في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي
يبدو، أول وهلة، أن فن اليوميات وفن الصحافة فنّان مختلفان حد التنافر فالأول نشأ وترعرع في السرية، ولا يذكر إلا مقترنا بقصص الإخفاء والأدراج المغلقة والدفاتر المدفونة في الصناديق والكوى أو مخفية تحت الوسائد حرصا على ألا تقع بين أيادي الآخرين، بينما الثاني وجد لكي يُخبر ويُعلن ويُفشي ويَنشر الحقائق والفضائح ويستقصي ويَكشف عن كل مستور.
فما الذي يمكن أن يجمع الصحافة باليوميات؟
تُسمى "اليوميات" بالفرنسية جورنال (JOURNAL) وهي التسمية ذاتها التي تبنتها الإنجليزية مع انتشار كلمة أخرى دالة عليها وهي (Diary)، و"جورنال" تعني أيضا الصحيفة أو الصحيفة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وبعض اللغات اللاتينية الأخرى ويأتي هذا التماهي مع فكرة التدوين نفسها فالمفردة "يومية" هي ما يسجّله صاحب اليوميات يوميا و"اليومية" بعالم الصحافة هي الصحيفة التي تصدر كل يوم فكلاهما خاضع للتواتر الزمني حسب الرزنامة من أيام الأسبوع إلى أشهر السنة والأعوام. كما حرصت بعض الصحف على تثبيت كلمة يوم واليوم كجزء من عنوان الصحيفة.
بسبب هذا التعالق الحميم بين الصحافة واليوميات كانت اليوميات دائما حاضرة مع كل حرب تشنها إسرائيل على غزة لتكون شهادة حرة مرافقة لمنتج الصحافة أو كبديل لها في بعض الأحيان عندما يتبادل الصحفي وكاتب الأدوار. ضمن هذا الإطار ننزل كتاب "وقت مستقطع للنجاة يوميات الحرب في غزة" للروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف الصادر عن دار الأهلية 2024.
لطالما ارتبط فن اليوميات بالخطر كمحفز أساسي لإنتاجه، فهو في الغالب ابن الحرب، حرب حقيقية كانت أو نفسية فردية، حرب يشنّها كاتب اليوميات على خطر يتهدّده أو يوثق بها أحداث حرب، ولنا في منجز اليوميات العربية مدونة كاملة فيما يمكن أن نطلق عليه بيوميات الحرب من الجزائر إلى بيروت إلى بغداد إلى الكويت إلى غزة.
كان الكاتب والسياسي الفلسطيني عاطف أبو سيف قادما إلى غزة من الدوحة، كما يقول في مقدمة يومياته، بعد أن شارك في اجتماع وزراء ثقافة العالم الإسلامي في زيارة خاطفة لغزة للمشاركة في إطلاق فعاليات يوم التراث الوطني "الذي يصادف للمفارقة يوم السابع من أكتوبر، في متحف القرارة شرق خان يونس". عندما وجد نفسه محاصرا هو وابنه ياسر عرفات. ويؤكد الكاتب في مقدمته بشكل صريح أنه لم يكن يفكر في كتابة شيء أثناء زيارته، ولكنه منذ اليوم الأول من الاعتداء استعاد ذلك الكاتب وقرر أن يكتب شيئا مثل اليوميات يخلد بها ذكرى الأصدقاء ومن فقدهم، يقول:
"حين بدأ العدوان في أكتوبر 2023، فكرت منذ اليوم الأول أن أكتب نصوصا تشبه اليوميات عن الناس والجيران والأصدقاء والأقارب والأهل الذين أخذتهم الحرب بعيدا عن عالمنا. فكرت أن ثمة دينا في رقبتي لكل من عرفت منهم، وأن واجبي أن أتحدث عنهم، وأخبر عن حياتهم. لم يكن في بالي أن أكتب يوميات منتظمة".
بيد أن البرنامج الكتابي للكاتب تغيّر من مجرد مذكرات حرة محدودة ومنتقاة إلى عمل يومي ونشاط انضباطي ومسؤول، ومن مجرد كتابة نوستالجيا إلى فعل مقاومة ومشاركة ميدانية.
لقد ساهمت الصحافة العربية والأجنبية الحرة في إنتاج يوميات عاطف أبو سيف عن الحرب على غزة عندما التزم الكاتب، والوزير السابق، بنقل ما يجري في هناك وهنا تضافر أمران لإنتاج هذه العمل:
يرجع عاطف أبو سيف استمرار التدوين إلى تشجيع الكاتب والصحفي معن البياري، ويقول "كانت الكتابة، كما كل فعل أقوم به خلال الحرب، وقتا مستقطعا للنجاة".
ويضيف "مع الاهتمام الذي حظيت به اليوميات، صرت أشعر بمسؤولية أكبر لأتحدث عن الناس الطيبين الذين شاركوني التجربة والحياة والنجاة ومحاولة الهرب من الموت، وبعضهم قتلته الحرب، وظل ما كتبته عنه أثرا يوجع القلب. صارت اليوميات شهادة عن الناس وعن وجودهم وعن المكان وسيرته وتدميره. بل هناك من كانوا يطلبون مني أن أكتب عنهم، حتى يسمع بهم وبأسمائهم العالم في حال أخذتهم الحرب، فتظل ذكراهم حية".
ويعود في اليوم الـ36 للحرب ليلمح إلى ضرورة أن يعوّض كاتب اليوميات المراسل الصحفي فيبدأ يوميته التي خصصها لمستشفيات غزة ب:
"لا أخبار، لا مراسلين للفضائيات في مناطق شمال غزة ومدينة غزة. هرب الصحفيون وتركوا المشهد، فلا ينقل أخبار الضحايا أحد. كانت الليلة قاسية وصعبة كالعادة"
والحق أن الكتابة في تلك الأوضاع هي عمل ميداني لا يمكن أن نميزه عن عمل المراسل الصحفي، وهذا ما نفهمه من يومية 14 ديسمبر التي خصصها لسؤال الكتابة "في الصباح وحين خطر لي أن أكتب، لأول مرة تساءلت عن جدوى الكتابة في هذا الوقت. غدا سيكون قد مرّ 70. يوما على الحرب. وفي ظروف صعبة ومعقدة وخطرة، واصلت الكتابة يوميا. وفي مرات كثيرة كانت الكتابة جزءا يشكل خطرا على حياتي، خصوصا حين أقطع مسافات كي أصل إلى مكان فيه كهرباء لشحن "الحاسوب" أو الإنترنت لإرسال ما كتبت".