في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي
رغم أن 6 قرون مضت على رحيل العرب والمسلمين من الأندلس، فإن مئات المعالم العمرانية والمدن التاريخية ما زالت تُذكر بالحضارة الإسلامية العريقة في تلك البلاد ومنها مدينة رندة التي تقع في منطقة جبال الأندلس الجنوبية إلى الشمال من الجزيرة الخضراء وإلى الغرب من مالقة، وترتفع (750 مترا) فوق سطح البحر.
تتمتع رندة بموقع طبيعي رائع، وتحيط بها الوديان السحيقة والجبال. وجاء في الروض المعطار لعالم البلدان محمد بن عبد المنعم الحميري (ت 900هـ/1445م) "رندة بالأندلس من مدن تاكرنا، وهي مدينة قديمة بها آثار كثيرة، وهي على نهر يُنسب إليها، واجتلب الماء إليها من قرية بشرقيها ومن جبل طلويرة بغربيها".
ووصفها العلامة الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب (1313-1374م) قائلا "أم جهات وحصون، وشجرة ذات غصون، وجناب خصيب وحمى مصون، بلد زرع، وأصل وفرع، وهي بلد أعيان وصدور، وفي أهلها فضاضة وغضاضة، ما في الكلف بها غضاضة".
وقال عنها الرحَّالة المسلم ابن بطوطة (1304-1377م) إنها "من أمتع معاقل المسلمين وأجملها وضعا". وكانت رندة من أهم مدن مملكة غرناطة في الحقبة الإسلامية، وهي اليوم كذلك من أجمل المدن الإسبانية.
تُعدّ مدينة رندة القديمة -ذات الطابع الأندلسي- من أشهر المعالم السياحية والتاريخية في الأندلس، إذ يعود تاريخها إلى العصر الحجري الثاني، وكان لوجود رندة في مفترق الطرق بين أقاليم مالقة وإشبيليا وقاديس، أن منحها ذلك القيام بأدوار تاريخية كثيرة على مر العصور، مرّ على رندة واحتلها الكثير من الإمبراطوريات، وأول من استقر بها القبائل الإيبيرية، ثمَّ تعاقبت العصور فاحتلها الفينيقيون والإغريق والرومان والقوط والمسلمون.
خضعت رندة لبنو يفرن وبنو عباد والمرابطين والموحدين وبني الأحمر، وكان لها نصيب أيضا ضمن فترة صراع ملوك الطوائف. وفي عهد بني الأحمر أصبح لمدينة رندة، شأن عظيم، حيث أصبحت من أهم المراكز الدفاعية الرابطة بين المغرب والأندلس.
كان من نتائج سقوط الحكم العربي/الإسلامي للأندلس عام 1492م أن تضرر المسلمون من محاكم التفتيش الإسبانية، حيث لم يبق للمسلمين وجود في شبه الجزيرة الإيبيرية إلاّ في منطقة غرناطة. حينها أصدر حكامها الجدد مرسوما يقضي بتنصير جميع المسلمين واليهود أو أن يغادروا الأراضي الإسبانية دون أخذ أملاكهم. وبسبب تلك الإجراءات عانى مسلمو رندة من محاكم التفتيش الإسبانية، وتمّ إطلاق اسم المورسكيين على المسلمين الذين بقوا في الأندلس، وأُجبروا على التنصر (اعتناق المسيحية).
كما أُجبروا على وضع هلال أزرق فوق قبعاتهم وعمائمهم، مما جلب لهم السخرية والأذى من السكان المتعصبين. وكانت العربية اللغة الرسمية في رندة إبّان الحكم الإسلامي حتى أصدر فيليب الثاني (1527-1598م)، مرسوما يحظر استخدامها تحدثا أو كتابة، وأمر جميع المسلمين بإبقاء أبواب منازلهم مفتوحة يوم الجمعة كي لا يؤدوا صلاة الجمعة، وفرض ضرائب باهظة عليهم. تلك الإجراءات القاسية دفعت المسلمين إلى الثورة في مدينة رندة، حيث تمكن المسلمون من تشكيل جيش "الفهري" وهزيمة القوات الإسبانية، لكنهم تعرضوا بعد ذلك لمذبحة جماعية قُتل فيها معظم المسلمين، ومن بقي حيا تمت معاملته "كعبد" يُباع في أسواق النخاسة.
وفي بداية القرن الـ19، لم تسلم رندة من الغزو الفرنسي بقيادة القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت (1769-1821م)، الذي غزا إسبانيا أواخر عام 1808م، وقد تضررت رندة جراء ذلك الغزو ويُقال إن عدد سكانها انخفض من 15 ألفا و600 إلى 5 آلاف نسمة في غضون 3 سنوات.
والجدير بالذكر أن عددا من الأدباء والكتّاب والفنانين تفاعلوا مع مدينة رندة والأحداث التي مرّت بها حيث شكّلت مصدر إلهام للكثير منهم، واتخذ بعضهم رندة مقرا له وقاعدة أطلق أولئك الكتّاب منها إبداعاتهم الأدبية مثل الكاتب الأميركي إرنست هيمنغوي (1899-1961م)، الذي يصف الفصل العاشر من رواية "لمن تقرع الأجراس" (1948م)، مشهدا يحاكي الأحداث الفعلية التي جرت في رندة، والكاتب الأميركي جورج أورسن ويلز (1915-1985م)، حيث قضيّا، همينغوي وويلز فترة طويلة في الجزء القديم من رندة، وكتبا عن عاداتها في مصارعة الثيران.
كما أصبحت رندة قاعدة لحرب العصابات والعديد من قطاع الطرق الذين ألهمت أفعالهم بعض الفنانين والكتّاب مثل المؤرخ الأميركي واشنطن إيرفينغ (1783-1859م)، الذي عَمل سفيرا لأميركا في إسبانيا، وعالم الآثار الفرنسي بروسبير مرميمي (1803-1870م)، والرسّام الفرنسي غوستاف دوريه (1832-1883م). وكذلك الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875-1926م)، كان هو الآخر من الذين أقاموا في رندة تأثرا بجمال طبيعتها وآثارها، ويقول عن مدينة رندة "بحثت عن مدينة أحلامي ووجدتها أخيرا في رندة، ولا يوجد مكان أكثر روعة من هذه المدينة الجبلية الجامحة". وكانت مدينة رندة قد تأثرت كثيرا بالحرب الأهلية الإسبانية التي تسببت بهجرة العديد من السكان.
وضعت العديد من الإمبراطوريات بصمتها على طراز رندة المعماري، فضمّت المدينة بعض المعالم الرومانية وأشهرها الجسر الروماني، وفي بداية الحكم الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية ....