لا شكّ أن "هبّة الكرامة" في أيار 2021 شكلت محطة فارقة في التاريخ الفلسطيني المعاصر وأثارت تساؤلات عميقة حول طبيعة المواجهة مع منظومة السيطرة الإسرائيلية، خاصة أنها انطلقت من المدن الفلسطينية التاريخية – أو بالأحرى المدن المُقسمة والمُهددة – مثل اللد والرملة، ويافا، وحيفا، وعكا. في تلك الأحداث برز الدور المركزي للمستوطنين الإسرائيليين المنتمين إلى ما يُعرف بـ "الأنوية التوراتية"، الذين قادوا الاعتداءات المُنظمة على المواطنين العرب ومنازلهم وممتلكاتهم، في ظل دعم ضمني من السلطات المحلية. ويكفي التذكير بأن رئيس بلدية اللد الحالي، "يائير رفيفو"، هو أحد خريجي هذه الأنوية، في مشهد أعاد طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة المشروع الاستيطاني وامتداداته داخل المجال الحضري الإسرائيلي، وحول التحوّل الخطير من استيطان التلال إلى استيطان المدن والوعي.
انطلاقًا من هذه الأسئلة، يُقدم كتاب الدكتور أحمد أمارة، الصادر حديثًا بعنوان (استدارة المستوطنة من تلال الضفة إلى مُدن الساحل – حالة الأنوية التوراتية)، قراءة تحليلية مُعمّقة لطبيعة هذه الأنوية ووظيفتها وتطورها، مع تركيز خاص على نشاطها في المدن الفلسطينية الساحلية. وهي مدن تعاني من تهميش مزمن في الخدمات والبنية التحتية وفرص العمل من قِبل السلطات المحلية، حتى غدت خلال عقود قليلة فضاءات يعيش فيها الفلسطينيون كأقلية مهمشة في وطنهم ومدنهم الأصلية.
وصلني الكتاب من مؤلفه بإهداء خاص، وكان من المفهوم ضمنًا أنه توقع أن أقرأه بعين نقدية متفحصة. وقد شكلت هذه القراءة تجربة علمية ثرية، لا سيّما وأن موضوعه يلامس مجالات اهتمامي. وخلال عملية القراءة، دوّنت عددًا من الملاحظات والانطباعات التحليلية حول هذا العمل الغني بالمضامين المعرفية والمنهجية، وسأعرض فيما يلي أبرزها.
يأتي الكتاب، الواقع في نحو 290 صفحة، في سياق مُكمل لمشروع أمارة البحثي السابق (الاستيطان في أحياء القدس: البلدة القديمة، سلوان، الشيخ جراح)، الذي كنتُ قد تناولته بقراءة نقدية في مقال نُشر في تشرين الثاني 2022 بعنوان (شذرات من كتاب "الاستيطان في أحياء القدس").غير أن العمل الجديد يذهب أبعد من جغرافيا القدس، متجهًا إلى تحليل ما يسميه الكاتب "استدارة المستوطنة"؛ أي انتقال بؤرة النشاط الاستيطاني من تلال الضفة الغربية إلى المدن الساحلية داخل الخط الأخضر.
هذه "الاستدارة"، كما يوضح أمارة، ليست تحوّلًا جغرافيًا فحسب، بل تُعبّر عن تحوّل في طبيعة المشروع الاستيطاني ذاته، الذي لم يعد يكتفي بالهيمنة على الأرض في الأطراف، بل يسعى إلى اختراق النسيج المدني والحضري وإعادة تشكيله وفق منطق ديني–قومي جديد. وهنا تظهر "الأنوية التوراتية" بوصفها رأس الحربة في هذا المسعى، إذ تُمثل طليعة تعمل على إعادة إنتاج المجال العربي داخل المدن الإسرائيلية وتغيير ملامحه السكانية والاجتماعية والثقافية.
يستند المؤلف إلى الباحث إيان لوستيك، الذي يرى أن الصهيونية العُمّالية كانت القوة المؤسسة لمشروع الاستيطان في أراضي عام 1948 – أي الصهيونية التي أنشأت الدولة ومؤسساتها – ويُشار إليها اليوم في بعض الأدبيات بوصفها "اليسار الإسرائيلي". غير أن هذا التصنيف، الذي يُقدم اليسار الإسرائيلي بوصفه الوجه "اللطيف" في مقابل اليمين الإسرائيلي "العنيف"، يُستخدم – في بعض الخطابات العربية والفلسطينية – كأداة لتلطيف صورة المشروع الصهيوني وتدوير وعي الجماهير. فبدل التعامل مع الصهيونية كمنظومة استعمارية واحدة، يُسوّق هذا "اليسار" كخيار سياسي أو شريك محتمل في السلام، في ما يُعد شكلًا من أشكال كيّ الوعي وهندسته لأغراض تسويقية وانتخابية ودعائية مصلحية تدور في رحى المشروع الصهيوني نفسه (الكاتب/ س.غ).
أما الصهيونية الريفيزيونية (التنقيحية أو التعديلية – الليكودية)، فقد قادت مشروع الاستيطان بعد عام 1967، ولا سيّما في عهد بيغن وشامير وشارون عقب صعود الليكود إلى الحكم عام 1977. وفي العقدين الأخيرين، برزت موجة استيطانية جديدة تقودها الصهيونية الدينية، وهي التي يعالجها الباحث في هذا الكتاب. وهكذا، كما يلاحظ أمارة، تبدّلت الأدوار داخل الحركة الصهيونية؛ فبعد أن كانت الصهيونية الاشتراكية توظف الدين لخدمة مشروعها القومي، أصبحت بعد عام 1967 أداة بيد التيار التوراتي الذي استغلها لترسيخ نفوذه وتوسيع مشروعه العقائدي والاستيطاني.
يعرض المؤلف بتفصيل منهجي مفهوم "الأنوية التوراتية"، التي يُعرفها بأنها نمط استيطاني ديني جديد برز بعد خطة الانفصال عن غزة عام 2005، وتضم جماعات صهيونية متديّنة تنتقل عمدًا للإقامة في مناطق تراها ذات أهمية استراتيجية لتجسيد رؤيتها العقائدية المنبثقة من الصهيونية الدينية، وهي اليوم أحد أعمدة اليمين الإسرائيلي الجديد. وتعمل هذه الجماعات على توسيع السيطرة اليهودية وإعادة تشكيل البنية الديمغرافية والاجتماعية في المدن التي تستقر فيها.
ويشير أمارة إلى تصاعد الدعوات إلى ما سُمّي بـ "الاستيطان في القلوب" عقب كل انسحاب إسرائيلي من منطقة ما، كما حدث في سيناء وضمن اتفاقات أوسلو ولاحقًا بعد الانسحاب من غزة. فقد اعتبر أتباع الحركة الصهيونية الدينية تلك الانسحابات تنازلات مؤلمة كشفت ضعف الالتزام القومي والديني لدى المجتمع الإسرائيلي، ومن هنا تبنّوا استراتيجية أيديولوجية جديدة تهدف إلى إعادة صياغة المجتمع الإسرائيلي ذاته وجعله أكثر التصاقًا برؤية "إسرائيل الكبرى" وما يسمّونه الخلاص التوراتي والإصلاح المجتمعي.
بهذا المعنى، فإن "الاستيطان في القلوب" مشروع أيديولوجي–اجتماعي يسعى إلى "إعادة بناء" المدن المُهمشة عبر توطين فئات من المستوطنين في الأحياء العربية والمختلطة لإحداث تحوّل ديمغرافي وثقافي يرسّخ الهيمنة داخل المدن. ويرى أمارة أن فكرة الأنوية التوراتية ليست جديدة، بل امتداد لجذور المشروع الصهيوني منذ مؤتمر بازل (1897) وتأسيس الصندوق القومي اليهودي (1901) الذي تولى "تخليص الأرض" من سكانها الفلسطينيين. ويبيّن أن المستوطنين المنتمين إلى هذه الأنوية يؤمنون بأن الاستيطان في المدن الساحلية لا يقل قداسة عن استيطان الضفة الغربية، مستخدمين أدوات حضرية واقتصادية كـ "الاستطباق" (Gentrification) لتفريغ المدن من طابعها العربي وإعادة إنتاجها كمجال يهودي مهيمن.
وهكذا، يُقدم هذا الكتاب القيم قراءة مُعمّقة لتحوّل المشروع الاستيطاني الإسرائيلي من الأطراف إلى المراكز الحضرية، كاشفًا كيف غدا الاستيطان مشروعًا لإعادة هندسة الوعي والمكان معًا. وتبرز أهمية هذا العمل في ضوء "هبّة الكرامة" التي أعادت إلى الواجهة احتكاك الفلسطينيين بالمستوطنين في قلب المدن، مؤكدة أن المعركة لم تعد على الأرض فحسب، بل على المدينة والهوية والانتماء في فلسطين التاريخية.
المصدر:
كل العرب