2026 – نحو شراكة مدنية جديدة
يقوم تماسك إسرائيل الحقيقي على الثقة بين مواطنيها، لا على قوتها العسكرية وحدها. ومع اقتراب موعد الانتخابات القادمة، تجد الدولة نفسها أمام فرصة لصياغة ميثاق وطني جديد، يُحوِّل الطاقات المهدورة في الصراعات الداخلية إلى قوة مدنية خلاقة، ويهدف إلى تقليص الفجوات الاجتماعية ورفع الإنتاجية، بما يعزّز مستقبلًا أكثر استقرارًا وعدالة لجميع مواطنيها.
كل أسبوع يُضاف اسم جديد إلى قائمة القتلى في المجتمع العربي. إطلاق نار آخر، عائلة أخرى محطّمة، وثقة جماهيرية أخرى تتهاوى. خلف كل جريمة قتل لا يقف ضحية واحدة فحسب، بل لائحة اتهام أخلاقية ضد دولة بأكملها — دولة فشلت في ضمان الأمن الأساسي لمواطنيها، ومجتمع تقبّل لغة القوة واليأس. فالعنف ليس ظاهرة جنائية فحسب، بل هو مرآة لانكسار عميق في الثقة بين المواطن والدولة، وبين مكوّنات المجتمع نفسه.
خلال العقدين الأخيرين، ميّزت إسرائيل نفسها بكثرة البرامج الحكومية مثل 922 و550، التي خصصت عشرات المليارات من الشواقل للتطوير الاقتصادي والتعليم والأمن الشخصي. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الاستثمارات، تعطلت كثير من الخطط في دهاليز البيروقراطية، وفي ظل تغيّر الائتلافات وغياب الاستمرارية. فُتحت مراكز شرطة، وتدفقت الميزانيات، لكن نسبة حلّ الجرائم بقيت منخفضة، ومستوى العنف ارتفع، والخوف ازداد. لقد كانت استجابة الدولة آنية لا استراتيجية، عالجت لكنها لم تخطط، فتآكلت الثقة.
الواقع أعقد بكثير من توصيفه كصراع بين "الدولة والمجتمع". فالمجتمع العربي ليس كيانًا واحدًا، بل فسيفساء من الطوائف — مسلمون، مسيحيون، دروز وبدو — لكل منها تحدياته الخاصة. وضمن هذه الفسيفساء، لا يمكن اختزال المجتمع العربي في كونه ضحية إهمال فحسب، بل هو أيضًا طرف يتحمّل المسؤولية. فإلى جانب المطالبة المحقة بالمساواة والأمن، هناك حاجة إلى شجاعة داخلية لإدانة العنف باسم "شرف العائلة"، وتعزيز سيادة القانون المحلي، وتطوير قيادات مجتمعية وتربوية واقتصادية تقود التغيير من الداخل.
ومن الجانب الآخر، على الدولة أن تُعيد النظر في نفسها. فوزارة الأمن الداخلي وحدها لا يمكنها معالجة مشكلة جذورها اجتماعية واقتصادية. هناك حاجة إلى سياسة منسقة بين هذه الوزارة ووزارات التعليم، والرفاه، والداخلية، والمالية، مع تركيز خاص على إعادة بناء القدرات الإدارية للسلطات المحلية وضمان إدارتها من قبل جهات مؤهلة. فالعنف ينمو في الفراغ الذي تغيب فيه المسؤولية. الأمن المدني ليس مجرد شرطي في الشارع، بل منظومة شاملة لإدارة المخاطر الاجتماعية تشمل التعليم الجيد، وفرص العمل المتاحة، وبيئة آمنة، وثقافة المسؤولية المشتركة.
إنّ الأعمدة الثلاثة للاستدامة — البيئة، والمجتمع، والحُكم — إلى جانب التفكير طويل الأمد، تشكّل أساس الأمن المدني. ويقوم هذا الأساس على مبدأ المشاركة العادلة في المسؤولية الوطنية. فـتحمّل العبء لا يقتصر على الخدمة العسكرية فحسب، بل يشمل أيضًا المسؤولية المدنية والاقتصادية والمجتمعية. فالمجتمع الذي يتحمّل فيه جزء من أفراده عبء العمل والخدمة والضرائب بينما يبقى آخرون خارجه، يفقد إحساسه بالعدالة والشراكة. ومن هنا تأتي أهمية التخطيط المستدام، خطوة بخطوة، مع تحديد أهداف واضحة، وجهات مسؤولة، وآليات متابعة وتنفيذ.
لذلك، يتطلّب الأمن المدني تغييرًا ذهنيًا في كلا الاتجاهين.
من المجتمع العربي يُطلب تحمّل مسؤولية مدنية عميقة: إدانة لا لبس فيها للعنف، وتعزيز سيادة القانون المحلي، وزيادة المشاركة المجتمعية، وتوسيع الخدمة المدنية والتطوع — كتعبير عن الانتماء والشراكة لا عن الإكراه.
ومن المجتمع اليهودي يُطلب تغيير ذهني لا يقل أهمية: أن يرى في المواطنين العرب شركاء متساوين في بناء الدولة، وأن يستثمر في البنية التحتية والمواصلات والتعليم في البلدات العربية، انطلاقًا من الفهم بأن هذه استثمارات في الأمن القومي بأسره، لا "تمييز إيجابي".
وفي كلا الجانبين، هناك حاجة إلى توازن جديد في المسؤولية الوطنية — ليس شعار "مساواة في العبء"، بل شراكة في بناء تماسك الدولة. فكل مواطن، يهوديًا كان أم عربيًا، مدعو للمساهمة في العمل، والخدمة، وريادة الأعمال، وتحمل المسؤولية. بهذه الطريقة فقط يمكننا بناء الثقة وتقليص الفجوات التي تهدد مستقبل إسرائيل.
إنّ النسيج اليهودي–العربي أحد أهم الأصول الاستراتيجية لإسرائيل. فهو ليس تحديًا أخلاقيًا فحسب، بل عنصرًا جوهريًا في أمنها القومي. ويكفي أن نتذكّر أحداث عام 2021 في اللدّ وعكّا لندرك مدى خطورة فقدان الثقة الداخلية وتحولها إلى صدع استراتيجي. فالدولة القوية تُقاس ليس فقط بقوتها العسكرية، بل بتماسك مواطنيها. فالأمن القومي الحقيقي يقوم على الثقة، والانتماء، والمسؤولية المتبادلة.
إنّ الاستثمار في الإنسان والمجتمع والثقة ليس "إنفاقًا اجتماعيًا" بل استثمار جوهري في استدامة الدولة. فالدولة التي لا تستثمر في تماسك مواطنيها ستدفع ثمنًا اقتصاديًا وأخلاقيًا وأمنيًا معًا. ولهذا، يجب إنشاء هيئة الأمن المدني الوطن — هيئة حكومية مشتركة تعمل على تخطيط طويل الأمد، وتنسّق بين الحكومة والسلطات المحلية، وتقيس النجاح لا بعدد الأسلحة المصادرة، بل بعدد الشباب الذين يشعرون أن لهم مستقبلًا.
الأمن المدني ليس مفهومًا نظريًا، بل برنامج وطني عابر للقطاعات بثلاثة أهداف قابلة للقياس:
• تقليص الفجوات الاقتصادية بين المركز والأطراف بنسبة ملموسة خلال السنوات القريبة.
• زيادة نسبة المشاركة في العمل والخدمة المدنية المجتمعية في المجتمع العربي.
• إنشاء مؤشر الثقة المدنية السنوي، إلى جانب مؤشرات التضخم والنمو، كمؤشر رسمي لصلابة الدولة، كما تفعل دول أخرى تقيس قوتها الاجتماعية عبر مؤشرات الثقة بين المواطنين وبين المواطن والمؤسسات.
هذه ليست أهدافًا اجتماعية فحسب، بل بنية تحتية أمنية واقتصادية في آن واحد.
ومع اقتراب انتخابات 2026، آن الأوان لدعوة بسيطة ولكن عميقة: جعل الشراكة وتقليص الفجوات جزءًا من جوهر الميثاق الوطني الموحِّد لإسرائيل، وإعادة الخطاب العام إلى قضايا الوحدة والتماسك والفاعلية — لا بلغة العطف، بل بلغة القوة.
الاختيار بأيدينا نحن، مواطني إسرائيل، يهودًا وعربًا على حد سواء. يمكننا أن نستمر في الغرق في خطاب الخوف والاتهامات، أو أن نختار بناء عقد مدني جديد — عقد يقوم على الأمن، والعطاء المتبادل، والاحترام المتبادل.
مستقبل إسرائيل لن يُكتب بالنار، بل بالشراكة. لقد عرفنا ما يكفي من النار.
الآن هو الوقت لإشعال نور في طريق الشراكة المدنية، في طريق الأمل الإسرائيلي الجديد.
يائير أفيدان
رئيس اللجنة الاستشارية، مركز أريسون للـ ESG، جامعة رايخمان، والمراقب على البنوك سابقًا.
المصدر:
وازكام