الصفقة التي تُوقّع اليوم لإنهاء الحرب في غزة تمثل لحظة فارقة في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهي بلا شك خطوة ضرورية لوقف نزيف الدم والمعاناة الإنسانية التي طالت أهالي القطاع. من حيث الأثر المباشر، فإن سكان غزة هم المستفيدون الأول من هذه الاتفاقية، إذ تتيح لهم فرصة لالتقاط الأنفاس بعد شهور من القصف والتدمير، وتفتح بابًا لإعادة الحياة إلى ما تبقى من بنية تحتية مدمّرة.
لكن، وعلى الرغم من هذا الارتياح الآني، فإن الصفقة تفتقر إلى البُعد السياسي الذي يُعطيها شرعية تاريخية ويُحوّلها من مجرد تهدئة مؤقتة إلى نقطة انطلاق نحو حل دائم. إنها صفقة تستند لمفهوم إدارة الأزمات في العلاقات الدولية، لا حلّها. فعوضاً عن معالجة جذور الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، تُعيد الاتفاقية تنظيم قواعد الاشتباك حول: من يتحكم بالإعمار؟ من يدير المعابر؟ من يضبط التجارة؟ ومن يضمن الأمن والشرعية الدولية؟ هذه الأسئلة تُطرح في سياق لا يسعى إلى إنهاء الاحتلال، بل إلى تثبيت واقع سياسي هش يُبقي الفلسطينيين في حالة انتظار دائم، لا يلوح في افقه التحرر من الاحتلال.
الرابح الحقيقي من هذه الصفقة على المدى البعيد هي إسرائيل، التي تُحقق تهدئة ميدانية دون تقديم أي تنازل جوهري في ما يتعلق بإنهاء الاحتلال أو الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. كما تُكرّس سيطرتها على مفاصل الحياة في غزة، وتُعيد إنتاج الاحتلال بأدوات ناعمة تحت غطاء إنساني. أما الولايات المتحدة، فهي تُعزز دورها كوسيط دولي يُدير الصراع وفق مصالحها، وتُقدّم الصفقة كإنجاز دبلوماسي يُعيد ضبط التوازنات دون أن تُلزم إسرائيل بأي مسار سياسي جاد.
اللافت في هذه الصفقة هو دخول مصر وتركيا كوسيطين محوريين، وهو ما يُضفي عليها بعدًا إقليميًا جديدًا. فمصر تسعى إلى تثبيت دورها كضامن للأمن الحدودي ومنسق رئيسي لملف الإعمار والمعابر، مما يُعزز مكانتها الإقليمية. أما تركيا، فهي تستثمر في هذا الدور لتوسيع نفوذها السياسي في الملف الفلسطيني، وتقديم نفسها كقوة داعمة للقضية، وفي الوقت ذاته كطرف قادر على التفاهم مع القوى الغربية. هذا الانخراط الإقليمي يُضيف للصفقة وزنًا دبلوماسيًا، لكنه لا يُغيّر من جوهرها كصفقة تفتقر إلى الأفق السياسي.
إن دعم هذه الصفقة يجب أن يكون مشروطًا بضرورة استكمالها بمسار سياسي واضح، يُعيد الاعتبار للحقوق الوطنية الفلسطينية، ويضع حدًا للاحتلال، ويُمهّد الطريق لبناء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. فوقف الحرب، رغم أهميته، لا يُغني عن الحاجة إلى حل جذري يُنهي عقودًا من المعاناة، ويُعيد الاعتبار للعدالة والكرامة الوطنية.
ما يُطرح اليوم ليس نهاية للصراع، بل بداية لمرحلة جديدة من إعادة التموضع السياسي، تتطلب يقظة فلسطينية، وموقفًا نقديًا، ورؤية مستقبلية تتجاوز منطق إدارة الأزمة نحو أفق التحرر الحقيقي. فالشعب الفلسطيني لا يحتاج فقط إلى وقف القصف، بل إلى إنهاء الاحتلال، واستعادة حقوقه كاملة، دون تجزئة أو تأجيل.