يطرح السودان إمكانية تغيير مجرى نهر النيل الأبيض بعد آلاف السنين، وهو سؤال يعود للواجهة مع كل فيضان يضرب البلاد، ومع كل تدفق غير متوقع من سد النهضة الإثيوبي. وبينما يظل النيل، بشقيه الأبيض والأزرق، شريان الحياة وركيزة الاقتصاد، يطفو على السطح مشروع ضخم قد يعيد رسم خريطة المياه والزراعة في السودان.. تحويل مجرى النيل الأبيض عبر قناة تمتد مئات الكيلومترات من جنوب الخرطوم حتى شمال البلاد.
يعود المقترح إلى دراسات أجريت خلال الحقبة الاستعمارية وما بعدها، حيث بحث مهندسون بريطانيون في إمكانية تقليص فاقد المياه في أعالي النيل. وعاد المشروع إلى دائرة النقاش على يد المهندس السوداني عثمان حيدر، الذي طرحه مجدداً قبل سنوات في تصور هندسي متكامل.
وأظهرت الأبحاث الجيولوجية أن مجاري طبيعية قديمة مثل وادي المقدم ووادي الملك ووادي هور كانت تمثل في عصور غابرة مسارات رئيسية للنهر، قبل أن تتحول إلى أودية موسمية بفعل التغيرات المناخية. وتسعى الجهود الحالية إلى إحياء هذا الإرث البحثي في ظل ظروف مائية أكثر تعقيداً.
وفق رؤية المهندس عثمان حيدر، يقوم المشروع على شق قناة تبدأ من خزان جبل أولياء، على مسافة 50 كيلومتراً جنوب الخرطوم، وتمتد شمالاً حتى مدينة الدبة على بُعد 330 كيلومتراً شمال الخرطوم، مروراً بسهول شاسعة يمكن ربطها بالدلتات القديمة. سيصبح مقرن النيلين في الدبة بدلاً عن الخرطوم.
ويقلّص هذا التحويل، وفق التصورات الفنية، مجرى النيل الأبيض من 1700 كيلومتر إلى نحو 470 كيلومتراً فقط، مما يخفّض الفاقد المائي الناتج عن التبخر والتسرب. يتيح التحويل أراضي زراعية جديدة تقدر بمليوني فدان، وهي مساحة تضاهي مشروع الجزيرة من حيث الامتداد والإمكانات الإنتاجية.
لا يقتصر المشروع على تقليل الفيضانات، بل يتعداه إلى إعادة تشكيل الخريطة الزراعية للسودان. تُعتبر المساحات الجديدة فرصة لتوسيع الرقعة المزروعة بالحبوب والقطن والمحاصيل النقدية، مما يعزز الأمن الغذائي ويمنح السودان موقعاً متقدماً في معادلة الأمن الغذائي الإقليمي. يطرح المشروع أيضاً تصوراً لإعادة تخطيط الخرطوم بعيداً عن المخاطر المائية التي تكررت على مدى العقود الماضية.
وفي حديث لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت"، استبعد وزير الري السوداني الأسبق الدكتور عثمان التوم جدوى المشروع، قائلاً: "لا أظن له جدوى من نواحٍ كثيرة. إذا قامت الآلية المشتركة بين السودان وإثيوبيا لتشرف على تنظيم تشغيل منظومة النيل من الهضبة الإثيوبية حتى دنقلا، تنتفي احتمالية الفيضانات في السودان".
وفي السياق ذاته، عبّر الخبير البيئي الدكتور الفاتح يس عن رفضه القاطع لفكرة تحويل مجرى النيل الأبيض، قائلاً: "أنا شخصياً أرفض أي تدخل بشري في الطبيعة والموارد المائية، فكيف إذا كان هذا التدخل يستهدف نهر النيل، بما له من دور عظيم في النظام الهيدرولوجي والبيئي. مشكلتنا الأساسية ليست في النيل الأبيض، بل في النيل الأزرق وتدفقات سد النهضة الإثيوبي. فإذا كانت هناك معالجة، فمن الطبيعي أن تكون في مجرى النيل الأزرق لا في غيره".
وأضاف أن النيل الأزرق أصبح في حاجة ماسة إلى مواعين إضافية للتخزين، موضحاً أن "سد الروصيرص أثبت أنه غير قادر على تحمل التدفقات القادمة من سد النهضة، ولا أعتقد أن هيكل السد يحتمل تعلية جديدة".
واتهم الدراسة المتداولة بأنها "مدعومة من جهات معادية للسودان وتهدف إلى زعزعة الرأي الفني والهندسي داخلياً، خاصة وأن توقيت إعادة طرحها يثير الريبة، إذ يبدو أنه يرمي إلى صرف الأنظار عن المخاطر الحقيقية المرتبطة بسد النهضة والتي ظهرت بوضوح في التدفقات غير المسبوقة على مجرى النيل الأزرق". وختم بقوله إن "المقترح يضج بالسلبيات ولا يرى فيه أي جوانب إيجابية".
يتزامن الحديث عن تحويل مجرى النيل الأبيض مع نقاشات إقليمية محتدمة حول مستقبل النيل الأزرق وسد النهضة، الذي غيّر موازين المياه في المنطقة. وفي حين يواجه السودان ضغوطاً متزايدة نتيجة الفيضانات وتذبذب التدفقات، تبقى إدارة الموارد المائية أولوية وجودية. ولعل طرح مشروع بهذا الحجم يعكس إدراكاً متنامياً بأن الحلول التقليدية لم تعد كافية لمواجهة المخاطر الجديدة.
وبينما يقف السودان على مفترق طرق مائي خطير، يتأرجح مشروع تحويل مجرى النيل الأبيض بين كونه حلّاً هندسياً جريئاً قد يعيد رسم خريطة البلاد الزراعية، وبين كونه مغامرة بيئية قد تفتح أبواباً لأزمات أعقد. غير أن الثابت هو أن قضية المياه لم تعد خياراً ثانوياً، بل معركة وجودية تمس حاضر السودان ومستقبله. فإما أن ينجح في صياغة رؤية متوازنة تجمع بين التنمية والحفاظ على البيئة، أو يظل رهينة لتقلبات النيل وضغوط الجغرافيا والسياسة.