كافكا الآخر في مئويته.. كيف تشكلت سمعته من معطف الحرب الباردة؟

تشكلت سمعة الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1833- 1924) بعد رحيله قبل 100 عام بالظبط، لكن انفجارها حول العالم جاء بالتزامن مع الحرب الباردة. وكانت هناك حشود من المجازات والتأويلات المتناقضة، ساهمت في إضفاء هالة حوله، ملتصقة بظواهر سياسية مأساوية تمارسها الأنظمة الشمولية. تُرى كيف أصبحت ظاهرة كافكا راسخة في الأدب العالمي؟

لا شك أن صاحب "المحاكمة" ابتكر عوالم سردية جديدة، لا تشترط فيها الوقائع أي نوع من الإيضاح، أو التبرير. لكن عوامل عديدة كان لها دور في تصدره المشهد الأدبي العالمي، على صلة بتحولات سياسية، بالإضافة إلى ممارسات ثقافية.

بدأت ظاهرة الجنون بكافكا في الولايات المتحدة، ومنها انتقلت إلى العالم منذ خمسينيات القرن الفائت. أي بعد أن أصبح الكاتب التشيكي، الذي يكتب بالألمانية، يحظى بإجماع في الأوساط الثقافية والنقدية الأميركية. وفي مرحلةِ ما كانت الحرب الباردة تشهد تصاعدا بين الأميركيين والسوفييت، وتفرض قواعدها على رقعة العالم. بينما كافكا المولود في براغ، عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا أثناء الحرب الباردة، شكل نقطة محورية على حدود عالمين متصارعين؛ الغرب والشرق.

وفي فترة الحرب الباردة، بحسب الكاتب الأميركي براين ك. غودمان، كان بإمكان كتابات كافكا "تزويد الكتاب الأميركيين بمفردات أدبية لتخيل الحياة خلف الستار الحديدي".

غير أن ولادة الظاهرة الكافكاوية، تمتد جذورها إلى فترة ما بين الحربين العالميتين. وهي الفترة التي بدأت كتاباته فيها بالظهور، وأصبحت محط تفسيرات لا تتوقف. لكن اليسار المنقسم في أوروبا أنتج صورة أولية لن تبارح كتاباته، بوصفه كاتبا منشقًّا عن كل الأنظمة والأنساق. صورة ستختمر في الولايات المتحدة وتعيد تشكيله على رأس هرم الأدب العالمي.


مصدر الصورة
القبو الأثري ملجأ كافكا في المدينة القديمة بالقرب من مكان ولادة كافكا (الجزيرة)

مشهد خلفي

امتازت كتابات كافكا بشكل من التعبير الذاتي، منشغلة بمصائر مسلوبة الإرادة، ومدفوعة بقوة غاصبة، غير مرئية. يمكن لها أن تتخذ رمزيات متعددة، على غرار ما يمثله الجهاز البيروقراطي. أو ذلك الامتثال لروتين، كما هو حال الضابط المتوحد بآلة العقاب، لتصبح جزءًا ملتصقًا به، تستدعيها رواية "في مستوطنة العقاب".

تمكن قراءة خلفية واسعة لتشكل ظاهرة كافكا، تقف عليها علامات متصلة بمتغيرات اجتماعية وسياسية أوروبية. ويمكن الغوص بعيدا بالعودة إلى أواخر القرن الـ19، وما شهدته من توجهات القوى الأوروبية الكبرى للاستيلاء على البلدان العربية.

بالطبع لم يكن لها تأثير مباشر في تشكيل سمعة كافكا، لكنها مهدت مشهدا واسعا على صعيد التحول في قواعد الهيمنة للقوى الكُبرى، وما أفرزته من تفاعلات مع ظواهرها العامة التي ألقت بشظاياها على الأدب.

التحول من "شارلوك" إلى "دونالد بلوم" عبر الطريق إلى فلسطين

مثلت فلسطين نقطة محورية في تطلعات القوى الاستعمارية الأوروبية منذ فترة مُبكرة من القرن الـ19. بدأها الفرنسي نابليون بونابرت، وفرضت مصيرها حتى اليوم بريطانيا.

شكلت تلك منطلقا لتأثيرات واسعة على المخيال الأدبي في أوروبا. ولا يعني أن الممارسات الأدبية أذعنت للتوجهات السياسية، إنما على العكس ظلت مُستقلة كُلِّيا، لكنها تفاعلت بشكل غير مُباشر مع الظواهر السياسية.

وهو السياق الذي تبدلت معه شخصية اليهودي تدريجيَّا في الأدب والمخيال الأوروبي من القسوة إلى اللين، ومن الازدراء إلى التقدير. أي مسار التحول في الصورة النمطية التي جسدتها شخصية "شارلوك" في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"، ووصمها بصفات وضيعة، مثل الجُبن والجشع، والتعميم المُجحف بعناصر شريرة مثل اللؤم والحقد. وصولًا إلى أن أصبحت شخصية تدور حولها عناصر البطولة مثل النُبل والطيبة والتفاني والشجاعة على غرار شخصية "دونالد بلوم" في رواية جيمس جويس "أوليس".

بدأ هذا التبدل على نطاق محدود في الأدب الإنجليزي، منذ مطلع القرن الـ19. وكانت رواية السير والتر سكوت "إيفينيو" أبرز مثالٍ على ذلك. عدا أن هذا التحول اقتصر على التعاطف، دون ان يستأصل عناصرها الراسخة في المخيال الأوروبي.

جسدت رواية "دانيال ديروندا" للكاتبة الإنجليزية جورج أليوت، أول اختراق للأدب النخبوي الأوروبي في تجسيم شخصية اليهودي ضمن عناصر بطولية تتصف بالنبل. صدرت الرواية عام 1876، وكانت آخر أعمال أليوت، لكنها فشلت على الصعيد النقدي، حيث اُعتبرت مُغرقة بالتقريرية والمباشرة.

تزامنت تلك التحولات، وكما أسلفنا الذكر دون توجيه مقصود، مع متغيرات سياسية. ففي مطلع القرن قدمت عائلة روتشيلد اليهودية دعمًا للقوات البريطانية في حربها ضد نابليون. ومع هزيمة الأخير، تبنت بريطانيا فكرته بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي عام 1975، اقترضت الحكومة البريطانية من آل روتشيلد 4 ملايين جنيه إسترليني لشراء الحصة الرئيسية من قناة السويس. ولعب رئيس الحكومة البريطانية بنيامين درزائيلي (1874- 1880)، ذو الجذور اليهودية، دورًا مهما في ذلك.

يبلغ هذا التحول في المخيال الأوروبي ذروته، في رواية "أوليس" للأيرلندي جيمس جويس. وخلافا لرواية أليوت، حازت رواية "أوليس" تقدير واحتفال النخب الثقافية الغربية على نطاق واسع.

ازدواج بصري: أن تكون مرئيًا عبر إخفاء الآخر

نُشرت أولى حلقات الرواية في مجلة "ذا ليتل ريفيو" الأميركية في مارس 1918. أي بعد عدة شهور على إطلاق وعد بلفور، أواخر عام 1917، لمنح اليهود وطنا قوميًّا في فلسطين.

بحسب الأديب الفلسطيني حسن حميد، تمثلت في شخصية "بلوم" بطل جويس اليهودي، صفات أوليس الإغريقي، من البطولة والصلابة والنجاح، أي بوصفه "أوليس العصر الحديث". لافتًا إلى أنها سبب في ما حازته من رواج لدى النُّخب الأدبية الغربية.

لكن من غير الممكن التوافق مع هذا الرأي، فهناك عوامل أخرى على صلة بأسلوب جويس، وتقنياته السردية الثورية، وبصورة جعلت منها أحد أكثر الأعمال تعقيدًا وصعوبة.

بورتريه لفرانز كافكا عام 1923 (غيتي)

فرحلة بلوم، الممتدة خلال يوم، شكل من التيه الذي يستعيد فيه تيه أسلافه. وإن ظلت حبيسة "دبلن" العاصمة الأيرلندية، بحيث لا تبلغ أرض الميعاد. لكن جويس يستحضرها على لسان بطله بوصفها؛ "أرض يباب ميتة، أنجبت فقط الأوائل، الذين يولدون في كل مكان هائمين من أسر إلى أسر".

هكذا، يتماهى خطاب جويس، مع جوهر المزاعم الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، والمطالبة بحق اليهود في أرض فلسطين. وهذا الخطاب مازال سائدًا في تعامل السياسة الغربية مع الفلسطينيين، بوصفهم غير مرئيين.

لا شك أن صاحب "أوليس" لم يُذعن لموجهات سياسية، لكنه دون قصد، تفاعل مع ظواهرها السائدة آنذاك. والأرجح أنه حاول التجاوب مع تداعيات المونولوج الداخلي لبطله المسكون بأرض الميعاد، فسقط دون وعي في شرك الخطاب السياسي.

