آخر الأخبار

أنا الأرضُ والأرضُ أنتِ: الهوية وعلاقتها بأزمة السكن في المجتمع العربي

شارك
flash90

"لا توجد لدينا حديقة عامة أو ملعب قريب، وأحيانًا لا يكون أمامي خيار سوى أن آخذ أطفالي إلى مدينة أخرى كي يلعبوا. ولكن لا أستطيع فعل ذلك دائمًا. بين العمل، والبيت، وتكاليف الحياة، يتطلب هذا المشوار وقتًا وجهدًا وطاقة إضافية. لذلك، تجدهم في أغلب الأيام داخل المنزل، أمام التلفاز أو الهاتف المحمول، وأشعر عندها بالذنب. فكل أم تحب أن ترى أطفالها يركضون ويلعبون في الهواء الطلق، لا أن يكونوا محاصرين بين الجدران طوال الوقت لان الشارع خطير"- تقول ليلى، أم لطفلين من بلدة عربية في الجليل.

تعكس شهادتها واقعًا واسع الانتشار بين آلاف الأسر العربية في الداخل، حيث تتفاقم أزمة السكن والاكتظاظ، في ظل محدودية الأراضي، وأزمة المصادرة، وعدم توسيع المسطحات. لكن السؤال الذي يثيره هذا التقرير هو: كيف يترك هذا الواقع أثرًا نفسيًا واجتماعيًا على المواطنين الفلسطينيين في الداخل؟

مصادرة ما يقارب 61% من أراضي البلدات العربية بعد قيام إسرائيل

هذا الواقع له جذور تاريخية تعود إلى عام 1948، حيث تمت مصادرة ما يقارب 61% من أراضي البلدات العربية بعد قيام إسرائيل، فلم يتبقَ للمواطنين العرب سوى 3.5% فقط من مجمل الأراضي كملكية خاصة. تمت هذه المصادرات الواسعة اعتمادًا على مجموعة من القوانين التي شرعنت الاستيلاء على الأراضي، مما أدى إلى نقص حاد في الأراضي المخصصة للبناء داخل البلدات العربية. ونتيجة لهذا التقلص المستمر في المساحات المتاحة، تفاقمت أزمة الإسكان تدريجيًا، وأصبحت من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع العربي.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تمييزًا منهجيًا في توزيع الميزانيات وسيرورات التخطيط، انعكس في مشاكل بنيوية عديدة في تطوير البلدات العربية، من بينها انتشار ظاهرة البناء غير المرخص نتيجة غياب مخططات شاملة تتماشى مع النمو السكاني. إضافة الى نقص كبير في المساحات العامة التي تُعد أساسًا لتطوير البنى التحتية الحيوية مثل الشوارع والعيادات والمدارس والمراكز الترفيهية، فضلًا عن أنظمة الصرف الصحي. وذلك بحسب تقرير جمعية "سيكوي - أفق".

في مقابلة مع د. سامر سويد مدير المركز العربي للتخطيط البديل، اوضح ان عملية التخطيط في البلدات العربية بدأت متأخرة نسبيًا، في بداية الثمانينيات. حيث أُقرت الخرائط الهيكلية للبلدات العربية، لكنها لم تلبِّ احتياجاتها الفعلية. وفي العقد الأخير، كان هناك تخطيط، لكنه ركز بالأساس على ترخيص مبانٍ قائمة بدون ترخيص، بدلاً من توسيع مساحات البلدات.

وأكمل: "جزء من مصادرة الأراضي كان بسبب "تهويد الجليل" وإقامة مستوطنات وبلدات يهودية، والجزء الآخر بسبب مساحات مفتوحة ومحميات طبيعية، البلدات العربية مسيّجة حدودها بشكل عام إما ببلدات يهودية أو بمناطق يُمنع البناء فيها، مُعرّفة كمناطق خضراء أو محميات طبيعية. ومن أبرز القوانين التي تميزت ضد العرب "قانون لجان القبول"، الذي يمنع العرب من السكن في نحو 900 بلدة يهودية تُعرف باسم البلدات الجماهيرية" (מועצות אזוריות)".

وفقًا لمركز "عدالة" تمنح هذه اللجان، وهي أجسام شبه حكومية تتألف من خمسة أشخاص بينهم مندوب عن الوكالة اليهودية أو الكونغرس الصهيوني، الصلاحية المطلقة لقبول المرشحين أو رفضهم لشراء وحدات سكنية أو أراضٍ للبناء. رغم أن القانون يشدد على واجب احترام المساواة ومنع التمييز، فإنه يتيح للجان رفض مرشحين "غير ملائمين للحياة الاجتماعية"، وهو ما يمنح الشرعية لإقصاء مجموعات كاملة، ومن ضمنها المواطنين العرب. وقد وضعت دائرة أراضي إسرائيل معيار "الملاءمة الاجتماعية" للالتفاف على قرار المحكمة العليا في قضية قعدان عام 2000، الذي قضى بأن استعانة الدولة بالوكالة اليهودية لإقصاء العرب عن أراضي الدولة يمثل تمييزًا على أساس قومي.

تهويد الجليل! وتحويل الأراضي إلى دائرة أراضي إسرائيل!

يشير المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، إلى أن مسألة التفوق الديمغرافي للعرب الفلسطينيين في الجليل كانت تشغل الحكومات الإسرائيلية، لذلك عملت على تهويد الجليل عبر مصادرة مساحات شاسعة من أراضي العرب وتحويل الأراضي إلى دائرة أراضي إسرائيل، التي منحتها للسلطات المحلية لإقامة مساكن ومناطق صناعية، مع تخصيص ميزانيات هائلة لتحقيق السيطرة على الأرض. وللتخفيف من التأثير السلبي للمصطلح على المجتمع العربي، أطلقت الحكومة لاحقًا اسم "تطوير الجليل" على المشروع، بهدف تصوير العملية على أنها تطوير شامل بغض النظر عن التركيبة السكانية، لكن الواقع أثبت العكس، كما ظهر في أحداث يوم الأرض 1976.

بعد مصادرة الأراضي العربية، أصبحت نسبة كبيرة من الأراضي بحوزة الدولة والـ "كيرن كيمت" وسلطة التطوير والإنشاء والتعمير، فبحلول أواخر الستينيات وصلت حيازتها إلى نحو 93% من الأراضي، فيما بقيت 7% فقط موزعة بين العرب واليهود على شكل ملكية خاصة. ومنذ قيام الدولة، قامت الحكومة الإسرائيلية بتنفيذ مخطط واسع لمصادرة أراضي العرب الفلسطينيين، اعتمادًا على المادة 125 من أنظمة الطوارئ الانتدابية البريطانية، التي أعلنت مناطق واسعة كمناطق مغلقة لا يحق للعرب التواجد فيها. حاليًا، نحو 93% من الأراضي ملكية الدولة والصندوق القومي اليهودي، فيما يمتلك العرب نحو 3–3.5% فقط من الأراضي.

ووفقًا لـ د. سويد فإن قانون "مصادرة الأراضي" شكّل أداة مركزية في تنفيذ المصادرات الواسعة التي بدأت منذ قيام الدولة واستمرت حتى ستينيات القرن الماضي. بعد يوم الأرض عام 1976، تم تخفيف استخدام قانون مصادرة الأراضي، ولكن ظهرت قوانين أخرى استُخدمت لتحقيق الغاية نفسها. من بين هذه القوانين قانون شارع 6، الذي أدى إلى مصادرة مساحات واسعة من الأراضي، بالإضافة إلى قوانين المحميات الطبيعية التي تم من خلالها أيضًا مصادرة أراضٍ عربية.

من جانبها تواجه السلطات المحلية العربية قيودًا متعددة؛ فهي لا تملك الصلاحيات الكاملة للتخطيط العمراني، إذ إن كل مخطط تبادر إليه يجب أن يمر عبر اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء، وهي الجهة التي تمتلك صلاحية إقرار المخططات أو رفضها. إضافة إلى أنها لا تملك الميزانيات لذلك". أما بالنسبة لمخططات حكومية مثل خطة 922 وخطة 550، فقد خُصصت لها ميزانيات، لكن لم يكن التخطيط المقدم ملائمًا لاحتياجات البلدات العربية. في كثير من الحالات، تم إعداد مخططات ملائمة في الأصل لبلدات يهودية أو لأراضٍ عامة.

ربع المجتمع العربي مهجّر داخليًا، مثل سكان معلول الذين يسكنون اليوم في يافة الناصرة، وسكان الدامون الذين يعيشون في كابول وطمرة وغيرهما. هذا الواقع يجعل نقطة انطلاقهم الاجتماعية والاقتصادية أقل من غيرهم. وبسبب نقص الأراضي العامة، لا توجد أماكن للترفيه أو مساحات خضراء داخل البلدات، ما يفاقم الاكتظاظ السكاني ويؤدي إلى احتكاكات ومشاكل اجتماعية بين الناس. كما أن الأشخاص الذين يسكنون في بيوت مهددة بالهدم يعيشون في حالة دائمة من الاضطراب النفسي، مما يجعلهم أكثر عرضة للتوتر وربما للعنف، إذ يشعرون بتهديد مباشر لاستقرارهم الشخصي.

عملية التخطيط والإسكان في إسرائيل تهدف إلى تشكيل التوزيع الديموغرافي لصالح المجتمع اليهودي.

يؤكد أمل عرابي، محامي ومخطط مدن، أن أزمة الإسكان في المجتمع العربي تحولت إلى أزمة غاضبة، بحيث يصبح السؤال الأول عند التفكير بإنجاب طفل هو: أين أستطيع أن أبني له بيت؟ الأزمة تتفاقم مع ارتفاع تكاليف البناء وصعوبة الحصول على قرض إسكاني، خاصة مع انخفاض الأجور في المجتمع العربي، ما يجعل الكثيرين بحاجة لتوفير ما بين مليون إلى مليون ونصف شيكل لامتلاك شقة.

هناك أزمتان مترابطتان: أزمة الإسكان وانعدام الحيّز العام، حيث أدى تطور البلدات العربية إلى بناء يركز على حل أزمة السكن على حساب المصلحة العامة، مما أنتج تفاوتًا في شكل البناء، وسيطرة منظمات إجرامية على الحيز العام، وانسحب الناس من المساحات العامة، فزادت الفوضى الاجتماعية، واستمرت الأزمة.

ويرى عرابي أن عملية التخطيط والإسكان في إسرائيل هي في جوهرها عملية سياسية مدفوعة بالأيديولوجيا، تهدف إلى تشكيل التوزيع الديموغرافي لصالح المجتمع اليهودي. وفي المقابل، وجدت الدولة نفسها مضطرة للتعامل مع الأزمة فأقرت عددا من الخطط، لكنها تبقى بعيدة عن الحل الجذري. ويزيد من تعقيد الوضع سيطرة اليمين الإسرائيلي على مفاصل الدولة، ما أدى إلى تجميد بعض الخطط الحكومية وتقليص الميزانيات أو منعها، وبناءً على المعطيات الحالية، من المتوقع أن تستمر أزمة الإسكان في المجتمع العربي في السنوات القادمة.

د. يعقوب غنايم، مستشار توجيه أكاديمي وتطوير مهني يوضح أثر كل ما ذكر على الحالة النفسية للمواطن العربي: "لا شك أن الاكتظاظ السكاني وعدم توفر المساحات الخضراء لهما أثر كبير على النفسية. هناك علاقة طردية بين الحالة النفسية وبين الاكتظاظ وعدم الاستقرار على مستوى الأفراد والمجموعات. فالإنسان كائن بيئي بطبعه، يتأثر بالبيئة المحيطة. كلما كانت البيئة أوسع، متاحة وجميلة، كانت نفسيته أفضل، ولديه شعور بالطمأنينة والراحة والأمل.

أما الضيق فيولد شعورًا سلبيًا، فكيف إذا كان هذا الضيق سكانيًا؟ حين يعيش الإنسان مكتظًا ومحاصرًا في مساحته الخاصة، تتأثر نفسيته، ويشعر بعدم الراحة والاطمئنان، وقد تنشأ عن هذه الحالة سلوكيات سلبية قد تؤذي المجتمع. يمكن ربط أزمة السكن بازدياد ظواهر العنف، وظهور الخلافات العائلية أو العنف الأسري، وكذلك بالإحباط الاجتماعي. فالبيت بالنسبة للفرد هو مصدر الراحة والطمأنينة، وعندما لا تتوفر إمكانية السكن، ينعكس ذلك على سلوكيات الأفراد والجماعات".

غياب المساحات العامة والحدائق ونقص الخدمات وتأثيرها على القلق والتوتر.

