آخر الأخبار

الحدث الذي ابتلعته الكارثة: السابع من أكتوبر في ظل دمار غزة

شارك

منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، تتوالى عليّ طلبات من صحفيين وباحثين ومؤسسات إعلامية، وأكاديميين، يطلبون تحليلي حول ذلك اليوم. بعضهم يسعى لتسليط الضوء على “عظمة الحدث”، وآخرون يريدون وضعه في سياق تاريخي، أو مناقشة المسؤوليات المتبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. في البداية، قبلت الخوض في هذه الحوارات، مؤمنًا بأهمية التوثيق، وبضرورة أن تُروى القصة من أكثر من زاوية. لكنني اليوم، وبعد كل ما شهدناه، أجد نفسي مرغماً على اعادة التفكير في كل مقابلة.

ليس لأن السابع من أكتوبر لم يكن مفصليًا، بل لأنه لم يعد الحدث الأهم. لقد أصبح مجرد مدخل لسلسلة من الكوارث التي لا يمكن اختزالها في يوم واحد. كيف يمكنني أن أتحدث عن ذلك اليوم وكأنه لحظة مستقلة، بينما أرى غزة تُمحى من الخارطة؟ كيف أتطرق لوصف حدث واحد بينما يُقتل أكثر من ٦٢،٠٠٠ فلسطيني، ويُهجّر مئات الآلاف مرارًا ومراراً، وتُباد مدن كاملة، وتُدفن فكرة السلام تحت أنقاض البيوت؟

ما جرى بعد السابع من أكتوبر ليس مجرد “رد فعل”، بل هو إعادة تشكيل للوعي السياسي، وتكريس لواقع لا يمكن التعايش معه. لقد تم سحق الحلم الفلسطيني بالحرية، وتمت إزالة فكرة العدالة من قاموس السياسة، وأصبح الحديث عن السلام ضربًا من السذاجة أو حتى التواطؤ.

لقد أصبح الحديث عن السابع من أكتوبر دون التطرق إلى ما تلاه، أشبه بمحاولة لفصل الجرح عن النزيف. لا يمكن أن نناقش ذلك اليوم وكأنه لحظة مأساوية منعزلة، بينما يعيش الفلسطينيون في غزة تحت القصف، في خيام النزوح، بين ركام البيوت، وفي انتظار المجهول. لا يمكن أن نُعيد سرد الرواية وكأنها انتهت في ذلك اليوم، بينما لا تزال فصولها تُكتب بالدم والدموع.

إن التركيز على السابع من أكتوبر بمعزل عن سياقه هو تجاهل متعمد للواقع، وهو انحياز ضمني لسردية تحاول أن تُعيد تشكيل الوعي العالمي حول ما جرى، دون الاعتراف بالثمن الإنساني والسياسي الذي دفعه الفلسطينيون. لقد تحولت غزة إلى مرآة تكشف هشاشة القيم الدولية، وانهيار منظومة العدالة، وتواطؤ العالم مع استمرار المأساة.

لهذا، فإن ترددي في المشاركة في هذه المقابلات ليس انسحابًا من النقاش، بل هو دعوة لإعادة صياغة النقاش نفسه. دعوة لأن نُعيد ترتيب الأولويات، وأن نُسلّط الضوء على المعاناة المستمرة، لا على لحظة واحدة مهما كانت مؤثرة ومؤلمة. دعوة لأن نُعيد للإنسان الفلسطيني مكانته في السرد، لا أن نُختزله في أرقام أو في مشاهد عابرة.

أنا أرفض أن أكون شاهدًا يُستدعى للتعقيب على رواية ناقصة. أرفض أن نصبح أداة لتبرير تجاهل العدالة. وأصرّ على أن تكون كلمتي امتدادًا لصوت الضحايا، لا صدىً لسردية تُعيد إنتاج الظلم.

إن مسؤولية المثقف أو الشاهد ليست في تقديم إجابات جاهزة، بل في طرح الأسئلة التي تُزعج، وتُربك، وتُجبر العالم على التوقف. وأنا لا أستطيع أن أُسهم في رواية تُفرغ الحدث من سياقه، وتُعيد إنتاجه بطريقة تُرضي من يبحثون عن توازن زائف بين الجلاد والضحية. لا يمكنني أن أُشارك في سردٍ يُسهم أو يُخفي حجم المأساة خلف تحليلات سياسية باردة.

كلمتي اليوم ليست حيادية، لأن الحياد في وجه المجازر خيانة. وليست موضوعية، لأن الموضوعية التي تُساوي بين القاتل والمقتول ليست إلا تواطؤًا مقنّعًا. كلمتي منحازة للإنسان، للعدالة، للحق في الحياة، وللحق في أن تُروى القصة كاملة، لا مجتزأة ولا مفلترة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا