آخر الأخبار

في ذكرى رحيل العقيل.. الاستثناء في متعة البذل

شارك الخبر

في عقد مضى أزعم أنني قابلت العشرات من الباذلين من رجال الأعمال والموسرين وأصحاب المؤسسات المانحة وربما تفوق أو تساوي ثرواتهم ثروة الإيجابي والإنساني الشيخ عبدالله العقيل وبعضهم أقل وفي كلٍ خير وبركة ولكن الفارق أنني لم أجد ثقافة ولغة العطاء التي عنده - رحمه الله - تتكرر عند غيره ممن شاهدت، بل كان يعلمنا دروساً فاخرةً في العطاء وكل من حوله لم يصدق إلا بعد رأي العين وليس كما قيل من رأى كمن سمع "فسعادته تعتمد على مقدار بذله" وكلما زاد إحسانه ومنحه للمحتاج زادت سعادته، وهذه درجة من الفضل والخصوصية من الله لا يهبها الله لكل قادر وموسر وباذل ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ويصطفي من خلقه من يراه ليس كغيره حقاً وصدقاً.

وفي بداية العلاقة الخيرية معه قبل ما يزيد على الأعوام العشرة كان يقول ويؤكد ويردد أن الفضل ليس لنا في العطاء ولكن الفضل لمن مكننا من العطاء وأتاح لنا الفرصة في قضاء حاجته ولو لم تتاح لنا الفرصة في ذلك لما كُتب لنا الأجر على ذلك، فحاجتنا لله أكثر من حاجة المحتاج لنا، وكنا نقول أي فضل فيه هذا المحسن من الله وأي منزلة رفعه الله بها أن سخره لقضاء حاجة المحتاج من الناس والحرص عليهم بل والبحث عنهم بهذا السمو المتألق ويحمد الله كثيراً على فضله ودوام إحسانه إليه أن قدره على ذلك وأعانه عليه، ولكم أن تتخيلوا احتضانه للمحتاج وتقبيل رأسه وقوله له الفضل بعد الله لك أن مكنتنا من خدمتك دون تفضل منا لأنك أنت المتفضل علينا ونحن جنود الله لك ورسالته إليك وفضله عليك.

ومن الصور المختلفة جداً في البذل للراحل عبدالله العقيل أنه عند الثقة يدفع بزكاة ماله مقدماً لعدد من السنوات، ويعطي الثقة في تشغيل أموال الزكاة قبل حلول وقتها وتنمو وتزداد وبالتالي تعظم المنفعة وتنتشر الإيجابية ويتم احتواء الحاجة والمحتاج وتتضح من خلال ذلك خطط التوسع في التكافل الذي حث عليه ديننا القويم وتزداد برامج العطاء ومبادرات الاحتواء وقضاء الحاجات.

ثم إنه - رحمه الله - حمل لواء المبادرة في العطاء والبذل والنفع العام للناس لكل قادر عليه سواء بالمال والجاه والفكر والجهد والوقت وضرورة الاستمتاع والفرحة بفضل الله والإنسان في حياته لأنه لا يضمن الوقت والزمان وتقلباته ولا الذرية ومشاغلهم واحتياجاتهم دون الإثقال عليهم فيما يحب بعد مغادرة الدنيا ولا يضمن اتفاقهم وكذلك توجهاتهم ولذا كان همه أن من نوى الخير في أي مجال عليه استعجال الفعل وزراعة الخير وقطف بواكير ثماره وعلى كل مستطيع أن يقدم ما يستطيع ولهذا كان يدفع رحمة الله عليه بتنويع مسارات التطوع واحتواء الرغبات وتنمية ثقافة النفع بالفكر والوقت والجهد فليس الجميع يجدون المال ولكنهم يجدون غيره مما ينفعون به غيرهم، وغيرهم قد تكون حاجته للرأي والمشورة والمعاضدة أكثر من حاجته للمال وله القدح المعلىٰ في كل إيجابية رحمه الله.

وتفرد بالإثبات أن العمر الحقيقي للإنسان هو عمر نفعه لغيره وليس العمر المادي الذي تنقضي به الحياة، ولذا عاهد نفسه على إيجاد أوقاف خصص نفعها كما يراه لمسارات الحاجة في الحياة ونوع فيها وواكب الزمن وعمل بصدق لما بعد الموت -رحمه الله- ولا نشك مطلقاً أن عمر نفعه سيستمر عقوداً وقروناً وستتوارث الأجيال المحتاجة الاستفادة منه وغير المحتاجة ستستفيد من فكره وثقافته ودقة استهدافه للخير وتنوع العطاء فيه، وكان يردد "أوقف حياتك كلها لله" ولا تنس نصيبك من الدنيا ومع ذلك حتى في نصيبه من الدنيا تخرج من عنده بفوائد ودروس وعبر للآخرة وللدنيا قل أن تجدها عند غيره وكل شيء في حياته له هدف فيه ومغزى منه ورسالة يُسمعها لغيره من باب النفع لكل أحد. والحديث عنه ليس صعباً لأنه بشخصه كان سهلاً، فتركيزه الدائم على الإيجابية والجوانب المضيئة للإنسان والثناء عليه فيما يراه حسناً منه تجعل الآخر في منافسة مع نفسه لتحقيق هذه الصورة الجميلة أو تصحيح صورةً ألمح لها في الآخرين، وهذه صورة من البذل المعنوي قليل ونادر من يستهدفها حتى من أهل التربية، ويُرسخ فيمن حوله حاجته لهم وأنه يتعلم منهم وهم من ساعدوه على ما هو فيه وتشعر عندها بعظم هذا النموذج المحفز للعطاء والبذل حتى يكسبك ثقافة العطاء والبذل ويجعلها سلوكاً دائماً لك.

وفي زاوية أخرى من زوايا اهتمامه رحمة الله عليه، حرصه في البذل على التنمية والتأهيل والاعتمادية على النفس في المستقبل ورغبته في المساعدة للمحتاج لكي يخرج من حال الأخذ إلى حال العطاء والتأكيد في الإشارة دائماً لقصص النجاح التي تحققت لأن الناس تدرك بالفعل ما لا تدرك بالقول، ويكافئ الناجح ويدفعه للمزيد ويطلب مشاركته في الإيجابية لأن عايش الحاجة ونجح في تجاوزها والرسالة منه سيكون أثرها أنفع لغيره..

ختاماً.. من الطبيعي أن لا يكون صُناع الأثر كثره، ولكن من غير الطبيعي أن تكون لغة العطاء وفق ضوابط ومؤشرات أداء وقراءات دقيقة للحاجة ومقدار النفع مع مراجعة ذلك دورياً ليقف الباذل على مقدار النفع الدقيق للناس والمشاركة في بذل الفكر والجهد والمعاضدة مع العطاء فيكون في تلك المبادرة قد حقق أهداف البذل كلها ووقف على الضوابط وعزز وجودها وتطبيقها ودعم رسالة من الرعوية إلى التنموية ومن الاحتياج إلى الإنتاج ومن الضمان إلى الأمان، وأخيراً أتطلع مع دعم برامج الزمالات الخيرية وطرح برامج للماجستير في العمل الخيري وخدمة المجتمع في بعض الجامعات وكليات خدمة المجتمع أن تكون سيرة ومسيرة الراحل عبدالله العبدالرحمن الناصر العقيل -رحمه الله- حاضرةً في تلك البرامج وسيجد الدارس كل عون في مادتها ومحتواها ونفعها الذي عم مدن وطننا الكبير ولعشرات الجمعيات وآلاف المحتاجين.

  • مستشار وعضو مجالس أهلية وصناديق وقفية
عبدالله بن عبدالرحمن العقيل رحمه الله

الرياض المصدر: الرياض
شارك الخبر

إقرأ أيضا