ويتابع د. غنايم: "على سبيل المثال، إذا كان لدينا شاب أنهى تعليمه الجامعي ويعمل ولديه المال ويرغب بالزواج ولكن لا يملك بيتًا، فإنه سيشعر بأنه مقيد وغير قادر على تلبية احتياجاته الأساسية. ومع وجود التوتر وعدم القدرة على إدارة الحصانة النفسية، قد يكون لذلك آثار سلبية. الإنسان لديه غريزة التملك، وغياب السكن يؤثر في استقراره.

أما بالنسبة لغياب المساحات العامة والحدائق ونقص الخدمات وتأثيرها على القلق والتوتر، فذلك يؤثر بشكل كبير على النفسية وعلى القدرة على ضبط التوتر والقلق. الحدائق، ونظافة الشوارع، والمرافق العامة تبث الراحة النفسية بلا شك، لكنها ليست كافية دائمًا، لأن الوضعية العائلية والصحة النفسية للفرد تلعب أيضًا دورًا مؤثرًا، إلى جانب أوضاع اقتصادية واجتماعية أخرى."

يوضح د. غنايم: "الأرض والبيت يمكن التعبير عنهما كثوابت أساسية وجزء متجذر فينا. البيت متشبث بالأرض، والأرض جزء من الهوية. فعندما أفقد الأرض، أفقد البيت أيضًا، مثل هدم البيت أو عدم توفره، وهذا قد يخلق شعورًا بفقدان الهوية والكرامة والشعور بالعجز. الحياة بلا كرامة لا تساوي شيئًا. على سبيل المثال، الاعتداءات على الأراضي الفلسطينية أو على أشجار الزيتون مؤلمة جدًا، تخيل شعور صاحب الأرض والبيت والأشجار الذي تعب ماديًا وذهنيًا؟ بالتأكيد سيشعر بالإحباط، لأن الأرض جزء من كرامته، وفقدانها يُعد فقدانًا لهوية وقيمة معنوية.
وعلى الصعيد المحلي، البيت والمسكن لهما دور كبير في تعزيز التشبث بالهوية والأرض. وفقدان البيت قد يؤدي إلى فقدان الكرامة أو شعور بالعجز وانعدام الأمان. رغم ذلك، يجب علينا كمجتمع بناء حصانة داخلية وإرادة قوية، حتى لو كانت الظروف صعبة، وأن نبقى صامدين، وألا نسمح لحالة العجز أن تتسلل إلينا داخليًا."

يوضّح بلال عوض سلامة في كتابه "في معنى الأرض استعادة الذات الفلسطينية": “حين تُستعمَر الأرض وتُستَلَب، يُستعمَر في الوقت نفسه جزء من الحياة، إن لم نقل الحياة كلّها، بما يعنيه ذلك من مصادرة أشكال الحياة كافة؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للشعوب الأصلية. واستعمار الأرض يعني أيضًا الاستيلاء والاستلاب كبنية نفسية وجسدية للشعوب الأصلية".

يتضح من كل ما سبق أن أزمة السكن في المجتمع العربي في إسرائيل ليست مجرد مشكلة عمرانية أو اقتصادية، بل هي أزمة مركبة تتداخل فيها السياسة، الاقتصاد، البنية الاجتماعية، والنفسية، والهوية الثقافية. الما كانت هناك علاقة أزلية للإنسان مع الأرض مصادرة الأراضي وقوانين التمييز، إلى جانب نقص المساحات العامة والبيئة العمرانية غير الملائمة، تؤثر بشكل مباشر على حياة الأفراد والمجتمع بأسره، فتولّد شعورًا بعدم الأمان، وفقدانًا للكرامة، وضغطًا نفسيًا مستمرًا. كما يشير سلامة، فإن فقدان الأرض والبيت لا يعني مجرد فقدان ممتلكات، بل يمس جوهر الهوية ويعيد تشكيل التجربة الاجتماعية والثقافية للفرد والمجتمع.

التقرير اعدته الصحافية ريم مراد، كجزءٍ من سلسلة تقارير سيتم نشرها عبر موقع بُـكرا ومنصاته، ضمن مشروع مشترك بين مركز اعلام وموقع بولتكلي في إطار مشروع " الصحافة من منظور جندري ".

بكرا المصدر: بكرا
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا