احتكار القتل في فلسطين.. هل يمتلك أحد الحق في قتلنا؟

"اللي جنبي ميتين.. الدبابة جنبي.. خليكي معي أمانة.. تعالي خديني.. أمانة كتير خايفة.. رِنِّي على حد ياخدني".

لم تكن استغاثات الطفلة هند رجب ذات الأعوام الست، التي كانت آخر من قُتل من ركاب سيارة مدنية تقلّها هي وأقارب لها، لتقلق حكومات العالم الحر أو تدفعهم إلى إدانة العدوان الإسرائيلي، الذي قَتلَ زهاء ستة عشر ألف طفل حتى اللحظة، على العكس مما وقع عندما قتلت مُسَيَّرة إسرائيلية ستة أعضاء من نشطاء منظمة المطبخ المركزي العالمي، حيث واجهت إسرائيل موجة انتقادات وإدانات عارمة من حكومات ومؤسسات الدول الغربية، وأخذت وسائل الإعلام تنقل حكايات الضحايا الأجانب، وشهد الداخل المُحتل جدلا وانتقادات واسعة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، لم تنلها قبل ذلك بعدة أشهر حين وقعت واحدة من أسوأ المذابح في تاريخ غزة.

ففي ساعات الليل الأولى من مساء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى الأهلي العربي في غزة، المعروف بالمستشفى المعمداني، فأردت أكثر من ألف مدني فلسطيني بين شهيد وجريح. وقبلها بساعات كان الاحتلال قد قصف مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، فاستُشهِد العشرات جراء الهجوم، وفي ذلك اليوم بالتحديد تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين 3000 شهيد. وفي أثناء كتابة هذه السطور، بلغ عدد الشهداء منذ بدء القصف والعدوان الإسرائيلي زهاء 38 ألفا استُشهِدوا على مدار أكثر من 270 يوما من الإبادة.

لكنك عندما تسمع وتشاهد تعليقات المسؤولين الغربيين حول واقعة المستشفى المعمداني، ستشعر بالغضب والتساؤل، إذ إنهم أرادوا تحميل المقاومة مسؤولية قصف المستشفى حينها. وليس هذا فحسب، بل ونُظِر إلى الضحايا على أنهم مجرد أرقام يمكن التشكيك فيها، وهو ما صرح به الرئيس الأميركي جو بايدن عندما سأله أحد الصحفيين عما تعتزم حكومته القيام به لتقليل أعداد الضحايا المدنيين في غزة، فأجاب رافضا فكرة إمكانية الوثوق في أرقام الضحايا المُعلنة، وقال: "ليس لديّ أي فكرة عما إذا كان الفلسطينيون يقولون الحقيقة بشأن عدد القتلى". الضحايا هنا ليسوا نظراء لضحايا نشطاء المطبخ المركزي العالمي إذن، فقد بادر بايدن بتقديم العزاء لأسر الضحايا الست، وعبَّر عن استيائه مما جرى بقوله: "إن الصراع في غزة أصبح من أكثر الصراعات دموية بالنسبة لعمال الإغاثة"، كما اعتبرت إسرائيل نفسها الحادث مأساويا ولم تُحمِّل حماس المسؤولية هذه المرة.


مصدر الصورة
جثث الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في غارة إسرائيلية على رفح جنوب قطاع غزة (رويترز)

يمكننا أن نفهم سر هذا التجاهل الغريب للضحايا الفلسطينيين في الوقت الذي يُدان فيه مقتل النشطاء الأجانب في ضوء ما قاله أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بيتر جران حين سعى إلى فهم سبب تجاهل التاريخ المحلي المصري في كتابات المؤرخين الأجانب. وقد اعتبر جران أن الباحثين الإنجليز والأميركيين كان لهم الدور الأبرز في عملية إخفاء تاريخ السكان المحليين في البلد، وفسَّر ذلك بالرجوع إلى الخلفية الثقافية والحضارية للباحثين، حيث إن الحضارة الغربية هي نتاج عملية التخلُّص من الأضعف. ويقارب جران بين سِفر الخروج (Book of Exodus) وما جرى أثناء بناء الحضارة الغربية، التي صارت ثقافتها تقوم على مركزية الرجل الأبيض، حيث تقوم جماعته بالتخلص من بعض الناس (وإن كانوا طيبين)، لأنهم وقفوا على الجانب الخاطئ من وجهة نظره، ومن ثمَّ فإن عملية إبادتهم ليست ذنبا يُلام عليه الرجل الأبيض.

