"مرحبا بكم في المساحة الرمادية"! هذه جملة اعتدتُ تحيَّةَ طلابي بها، كلما بدأتُ تدريسهم مادة "الأخلاق السياسية"، أو مادة "الأخلاق في العلاقات الدولية". وحين يتساءل الطلاب: "ما هي المساحة الرمادية"؟ أجيبهم بأنها هي منطقة الممارسة السياسية عموما. فالممارسة السياسية الرصينة ليست تعلقا ذهنيا بمثاليات مجرَّدة، بل هي فنُّ تحقيق الممكن عبر بناء المساحات المشتركة، وضمن معادلات الزمان والمكان. فالفعل السياسي لا يتحقق إلا من خلال مساحات مشتركة، مع أبناء الوطن الواحد داخليا، ومع دول وهيئات أجنبية خارجيا. وكثيرا ما يستلزم بناء المساحات المشتركة الغضَّ عن أمور لا تسُرُّ، والتحالف مع مخالف ضد مخالف، والاستعانة بعدوٍّ على عدوٍّ.
ولا ينحصر بناء المساحات السياسية المشتركة في حدود الدين الواحد، أو المذهب الواحد، أو الأيديولوجيا المتفق عليها، لأن ما يحكمه هو منطق "المصالح المرسلة المعتبرة"، بمعناها المطلق في التشريع الإسلامي، الذي لا يتقيد إلا بالضوابط الأخلاقية والمصلحية. وقد سنَّ لنا نبينا صلى الله عليه وسلم سُنَنًا سياسيةً هاديةً في هذا المضمار، حين احتمى بمكانة عمِّه المشرك أبي طالب من سطوة مشركي قريش، وبعث أصحابه لاجئين إلى ملِك الحبشة المسيحي من اضطهاد كفار مكة، واتَّخذ من عبد الله بن أريقط دليلا في هجرته "وكان مشركا على دين قومه" (صحيح البخاري)، ودخل في جوار المشرك المطعم بن عدي احتماءً من مشركي مكة، واستعار السلاح من المشرك صفوان بن أمية فقاتل به مشركي هوازن في حنين، واستخدم الشاعر المشرك معبد بن أبي معبد في الحرب النفسية على جيش المشركين بقيادة أبي سفيان، وحالف قبيلة خزاعة -وهي يومذاك خليط من المسلمين والمشركين- بناءً على صلاتهم التقليدية مع الأسرة الهاشمية في الجاهلية، فكانت خزاعة "عَيْبَة نُصْح لرسول الله بتِهامة مسلمُهم وكافرُهم" (سيرة ابن هشام).
إن بناء المساحات المشتركة مع الآخرين ضرورة لا مناص منها في السياسة العملية، تقسيطًا للجهد المبذول، وتضييقا لساحات المواجهة، وتجنُّبا لقتال الجبهات العريضة. فالعاجز عن بناء المساحات المشتركة ليس له من فقه السياسة العملية نصيبٌ. وقد يصلح واعظا بليغا، أو كاتبا مبدعا، أو شاعرا حالمِاً، أو فيلسوفا غارقا في تجريداته، لكنه لا يصلح ممارسا سياسيا بكل تأكيد، لأن السياسة العملية تحتاج إلى ما دعاه المفكر الجزائري مالك بن نبي "المنطق العملي."
إن النجاح في السياسة العملية، وما تستلزمه من بناء المساحات المشتركة مع الآخرين، يستلزم أمورا ثلاثة:
وأصعب ما يكون بناء المساحات المشتركة حين تتعدَّد الثغور، وتتداخل الجبهات، كما هو حالنا اليوم، حيث أصبح جسد الأمة كلها مثخنا بالجراح، حتى تكسَّرت النِّصال على النِّصال. وفي هذا النمط من السياقات قد يصبح نصيرُ ك هو الذي يذبح أخاك من الوريد إلى الوريد، ونصيره هو الذي يذبحك من الوريد إلى الوريد. وهنا تلتَبِس السبل على السائرين، ممن يبحثون عن الأجوبة السهلة للأسئلة الصعبة، وتختلط المسائل المركَّبة على العقول البسيطة التي لا تحسن التعامل مع المساحات الرمادية.
لم يعرف تاريخ الثورات المعاصرة ثورة منزَّهة عن الدعم الخارجي، منذ الثورة الأميركية التي اندلعت عام 1776، ودعمتها فرنسا الملَكية، نكاية في الإمبراطورية البريطانية التي استنزفت فرنسا في حرب الأعوام السبعة (1756-1763) قبل ذلك بسنين معدودة. ومن المعلوم من التاريخ بالضرورة أن مَلِك فرنسا المستبد لويس السادس عشر (1754-1793) لم يدعم الثورة الأميركية اقتناعا بقيَمها الجمهورية، فقد كان من أعظم ملوك أوروبا استبدادا وفسادا. لكن الآثار أهم من المقاصد في العمل السياسي، وما كان يهم الثوار الأميركيين هو آثار الدعم الفرنسي، لا مقاصد الملك الفرنسي.
إن الثوار الذين يملكون ذكاء سياقيًّا، وحاسَّة استراتيجية، ووعيا بالبيئة المحيطة، يستطيعون التعامل مع الدعم الخارجي بحكمة وواقعية، بغضِّ النظر عن مقاصد الداعمين، بعيداً عن المزايدات والمثاليات الحالمة المتعالية على الدعم الخارجي الذي لا غنى عنه لأي ثورة، ودون الوقوع في شراك الداعمين وأهدافهم البعيدة عن أهداف الثورة. فالعلاقة بين الثوار وداعميهم الدوليين هي أشبه ما تكون بقطع مسافة من الطريق مع رفيق له وجهته النهائية، ولك وجهتك النهائية. على أن اختلاف الوجهة لا يمنع أيا منكما من حسْن الصُّحبة مع رفيق الطريق، مستصحبا الحذر من أن يسحبه صاحبه -بلطْف الرُّفقة وحلْو الحديث- إلى وِجْهةٍ غير وِجْهته، في لحظة استغفال لم يحسب لها حسابا. ولعل أبلغ من عبَّر عن تعقيد هذه العلاقة التي تنشأ على قارعة الطريق هو الشاعر الفيلسوف محمد إقبال إذ قال:
أرافقُ في طريقي كل ســـارٍ وأعطيه نصيباً من طريقي
ولمْ أرَ في طريقٍ مستعـــداًّ يكون على نهايته رفيقي
فالداعم الخارجي للثورات وحركات التحرر الوطني لا يدعمها -في غالب الأحيان- إيمانًا واحتسابًا، وإنما لتحقيق مصالح له، تتلاقَى تلاقيًا ظرفيًّا مع مصلحة الثوار، وقد تكون غاياته البعيدة نقيض ما يسعى إليه الثوار، وأكثر ما يكون دافعه هو النكاية في خصومه لا الرغبة في انتصار الثوار:
وكثيرا ما تحْدُث القطيعة بين الثوار وداعميهم الخارجيين إذا تحققت أهداف الداعم قبل تحقُّق أهداف المدعوم. بل قد يكون الداعم الخارجي أحيانا معاديا لأهداف الثورة التي يدعهما، ولا يمنعه ذلك من دعمها مؤقتا نكاية في خصومه، مع السعي الخفيِّ إلى تدمير الثورة ذاتها من الداخل. فالدعم المالي والعسكري الخارجي من أشدِّ الوسائل فعالية للتحكم في مسارات الثورات، وتخريبها من الداخل. وهذا أسلوب خبيث برعت فيه القوى الدولية الغربية في تعاملها مع الثورات وقوى التحرير الوطني، بينما كانت القوى الدولية الشرقية أقلَّ نفاقا وازدواجية في هذا المضمار.
فحينما تحققت الأهداف الأميركية في أفغانستان، من انسحاب الجيش السوفييتي مدحورا، وبداية تفكك تلك الإمبراطورية السوفييتية، انقلبت أميركا على المجاهدين الأفغان، وطاردت حلفاءهم من الأفغان العرب في كل مكان، وصنَّفتهم ضمن الجماعات الإرهابية. وحينما تحققت الأهداف الأميركية في سوريا، فتهشَّمت الدولة السورية، وخرجت من معادلة المواجهة مع إسرائيل، وتفكَّك تنظيم الدولة، وأصبح في خبر كان، تخلَّى الأميركان والتابعون لهم بإحسان عن دعم الثوار السوريين، وتركوا الشعب السوري منكشفا أمام الهمجية الأسدية.
بل إن بعض الحكام العرب الذين دعموا الثوار السوريين بالمال والسلاح سابقا تحت المظلة الأميركية اتجهوا في الأعوام الأخيرة إلى إعادة تأهيل بشار الأسد، وردّ الاعتبار لسلطته الغاشمة، من خلال دعوته لقمم الجامعة العربية. فبرهنوا بهذا أنهم لا يملكون قرارهم الاستراتيجي، وأنهم طوعَ الأيدي الأميركية، في تطبيق النظرية الأميركية الجهنَّمية: " لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي