في عمق الفكر والمعنى، تنبت الحكمة عند العقلاء الأتقياء، حيث يكون الميزان أخلاقيًا قبل أن يكون اجتماعيًا. غير أنّ هذا الميزان، في كثير من مشاهد حياتنا العربية، اختلّ بصورة مقلقة، حتى بات المديح يُمنح لغير أهله، والنقد يُقصى، والصدق يُرهق أصحابه...
لم يعد غريبًا أن يُنعَت شخصٌ بالقائد وهو يعلم في قرارة نفسه أنه لا يستحق اللقب، أو أن يُشاد بمديرٍ لم يبلغ الحدّ الأدنى من الكفاءة، أو أن تُرفَع هالة النجاح عن أصحاب ثروات لم تُبنَ بجهد ولا أُديرت بحكمة. هذه الممارسات لا تعبّر عن تقدير، بل عن نفاق اجتماعي منظّم، تغذّيه المصالح والخوف والبحث عن
"الإسقاط السياسي المباشر"
*******
سياسيًا، يتجلّى هذا النفاق في مشهدٍ مألوف: قيادات تُعاد تدويرها رغم فشلها، وخطابات تُسوَّق على أنها إنجازات، فيما الواقع يزداد تراجعًا. تُصنَع الزعامات بالكلمات لا بالأفعال، وتُحصَّن من المساءلة بسياجٍ من المديح الإعلامي والولاءات الحزبية. وهكذا، يتحوّل النقد إلى“خيانة”، والمعارضة إلى “تشويش”، ويُغلق الباب أمام أي إصلاح حقيقي...
إن أخطر ما في هذا المشهد أنّه يُنتج حلقة مفرغة: سلطة بلا محاسبة، ونخبًا سياسية تعيش على الخطاب لا على النتائج، وجمهورًا يُطالَب بالتصفيق بدل السؤال. ومع الزمن، تفقد السياسة معناها الأخلاقي، وتتحوّل من خدمة عامة إلى إدارة مصالح ضيّقة...
تكمن خطورة هذه الظاهرة في أنّها لاتسيء إلى الحقيقة فحسب، بل تُدمّر البنية الأخلاقية للمجتمع.. حين يُكافَأ الوهم، تُدفن الكفاءات الصادقة، ويُصاب الوعي الجمعي بالإنهاك، ويصبح الفشل حالةً مُعاد إنتاجها لا استثناءً طارئًا...ومع ذلك، لا يمكن القول إن جميع مجتمعاتنا العربية واحدة في هذا الداء، لكنه يتفشّى حيث تضعف المؤسسات، ويغيب الفصل بين الولاء والكفاءة، وتُدار السياسة بمنطق الأشخاص لا بمنطق البرامج...
الخروج من هذا المأزق يبدأ بإعادة الاعتبار للمساءلة، وربط المواقع العامةبالاستحقاق، وكسر قدسية المناصب، وإحياء ثقافة نقدٍ واعٍ لا يُصفّق ولا يُخوَّن...
"خاتمة شعرية"
""""""""""""""""""
لا تصنعوا القادةَ من صدى الكلام، فالزعامةُ فعلٌ ،لا نشرةُ مديح... من لم يحتمل سؤالَ الشعب لا يستحقُّ مقعد القرار، ومن خاف الحقيقة لن يقود طريق الخلاص..
مرعي حيادري
المصدر:
كل العرب