لم يحصل معلم اللغة الإنجليزية، عبد الرحمن الطويل (58 عاماً)، الذي يعمل في القطاع الحكومي في الضفة الغربية المحتلة، على راتب كامل منذ أكثر من عامين.
يقول عبد الرحمن، إن "التضييق الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية زاد أيضاً بعد حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مما فاقم معاناة الموظفين الفلسطينيين الذين يتقاضون رواتبهم من السلطة".
يعيل عبد الرحمن عائلته المكونة من أربعة أبناء وابنة، وتعمل زوجته أيضاً لصالح القطاع الحكومي وتتسلم هي الأخرى رواتب ناقصة.
يبلغ راتب عبد الرحمن قبل الاقتطاع 4000 شيكل شهرياً (أي ما يعادل نحو 1062 دولاراً)، علماً أن الحد الأدنى للأجور في الضفة الغربية الذي حددته السلطة الفلسطينية العام الماضي، يبلغ 1880 شيكل (نحو 500 دولار).
ويلفت إلى أنه لم يتقاضَ أي راتب في شهر فبراير/شباط هذا العام، ثم أصبح يتسلم رواتب ناقصة، وخلال الشهرين الماضيين تقاضى نصف الراتب الشهري، وأصبح مجموع ما لم يتسلمه أكثر من سبعة رواتب.
ويعود سبب الاقتطاعات من رواتب الموظفين الفلسطينيين إلى الاقتطاعات الإسرائيلية من الأموال العائدة للسلطة الفلسطينية، والتي بدأت عام 2019، بحسب مدير عام السياسات والإحصاء في وزارة الاقتصاد الفلسطينية، رشاد يوسف.
عام 1994، وقّعت كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي يؤسس لاتفاق تعاقدي يحكم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، وينظم صلاحية السلطة الفلسطينية في الاستيراد والتصدير وقيمة الجمارك والضرائب المفروضة على البضائع، وتنشئ بموجبه السلطة النقدية الفلسطينية "مقاصة" للتحويلات المالية والصفقات بين البنوك العاملة في الضفة الغربية التابعة للسلطة الفلسطينية، والبنوك العاملة في إسرائيل.
والمقاصّة هي "عائدات الضرائب التي تجبيها إسرائيل من البضائع الواردة إلى الأراضي الفلسطينية عبر المنافذ التي تسيطر عليها إسرائيل بالكامل"، وفقا لتعريف وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا).
وتشكل أموال المقاصة ما نسبته 65 في المئة من الإيرادات المالية للسلطة الفلسطينية.
ويعتقد رشاد يوسف أن الضائقة المالية التي تمر بها السلطة الفلسطينية نتيجة القرارات الإسرائيلية بالاقتطاع أو احتجاز أموال المقاصة، قد تؤدي "لانهيار السلطة".
ويقول يوسف إن مجموع ما تحصله السلطة من أموال المقاصة بلغ قبل الاقتطاعات - أي قبل 4 سنوات - يبلغ مليار شيكل شهرياً (نحو 270 مليون دولار)، لكن اليوم أصبح ما تحصله السلطة شهرياً من أموال المقاصة نحو 250 مليون شيكل شهرياً بما يعادل (688 ألف دولار)، بعد قرار الحكومة الإسرائيلية باقتطاع الجزء الخاص برواتب موظفي السلطة في غزة.
من جانبه، يرى المحلل العسكري الإسرائيلي، ايال عليما، أن إسرائيل تستطيع أن تقوم "ببعض الخطوات التي تؤدي إلى إضعاف السلطة الفلسطينية حتى لا تتمكن من مواجهة التحديات الداخلية -الاجتماعية، والاقتصادية. ففي نهاية الأمر هذه الظروف قد تؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية".
ويضيف: "باعتقادي هذا ما يسعى إليه وزير المالية [اليميني في الحكومة الإسرائيلية بتسلئيل سموتريتش]".
لكنه يوضّح أن "إسرائيل لا تستطيع اتخاذ قرار بالقضاء على السلطة الفلسطينية في ظل الظرف السياسي الراهن والعزلة الدولية التي تعاني منها، إضافة لموقف الإدارة الأمريكية التي لها وزن كبير فيما يتعلق بمعادلات هذه القضية".
الخبير في القانون الدولي، أنيس القاسم، يوضّح أن السلطة الفلسطينية "عبارة عن إدارة مدنية بموجب اتفاق أوسلو مما يعني أنها تخضع لتعليمات الحكم العسكري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي فإن سموتريتش، بصفته المسؤول حالياً عن إدارة المناطق المحتلة، هو صاحب الصلاحية على السلطة الفلسطينية".
تحدثت بي بي سي عربي مع خمسة موظفين كان اليأس من الأوضاع الراهنة ظاهراً في كلماتهم، وذكروا هم أيضا أنهم لم يستلموا ما مجموعه، نحو سبعة رواتب من السلطة الفلسطينية.
ويفيد مدير عام السياسات والإحصاء في وزارة الاقتصاد الفلسطينية، رشاد يوسف، بأن الديون المتراكمة على السلطة الفلسطينية "تتجاوز 7 مليارات دولار"، مقسمة بين مستحقات الموظفين ومستحقات القطاع الخاص ومستحقات القطاع البنكي وهيئة التقاعد.
ولا يقتصر الواقع الاقتصادي الذي ازداد سوءاً بعد الحرب على عدم تسلم موظفي السلطة لرواتب كاملة، بحسب ما يشرح من تحدثنا معهم؛ إذ خسرت الأسر الفلسطينية أيضاً المساندة المالية المتوقعة من أبنائها الذين كانوا يعملون في إسرائيل قبل الحرب.
ويقول تقرير لصحفية تايمز أوف إسرائيل نشر في أبريل/نيسان الماضي، إن نحو 120 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية فقدوا مصدر رزقهم بعد منع غالبية العمالة الفلسطينية من العمل في إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
يقول المحلل العسكري ايال عليما "بلا شك العامل الاقتصادي هو عامل جوهري مركزي فيما يتعلق بالحديث عن تقوية السلطة (الفلسطينية). الحفاظ على الاستقرار مرتبط بالأوضاع الاقتصادية".
ويضيف: "ربما يجب القول هنا إن لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية [خشية من] سيناريو كابوسي بانفجار الأوضاع في مناطق الضفة الغربية، خاصة بعد قرارات اتخذتها الحكومة الإسرائيلية خلافاً لموقف المؤسسة الأمنية والعسكرية مثل إلغاء تصاريح العمل لسكان الضفة الغربية في إسرائيل".
وفي مايو/أيار الماضي، قال وزير المالية سموتريتش، إنه رداً على إجراءات السلطة الفلسطينية "الأحادية" لحث الدول على الاعتراف بدولة فلسطينية - وهو ما ترفضه إسرائيل - فإنه لن يحول المزيد من أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية "حتى إشعار آخر"، وسيفرض عقوبات اقتصادية إضافية على المسؤولين في السلطة وعائلاتهم، بالإضافة إلى تعزيز الاستيطان في أراضي الضفة الغربية، وغيرها من الإجراءات التي نشرتها صحف عبرية.
ورغم تراجع سموتريتش عن جانب من قراره هذا في الثالث من تموز/يوليو الماضي، إلا أن الإفراج عن جزء من أموال المقاصة لا يشكل، بحسب يوسف، حلاً لأزمة السلطة الفلسطينية المالية.
ويوضّح رشاد يوسف: "في حال استمرار الأزمة لبضعة أشهر أخرى فإن ذلك يعني الوصول لمرحلة انهيار السلطة مالياً، مما يؤدي لانهيار معظم المؤسسات الحكومية بما فيها المؤسسات الأمنية".
وقالت كل من وزارتي المالية الفلسطينية والإسرائيلية، إن الأخيرة حولت 435 مليون شيكل (116 مليون دولار) - عن شهرين - من عائدات الضرائب المحتجزة إلى السلطة الفلسطينية، في أول تحويل من نوعه منذ أبريل/نيسان الماضي.