدول العربية يبقين عرضة للتحرش الجنسي بشكل خاص مع انتشار استخدام منصات التواصل الاجتماعي، التي باتت أرضا خصبة لمثل هذه الجرائم مع "وصمة العار" المجتمعية التي تتعرض لها المرأة، وتسمح للمجرمين بالإفلات من العقاب، وفقا للناشطين والخبراء.
وفي تصريحات لموقع "الحرة"، تقول الباحثة السعودية بالأمن الفكري، فهدة العريفي، إن "التحرش عبر الإنترنت ظاهرة عالمية، لكنها تكثر في البلدان العربية".
وخلص تحقيق إخباري جديد لشبكة "سي إن إن" الأميركية إلى أن أكثر من 75 بالمئة من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 13 و24 عاما في مختلف أنحاء العالم، واجهن نوعا من أنواع التحرش الجنسي عبر الإنترنت.
وفي عام 2021، أفاد تقرير لهيئة الأمم المتحدة للمرأة بأن ما يقرب من نصف مستخدمات الإنترنت في الدول العربية يخشين التحرش الإلكتروني.
وتظهر الأبحاث، بحسب تحقيق شبكة "سي إن إن" الإخبارية أن خطر التحرش الجنسي عبر الإنترنت "بات الآن شائعا جدا"، لدرجة أنه أضحى أمرا طبيعيا بالنسبة للفتيات اللاتي يواجهن تهديدات أكبر، مقارنة بالأولاد.
ويرى الخبراء أن الإنترنت جعل عملية التحرش الجنسية بالفتيات أمرا سهلا، مقارنة بالحوادث التي تشهدها الحياة الواقعية في الدول العربية.
وتقول الناشطة المصرية بمجال حقوق المرأة، مي صالح، إن الإنترنت يوفر فرصة للمجرم بالتحرش بعشرات النساء في الوقت ذاته، مضيفة: "بات الموضوع سهل جدا بحيث يبدأ بالتحرش ويمكن أن يصل للابتزاز والتهديد والاستغلال، وقد ينتهي بانتحار الضحية".
وفي حديثها لموقع "الحرة"، تضيف صالح: "نتفق أن التطور التكنولوجي له إيجابيات كثيرة منها أنه سهل التواصل وجعل العالم بمثابة قرية صغيرة، لكن ذلك فتح آفاقا جديدة من العنف لم تكن موجودة سابقا، بما في ذلك التحرش الجنسي عبر الإنترنت الذي وصل لمرحلة يصعب السيطرة عليها".
وتتفق العريفي مع ذلك الرأي مرجعة ذلك لأسباب عدة منها "سهولة الوصول للضحية وتعدد المنصات ووهمية الحسابات، وتوفير بعض المنصات خدمة الحذف، مما يمحي الأثر" المرتبط بالجريمة نفسها.
كذلك، فإن المنصات الرقمية تتيح تواصلا لأشخاص من دول مختلفة حول العالم، مما يجعل التعرف على المجرم "صعبا"، بحسب العريفي، التي تشير إلى أن كثيرا من المتحرشين يستخدمون حسابات مجهولة الهوية يصعب تعقبها، لا سيما إذا كان المتحرش خبيرا في التقنية.
وترى العريفي، وهي أيضا مستشارة متخصصة بقضايا المجتمع، أن طرق التحرش في العالم الافتراضي تختلف عنها بالحياة الواقعية، نظرا لكثرتها وتعدد أساليبها.
ومن بينها، حسبما تقول الباحثة السعودية، إرسال صور أو رموز غير لائقة، أو كتابة التعليقات المسيئة ذات الإيحاءات الجنسية، أو طلبات متكررة للحصول على صور جنسية، أو شبه جنسية للضحية.
وعلاوة على ذلك، قد تتعرض الضحية إلى الابتزاز الجنسي بعد الحصول على بيانات أو صور خاصة أو حتى قيام المتحرش بتركيب وتعديل صور الضحية بشكل مسيء باستخدام التقنيات الحديثة، بحسب العريفي.
وتروي الشابة اللبنانية "ر.ف" في حديثها لموقع "الحرة" قصة تعرضها للتحرش الجنسي عبر الإنترنت من رجال ونساء وأصحاب نفوذ، محاولين استغلال طلاقها.
وتقول إنها تلقت عروضا لتقديم خدمات جنسية صريحة عبر الإنترنت، مقابل مغريات بعضها مادية، وأخرى تتعلق باستغلال النفوذ لإنهاء قصة طلاقها التي استمرت 4 سنوات في أروقة المحاكم.
وتضيف بأسى: "المطلقات يتعرضن للتحرش الجنسي أكثر؛ لأن الشباب يعتبرون انفصال المرأة العربية نقطة ضعف لها"، لا سيما أن النساء قد يدخلن في وضع نفسي صعب بعد الانفصال، على حد قولها.
وبجانب استقبال تعليقات متكررة ذات مدلول الجنسي أو إرسال صور ورموز جنسية، فإن الشابة اللبنانية التي انتقلت حاليا للعيش في دولة خليجية، تعرضت للتحرش 3 مرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتحكي قصتها قائلة: "المرة الأولى جاء التحرش من حساب وهمي بلا هوية، لكنه كان يعرف بأني مطلقة ومحرومة من أبنائي، وأصبح يقدم وعودا بأنه يستطيع حل مشكلتي شريطة أن يحصل على خدمات جنسية".
وفي المرة الثانية، جاءت عملية التحرش من سيدة أعمال تملك صالون تجميل نسائيا عندما طلبت بصراحة الدخول في علاقة جنسية مقابل العمل معها، حسبما تقول "ر.ف".
وتمضي بقولها: "وكانت المرة الثالثة من سياسي عرض عليّ الذهاب إلى منزله مقابل مغريات مادية، وحل مشكلتي الأسرية كذلك".
وتشير إلى أنها لم تتعرض لمثل هذا النوع من التحرش الجنسي عبر الإنترنت عندما كانت متزوجة، وأن كل ذلك جاء بعد طلاقها عام 2022.
في دراسة الأمم المتحدة لعام 2021، اعترف واحد من كل 3 رجال عرب شملهم المسح أنهم ارتكبوا شكلا من أشكال العنف الإلكتروني بحق النساء.
وعند سؤالهم عن أسباب ارتكابهم للعنف عبر الإنترنت ضد المرأة، أفاد 26 بالمئة منهم بأن ذلك يعتبر "حقهم"، فيما قال 23 بالمئة أن أعمالهم تأتي "بغرض التسلية".
ورغم وجود مجموعة متزايدة من التشريعات والسياسات لمكافحة هذه الظاهرة، فإن نتائج تحقيق شبكة "سي إن إن"، المنشور هذا الأسبوع، تظهر استمرار الاعتداءات الجنسية عبر الإنترنت على نطاق عالمي.
وبينما تقول العريفي إن الظاهرة تزداد في الدول العربية "لعدم وجود سياسات واضحة وفعّالة لمكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت وقوانين رادعة في بعض البلدان"، تنظر الناشطة المصرية إلى القضية من "منظور ثقافي".
وتقول صالح إن "المجتمع (العربي) بحاجة إلى إصلاح اجتماعي أكثر من إصلاح تشريعي.. لدينا ترسانة من التشريعات، لكن ما يعرقل تطبيقها السياق الثقافي الذي نعيشه".
وتضيف: "مالم يتغير المنظور الثقافي الذي يرى أن المرأة هي المشكلة وليست الحل، فإن هذه الظاهرة ستكون مستمرة".
ويملك الجاني فرصة للإفلات من العقاب بسهولة على اعتبار أن المجتمع العربي يوصم النساء بوصمة عار، مما يجعل مسألة سلوك الطرق القانونية ورفع شكوى على الجاني "مسألة مرهقة"، حسبما تقول صالح.
وتشير إلى أن الكثير من المتحرشين يدركون أن معظم الضحايا لن يتصدين قانونيا لأفعالهم، وغالبا لن يبلغن أهلهن بذلك خشية وقوع اللوم عليهن، مردفة: "المسألة مرهونة بوعي المجتمع".
ووفقا لتقرير الأمم المتحدة، فإن 36 بالمئة من النساء العربيات اللائي تعرضن للعنف الإلكتروني عام 2020، نُصحن بأن يتجاهلن الواقعة، فيما 23 بالمئة تم إلقاء اللوم عليهن، و21 بالمئة قيل لهن أن يحذفن حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بهن.
وفي هذا الإطار، شددت الباحثة السعودية على ضرورة إدراك أن النساء "ضحايا ولسن جناة، واللوم لا يقع عليهن مهما حاولت بعض المجتمعات تحميلهن المسؤولية".
ولفتت إلى أن الضحايا يتجهن إلى "سلوك مغاير" يصنع "أثرا رائعا في تقييد التحرش" من خلال نشر تجاربهن الشخصية، وبذل الجهود في طرق التوعية والوقاية لحماية المجتمع.
وتنصح العريفي الفتيات بـ"تجاهل المتحرش تماما وعدم الرد عليه أولا ومن ثم تصوير سجلات الرسائل وصفحات المتحرشين التي تعد أدلة هامة في سبيل تقديم الشكوى".
وتضيف: "قبل ذلك على الجميع عدم منح الثقة، وقبول الإضافات الوهمية والتعمق معها، فأنت لا تعلم من القابع خلفها أو هدفه أو ماهيته؛ لذا من المهم وضع الحدود في العالم الافتراضي والحرص على الخصوصية فيه".
وعندما سأل موقع "الحرة" الشابة اللبنانية "ر.ف" عن كيفية مواجهتها لعمليات التحرش المتكررة التي تعرضت لها، أجابت: "كنت ضعيفة واكتفيت بالبلوك (الحظر)".
وتقول "ر.ف" إنها استخلصت من تجربتها أن الحلول تكمن في "التربية من الأساس؛ لأن الفتيات يخشين وصمة العار وردة فعل الأهل؛ ولذلك الحل أن يكون الأبوين صادقين مع بناتهم، ودعمهن بدلا من إيقاع اللوم عليهن وهذا ما أفعله مع ابنتي".