في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
الناصرة لم تكن، مساء أمس، مجرّد مدينة تستضيف عرضًا كوميديًا عابرًا. كانت فضاءً مكثّفًا لمعنى أوسع: صراع على الحق في الظهور، وعلى حق الفلسطيني في أن يروي ذاته، وأن يفعل ذلك بصوتٍ عالٍ، وبضحكةٍ علنية، وبلغة لا تطلب الإذن.
في البلدة القديمة، حيث ما زالت الجغرافيا تتذكّر أسماءها رغم كل محاولات التبديل، احتضن مقهى “ليوان” الثقافي ثلاث عروض متتالية للكوميدي الفلسطيني الأمريكي عامر زهر، الذي وصل من الولايات المتحدة ضمن جولة قصيرة للبلاد، وقدّم عروضًا “ممتلئة” بالحضور، بحسب وصف القائمين على المكان. غير أنّ هذه الفعالية، التي كان ينبغي أن تُقرأ في سياقها الثقافي الطبيعي، تحوّلت إلى مشهد سياسي مكتمل الأركان، بعدما تدخلت الشرطة، وشرعت بسلسلة استدعاءات وتحقيقات، طالت صاحب المقهى أولًا ثم الفنان نفسه، تحت ذرائع “المساءلة والتوضيحات”، فيما بدا الهدف الفعلي: عرقلة العرض وتبريد أثره، واحتواء رمزيته، وإرسال رسالة بأن الحيز الثقافي الفلسطيني ليس خارج شروط الرقابة السياسية.
استدعاء صاحب المقهى: أسئلة عن “من هو عامر” لا عن شروط السلامة
سامي الجبالي، صاحب مقهى “ليوان”، قال لموقع “بكرا” إن الشرطة وصلت قبيل العرض الأول واستدعته للتحقيق، وأن طبيعة الأسئلة داخل المركز لم تتصل بأي شبهة جنائية أو تنظيمية، بل بدت أقرب إلى “استجواب سياسي” حول هوية الفنان ومضمون ما يقدمه.
وبحسب روايته، طُرحت عليه أسئلة من قبيل: من هو عامر زهر؟ ماذا سيفعل هنا؟ ما مضمون العرض؟ وهل يحمل ما يمكن اعتباره “تحريضًا”؟ وهي أسئلة لا تتعامل مع العرض بوصفه حدثًا فنيًا، بل كمساحة محتملة لخرق “النظام الرمزي” الذي تسعى السلطة إلى فرضه على المجال العام للفلسطينيين في الداخل.
استدعاء الفنان نفسه: التحقيق كأداة تعطيل
لاحقًا، ومع بدء العرض الأول، سحبت الشرطة عامر زهر إلى مركزها للتحقيق، مدعية أن الأمر يندرج ضمن “التوضيحات”، لكنّ توقيت الاستدعاء ووقعه على سير الفعالية جعلاه يظهر كخطوة وظيفتها التعطيل أكثر من أي غاية قانونية.
ورغم ذلك، عاد زهر إلى المقهى واستكمل العرض، وتتابعت العروض الثلاثة مع تأخيرات محدودة. الحضور، الذي كان قد ملأ المكان، انتظر عودته، وبقي في موقعه، وهو ما حوّل الانتظار ذاته إلى فعل جماعي: جمهور لا يكتفي بالمشاهدة، بل يتحوّل إلى حامل للحدث، وإلى شريك في تثبيت الحق في الاستمرار.
“النجاح هو الرد”: عامر زهر يقرأ المشهد من موقع الممارسة لا الضحية
زهر، الذي تعامل مع ما جرى بوصفه تفصيلًا على هامش ما اعتبره “نجاحًا ساحقًا” للعروض، قال لموقع “بكرا” إن أكثر ما يعنيه هو تفاعل الجمهور، وإن عروض الناصرة كانت مكتملة الحجز، بما يدل على حاجة الناس إلى الفرح والفن حتى في أكثر الظروف ثقلًا.
ما يقوله زهر هنا ليس مجاملة لجمهورٍ صفق له. إنه تعريف للمشهد: حين يصبح الضحك فعلًا اجتماعيًا، تتحول الشرطة، مهما بلغت قدرتها على الإرباك، إلى عنصر ثانوي أمام الجمهور الذي يقرر أن يواصل.
عرضٌ عن الهوية: حين تتحول الكوميديا إلى شكل من أشكال السرد الفلسطيني
في عرضه، نقل زهر الحضور من طفولته كفلسطيني مهاجر إلى حضوره اليوم كفنان وناشط في المجال العام الأمريكي، لكنه لم يقدّم ذلك كحكاية شخصية فردية، بل كطريق لفهم الهوية الفلسطينية بوصفها تركيبًا تاريخيًا وسياسيًا وعاطفيًا.
تناول رموزًا فلسطينية متداولة في الحياة اليومية، من اللغة إلى الجغرافيا إلى العلامات الثقافية، وعاد إلى العائلة بوصفها وحدةً تُنتج الهوية وتعيد إنتاجها، في سياق انقسامها الديني وتماسكها الوطني. واستعاد، عبر خيط ساخر وتعليمي في الوقت نفسه، النكبة واللجوء والحنين، ليس بوصفها “سردية جاهزة”، بل كخبرة عائلية مشتركة تتكرر مع كل بيت فلسطيني، وتظل حاضرة حتى حين تتخذ شكل المزحة.
شهادات: الجمهور يثبت والحدث يتجاوز العرقلة
الصحافي ينال جبارين، الذي حضر العرض الثاني، قال لموقع "بكرا" إن ما أثار إعجابه هو ثبات الجمهور وحماسه للبقاء، وقلقه على زهر أثناء استدعائه، ثم التصفيق الكبير عند عودته. وأضاف أن العرض كان باللغة الإنجليزية، ورغم ذلك نجح زهر في إيصال رسالة فنية فلسطينية عربية بشكل سلس، وإبقاء الجمهور متفاعلًا “بين فقرة ضحك وأخرى”، مع إدخال رسائل مباشرة عن الصمود باعتباره معنىً يوميًا لا شعارًا.
أما الصحافية نوعا برونشطاين، التي شاركت في العرض، فقالت لـ "بكرا" إن ما شاهدته هو “الرواية التي لطالما سمعت عنها”، لكنها لامست حقيقتها هذه المرة من خلال ما قدّمه زهر، في إشارة إلى أن العمل الفني لم يكتفِ بشرح القضية، بل جعلها محسوسة في جسد الحكاية، وفي تفاعل الناس معها.
ما الذي تعنيه هذه الحادثة؟
ليست هذه الواقعة حادثة أمنية منفصلة عن سياقها. إنها مثال واضح على كيفية إدارة الدولة لحيز الفلسطينيين في الداخل: السماح المشروط، والضبط الدائم، وإبقاء الثقافة تحت سقف “المقبول”، ليس عبر قرار رسمي معلن، بل عبر أدوات يومية تبدو إجرائية: استدعاء، تحقيق، تعطيل، إرباك، وتقديم الرسالة للجميع دون تصريح.
في المقابل، بدا أن الجمهور في الناصرة أعاد تعريف المشهد: لا بوصفه أزمة، بل بوصفه اختبارًا للقدرة على الاستمرار، وقد نجح فيه. فالعروض الثلاثة اكتملت، والضحك لم يتوقف، والحدث خرج من يد من أراد محاصرته إلى يد من قرر حمله.
بدوره، ابن الناصرة وعكا، عامر زهر يواصل جولته في مدن أخرى، وقريبًا في حيفا، ومقهى “ليوان” يقول، بالفعل لا بالشعار، إن البلدة القديمة ليست ديكورًا سياحيًا، بل مساحة ثقافية تتشكل فيها السياسة من جديد، عبر الفن، وعبر الحضور، وعبر جماعة ترفض أن تُعرّف حياتها فقط بما يُفرض عليها.
المصدر:
بكرا