ثالوث أدبي.. أحدهم كافكا العابر للمحيط

كانت رواية "أوليس" على غرار رواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود" تفصح عن تحولات اجتماعية واسعة ستشهدها أوروبا. هكذا يضفي أيضًا بروست على شخصية "سوان" اليهودي صورة نبيلة، لم يخفِ تعاطفه معها. لكنه لم يتقاطع ضمن المشهد السياسي.

على صعيد واسع، رسخت لاحقا الكتابات النقدية، رمزيات أدبية للسرد الروائي في القرن الـ20. وهكذا أصبح بروست وجويس وكافكا، الثالوث الأدبي الأبرز. مع أن هناك عوامل وظروفا مختلفة، ساهمت في إنتاج كل كاتب منهم على حدة.

فبينما كانت سمعة بروست وجويس راسخة في أوروبا، كانت سمعة كافكا تنمو في الأربعينيات، داخل الولايات المتحدة. وفي وقت كانت هذه قادرة على إرسال حاملات طائراتها وأساطيلها عبر البحار، كقوة عظمى، حملت كافكا إلى أوروبا والعالم، بوصفه اكتشافها المُبهر.

لكن هذا المسار الألمعي، اتخذ عدة تحولات مُثيرة. بدأت مع تفسيرات صديقه ماكس برود، والوصي على تراثه الأدبي. لم يكتفِ بتصوير كتاباته ضمن سياق علاقة دينية خالصة، تشكل فعل الخلاص، إنما حاول أن يجعل كافكا بوقًا للحركة الصهيونية.

خلافًا لذلك، كان كافكا واضحا في إحدى رسائله لحبيبته فيليس، مفصحا عن نفوره من الشخصيات المُرتبطة بالصهيونية، وبأفكار الحركة. ويمكن الجزم أن كتاباته لم تلتصق مع توجهات الحركة. إنما هي أقرب إلى أن تكون أكثر التصاقا بمعضلة الوجود الإنساني، وما يعانيه من اغتراب واستلاب عبثي توجهه مُحركات عُليا.

كما أن كتاباته السردية لم تتطرق لموضوع فلسطين، باستثناء قصة هامشية بعنوان "بنات آوى والعرب". وهي قصة رمزية عن حلم "العودة المقدسة" لأرض الميعاد، بمساعدة الرجل الأبيض. وهو عمل عادي، لا يمكن أن يُستشف منه موقف واضح لكافكا حول حُلم العودة، بسبب غموضها. لكنه لم يخفِ تشاؤمه إزاء تحقق ذلك، دون أن يعني ذلك رفضه التام للفكرة. فهل كان قصده من "بنات آوى" وصف أعضاء الحركة الصهيونية؟

ماكس برود أو بولس الرسول

يدين العالم في التعرف على أدب كافكا إلى صديقه برود. لكن هذا الأخير، مارس شكلا من السلطة على أعماله، دون الاكتفاء بحق الوصاية، إنما بإعادة تفسير كافكا وتحديد ملامحه. مُسبِغًا عليه صفة "القديس الغامض"، وما تضفيه من هالة "غنوصية".

أكد برود أنه كرس سنوات طويلة من أجل أعمال كافكا. لكن إخلاصه وإن كان مثيرًا للإعجاب، لم يكن منزَّها عن دوافع ذاتية.

فصفة القداسة التي أحاط بها صديقه، لم تكن مجردة كُلِّيا، إذ استعار منها لنفسه. ويبدو أن برود، ارتدى ثوب الرسول "بولس"، الذي نشر الدين المسيحي حول العالم، بينما برود كرس نفسه لتعريف العالم بكتابات صديقه، عبر نشرها. لكن تفسيراته فقدت أهميتها مُبكرًا.

بالطبع، لم يكن برود واعيًا لهذا الدور، لكنه انساق لممارسات متجذرة ضمن موروثه الثقافي. وهي ممارسات تتقاطع مع جذور أوروبا المسيحية، بما تستحضره من مسحة تطهرية، تشكلت خلفيتها ضمن علامات واسعة من القمع والتنكيل، في مشهد بلغت ذروته لاحقا على خلفية جرائم الإبادة النازية "الهولوكوست"؛ المشهد المُثير للتعاطف، على غرار ما تنسجه مصائر شخصيات كافكا.

في عام 1939، استولى الجيش النازي على براغ. وسارع ماكس برود إلى الفرار مع زوجته نحو فلسطين، مصطحبًا معه مخطوطات كافكا. وبالتالي أنقذها من محارق النازيين. كما سبق له أن أنقذها من وصية صديقه بإحراقها. وربما كانت الوصية قصة اخترعها برود، يضفي من خلالها أهمية لما قام به من خيانة، على صلة بالأثر العميق لتلك الأعمال. ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي

إقرأ أيضا