وبالمثل فإن الخلفية الثقافية والحضارية لصانعي السياسة الغربيين تجعلهم لا يبالون بموت عشرات الآلاف من الفلسطينيين ويعتبرونهم مجرد أرقام، وعندئذ نفهم لماذا نُقتل دون أن يحرك المجتمع الدولي المزعوم ساكنا. وهكذا بينما يتواصل العنف غير المسبوق تجاه الفلسطينيين، بحيث لم يعد هناك مكان واحد آمن لهم في غزة أو الضفة الغربية، فإن ثمة من يسعى جادا لمنح غطاء من الشرعية لعمليات التنكيل والإبادة.

لقد صار جليًّا أن إسرائيل لا تحتل الأرض والموارد فحسب، بل "إنها تحتل أجساد الفلسطينيين" على حد وصف الباحثة الأُسترالية ميرام ديبريز، التي تقول إن الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على بناء وتشكيل بيئة عنف بصري وجسدي وفرضها على الفلسطينيين طوال الوقت في حياتهم اليومية، ويعتبرها ضرورة لاستدامة سيطرته على الأرض والأجساد معا. فبجانب القصف والجحيم العشوائي اليومي والخراب العمراني الذي طال أغلب منشآت ومساكن القطاع، نقلت شبكة "سي إن إن" عن أحد الخبراء السابقين بوزارة الدفاع الأميركية قوله إن "هذا الحجم من القصف لم يحدث منذ حرب فيتنام". وكانت منظمة اليونيسيف قد أكدت "تعرُّض كل طفل في قطاع غزة تقريبا لأحداث وصدمات مؤلمة للغاية، اتسمت بالدمار الواسع النطاق، والهجمات المتواصلة، والنزوح، والنقص الحاد في الضروريات الأساسية مثل الغذاء والماء والدواء".

هناك إذن حالة من احتكار قوة القتل والإعاقة، أو ما يُسمَّى "Necro Power"، بلا حساب أو محاكمة أو حتى إدانة. ولا تزال أصوات الجنوب العالمي تتعالى مدافعة عن حقوق وكرامة الشعب الفلسطيني، وأحد هؤلاء هو المؤرخ وأستاذ السياسة الكاميروني "أشيل إمبيمبي" (Achille Mbembe) الذي يعمل بجامعة "ويتواترسراند" (Witwatersrand) في مدينة جوهانسبرغ بدولة جنوب أفريقيا، وهو أحد الباحثين في نظرية ما بعد الاستعمار، وله السبق في ابتكار مفهوم "النِّكروبوليتيكس" (Necropolitics)، وهو مفهوم لم يجد سبيله إلى الترجمة العربية بعد. وينقسم المصطلح إلى مقطعين هما "Necro" وهو استعارة من علم دراسة الموت تشير إلى التغيرات الفسيولوجية التي تمر بالجسد الميت قبل أو بعد موته، و"Politics" الذي يعنى السياسة كما هو معروف.

يتعمد الاحتلال التقليل من قيمة حياة الموتى، والتطبيع مع موتهم، بل واعتبار القضاء عليهم قيمة جيدة (الأناضول)

ويرجع الفضل لإمبيمبي في صك المفهوم حين استخدمه عام 2003 في دراسته عن ما بعد الاستعمار، التي نشرت لاحقا كتابا مستقلا، ويمكن ترجمة المفهوم إلى "سياسة أو سلطة القتل والإماتة"، وكان إمبيمبي يعني به الأسلحة والتقنيات التي تُستخدم في العالم المعاصر من أجل تحقيق أعلى معدلات لتدمير الناس، ومن ثم إيجاد مساحات أو عوالم مكانية للموت، أي أن المفهوم يشير إلى تعمُّد إيجاد أدوات جديدة لخلق واقع اجتماعي تكون فيه قطاعات واسعة من السكان خاضعة لظروف قهرية تمنحهم صفة "الأحياء الأموات".

يتقارب مفهوم النِّكروبوليتيكس أو سياسة حق الإماتة مع مفهوم السياسة الحيوية عند المفكر الفرنسي فوكو (Bio politics)، الذي استخدمه لتشخيص استعمال القوة الاجتماعية والسياسية من أجل السيطرة على حياة الناس، واستخدام التدخلات الحكومية والأجهزة البيروقراطية لتنظيم حركة وحرية الأجساد. ولكن النِّكروبوليتيكس يُستخدم بشكل مختلف للإشارة إلى كيفية التحكم في المكان والسكان عن طريق الإرهاب، حيث يتم التقليل من قيمة حياة الموتى، والتطبيع مع موتهم، بل واعتبار القضاء عليهم قيمة جيدة.

ويرفض إمبيمبي وجود تشابه بين مفهومه عن النِّكروبوليتيكس ومفهوم السياسة الحيوية عند فوكو، حيث يعتبر أن إسهامات فوكو جزء من تراث الحداثة التي نبذت فكرة العنف المباشر على السكان كما يُفترض ثم لجأت إلى سلطات غير مباشرة لتحقيق هدفها. وقد سكَّ فوكو مفهوم السياسة الحيوية عندما كان منشغلا بالكيفية التي تُنتج بها الأجساد الطيعة (Docile Bodies) بتنظيم الأفراد في ممارسات من المراقبة. ووفقا لمبيمبي، فإن فكرة فوكو عن السلطة الحيوية غير كافية لتفسير الأشكال الحديثة من القهر؛ فهي لا تأخذ في الاعتبار استمرار تقنيات وسياسة احتكار تقرير موت الناس أو حياتهم بطريق العنف الموضوعي، وليس الرمزي فحسب.

ويؤكد إمبيمبي أن العالم الراهن عالم يعاني من انعدام المساواة المتزايد، ومن العسكرة ونزعات العداء والإرهاب، فضلا عن عودة ظهور الاتجاهات العنصرية والفاشية، وكذلك القوى القومية المُصمِّمة على الإقصاء والقتل. ويرى المؤرخ الكاميروني أن الديمقراطية الآن أصبحت تعيش على احتضان جانبها المظلم، أو ما يسميه "جسدها اللَّيْلي" (Nocturnal Body)، الذي يقوم على الرغبات والمخاوف والعنف؛ مما يدفع قوة الاستعمار إلى الأمام في صور جديدة فجّة تُجسِّد غرائز العدوان والقضاء على الآخر باسم المفاهيم الديمقراطية، وهو ما ظهر بجلاء أثناء حرب العراق 2003 وما بعدها من أحداث. وقد أدى هذا التحول إلى تفريغ الديمقراطية من معناها، ومن ثمَّ تآكلت القيم والحقوق والحريات التي طالما أعلت منها الديمقراطية الليبرالية. ونتيجة لذلك، أصبحت الحرب في عصرنا دفاعا عن مفهوم السيادة الذي يعمل على إبادة كل من يُعتبَرون أعداء للدولة في نظر أنصارها أو من ينتمون لها، مثلما يفعل أنصار اليمين المتطرف في الدول الغربية.

 

صفوة القوة والميتافيزيقا العسكرية

تعتمد إسرائيل بوصفها دولة عسكرية لنفسها وأجهزتها بل ولمواطنيها احتكار حق قتل أي فلسطيني (الفرنسية)

يلخص إمبيمبي تلك السياسة بأنها "القدرة على تحديد من تهم حياته، ومن لا تهم حياته، ومن يمكن التخلص منه ومن ينبغي الحفاظ عليه". وبعبارة أخرى فإنه يُسلِّط الضوء على كيف تقوم الحكومات بالمفاضلة في حق الحياة البشرية، فكلما كنت في صف القوة المُهَيمِنة، زادت قيمة حياتك. ويضرب إمبيمبي مثالا بالولايات المتحدة الأميركية، فإذا كنت رجلا مسيحيا أبيضَ وقويا وثريا، فهذه أخبار رائعة بالنسبة لك، لكن كلما ابتعدت عن هذه السمات، قلّت قيمة حياتك، بل أصبح وجودك أحيانا أكثر خطورة. ولم يكن غريبا أن يعاني إمبيمبي نفسه بسبب كت ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي

إقرأ أيضا