آخر الأخبار

د.عطوة ابو فريح لبكرا: حين تُصبح المظاهر معيارًا لقيمة الإنسان فستدفع بالشباب إلى السوق السوداء والإجرام

شارك
pixapay

في حوار خاص مع موقع "بكرا"، يتناول د. عطوة أبو فريح – الباحث والمحاضر في العلوم الاجتماعية من مدينة رهط – ظاهرة مقلقة باتت تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية في مجتمعنا العربي في الداخل. ظاهرة تحمل في طياتها أبعادًا اجتماعية ونفسية واقتصادية خطيرة، وتمتد آثارها إلى عمق بنية الأسرة والمجتمع.

من خلال هذا اللقاء، يسلط د. أبو فريح الضوء على ما أسماه "الترف الزائف"، ويقدم قراءة اجتماعية نقدية لسلوك استهلاكي بات معيارًا لقيمة الإنسان، ودافعًا لكثيرين نحو التورط في الديون، وأحيانًا نحو السوق السوداء والانزلاق إلى مسارات مدمرة.

سباق استهلاكي وراء بريق زائف

نلحظ في السنوات الأخيرة تفشي ظاهرة مقلقة في مجتمعنا العربي في الداخل، ظاهرة تتسلل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليومية، وتغلفها ببريق زائف، إنها ظاهرة هوس شراء الماركات الأجنبية، من ملابس وحقائب وأحذية وساعات وغيرها من الكماليات، إلى جانب السعي المحموم وراء اقتناء المركبات الجديدة والفاخرة، حتى وإن كان الوضع الاقتصادي لأصحابها لا يسمح بذلك.

لم يعد من الغريب اليوم أن ترى من يقتني مركبة فارهة دون أن يمتلك ثمنها، بل يعتمد كليًا على قروض بنكية أو برامج تمويلية مرهقة من شركات التمويل (الميمون)، فقط ليظهر أمام الناس بمظهر ميسور، أو ليراه الآخرون على أنه "من علية القوم". هذا السعي المحموم خلف المظاهر أفضى بالكثيرين إلى شراء ماركات مقلّدة لهم ولأبنائهم، لا لشيء سوى ألا يظهروا في المناسبات أو الأعياد بمظهر "أقل منزلة" من غيرهم.

وقد بلغت هذه الظاهرة حدًا خطيرًا، إذ أصبح المظهر الخارجي عند البعض مقياسًا للقبول والاحترام الاجتماعي، حتى وإن كان ذلك على حساب الاحتياجات الأساسية للعائلة والبيت. فترى من يفرّط في ضرورياته المعيشية فقط ليشتري حقيبة ذات علامة تجارية أو حذاءً فاخرًا، وكل ذلك في سبيل اللحاق بصيحات الموضة والتقليد والاستعراض.

الظاهرة ليست حكرًا على فئة دون أخرى، بل تمتد لتشمل الشباب والنساء والرجال على حد سواء. وإن دققنا النظر، وجدنا أن هذه الموجة تقودنا تدريجيًا إلى خلق فوارق طبقية وهمية تُفكك النسيج الاجتماعي، وتفرض ضغوطًا نفسية ومادية على أفراد المجتمع، أعباء نحن في غنى عنها.
فالركض وراء المظاهر لا يرفع من قيمة الإنسان، بل قد يُهدر كرامته ويُثقله بالديون والتوترات الأسرية.

دور الإعلام ومنصات التواصل في تضليل الوعي

ولا يمكننا أن نتجاهل الدور الكبير الذي تلعبه وسائل الإعلام، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي، في ترسيخ هذا السلوك. فهذه المنصات تعرض لنا حياة مزيّفة ومُفلترة، تُجمّل الواقع، وتُوهم المتابعين بأن السعادة والقيمة تكمن في اقتناء أغلى ما يُعرض في السوق. فتتسلل هذه الفكرة إلى عقول الشباب والمراهقين الذين لم تكتمل بعد شخصياتهم، فيظنون أن الإنسان يُقاس بماركته، لا بمبادئه أو أخلاقه.

فجوة طبقية وديون تهدد الاستقرار الأسري

لقد أصبحت قيمة الفرد في نظر البعض تُختزل في نوع هاتفه، أو ماركة ساعته، أو السيارة التي يقودها. فكلما كانت الماركة أغلى وأكثر شهرة، ارتفعت مكانته، وإن كانت رخيصة أو غير معروفة، تضاءلت قيمته في عيونهم.

يكفي أن نُطيل النظر في مدننا وقرانا العربية لنرى كيف انتشرت محال بيع الماركات، وكيف تضاعفت وكالات بيع المركبات الفارهة.
ترى شابًا في مقتبل العمر، بالكاد دخل سوق العمل، يقود مركبة غالية الثمن، دُفعت كاملة عبر تمويل لا يملك منه شيئًا. وترى أطفالًا ومراهقين يرتدون أغلى الماركات في المدارس، وتُفاخر بهم أسرهم في المناسبات، رغم أن تلك الأسر قد تكون مُثقلة بالديون، أو لا تملك ما يغطي حاجاتها الضرورية.

الخطير في هذه الظاهرة ليس فقط العبء الاقتصادي، بل الضغط النفسي الذي تخلقه على العائلات، خصوصًا الفقيرة أو متوسطة الدخل.
فالأهل يُدفعون إلى شراء ماركات لأولادهم كي لا يشعروا بالنقص أو يُحرجوا أمام أقرانهم. والأسوأ أن هذا الضغط قد يدفع بعض الأبناء إلى طرق غير أخلاقية أو حتى إجرامية من أجل تحصيل المال اللازم لمجاراة هذا السباق المحموم نحو "الواجهة".

ولنكن صادقين مع أنفسنا، من منا لم يشعر بهذا الضغط داخل بيته؟ من منا لم يُجبر على مسايرة هذا السباق رغمًا عنه، فقط كي لا يُقال إنه يبخل على أبنائه؟ إننا أمام بداية لظاهرة طبقية خطيرة، إن لم نُواجهها بالوعي والتربية، فستزداد حدة مع مرور السنوات.

السوق السوداء: نهاية مؤلمة لمسار التظاهر الزائف

أبعد من ذلك، جميعنا يرى كيف أوصل هذا السباق والتقليد الكثير من الشباب إلى الكسب بالحرام وأخذ قروض من السوق السوداء، لا يستطيعون في الكثير من الحالات تسديدها، وقد تصل إلى ديون باهظة، جلها من الفوائد الخيالية التي يتم الاتفاق عليها عند أخذ القرض.
في هذه الحالة، فإن انزلاق أحد أفراد العائلة إلى السوق السوداء وعدم قدرته على تسديد ديونه، لا يعرض فقط حياته للخطر، بل يدخل جميع أفراد عائلته في دوامة الملاحقة والتهديد والخطر، وذلك للضغط عليهم لتسديد ديون ابنهم أو قريبهم، مما قد يجرهم إلى دائرة العنف بدون حق.

نحن لا نعارض تطور التجارة، ولا فتح المحال، ولا نشكك في حق الناس في صرف أموالهم كما يشاؤون. ولكن حينما تُصبح المظاهر معيارًا لقيمة الإنسان، وتؤثر سلبًا على استقراره النفسي والاجتماعي، فإننا أمام أزمة حقيقية. أزمة تُعيد ترتيب أولويات الأفراد بشكل مقلوب، وتُؤثر على سلوكهم وتربية أبنائهم، وتدفعهم إلى طريق مظلم، قد ينتهي بالعنف، أو السوق السوداء، أو الإجرام.

دعوة للوعي وترشيد الاستهلاك

إن الحل يبدأ من التوعية، وترشيد الاستهلاك، لا سيما عند الأهالي، فهم المرآة التي ينعكس فيها سلوك الأبناء. فكلما كان الأهل قدوة حسنة، كلما تشكل وعي الأبناء بطريقة متزنة وصحيحة.

كما علينا أن نُعزز في وجدان الشباب مفاهيم أصيلة، بأن القيمة لا تُقاس بثمن ما نرتديه، بل بما ننجزه ونُقدمه من أخلاق وعلم وعطاء. ولا بأس بتذكير المقتدرين والأثرياء أن التواضع زينة، وأن البذخ قد يُؤلم من لا يملك. فليكونوا قدوة رحيمة بمن حولهم، وليتذكروا قول الله تعالى: "ولا تبذر تبذيرًا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين".

فنحن نعيش في مجتمع تتفاوت فيه القدرات، ومن الحكمة أن نراعي هذا التفاوت، ونُحيي ثقافة القناعة والرضا والتواضع. فلنربّي أبناءنا على أن القيمة في الداخل لا في الخارج، وأن الإنسان هو من يُعلي من قدر الماركة التي يلبسها، لا العكس. وكما يقول المثل الشعبي: "على قد لحافك مد رجليك"، فلنجعل هذا المثل نبراسًا يُضيء لنا طريق القناعة، في زمن بات فيه البريق يغطي على الحقيقة.

بكرا المصدر: بكرا
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا