آخر الأخبار

إدارة الموت: كيف تحوّلت غزة إلى مختبر لصراع بلا نهاية

شارك

إدارة الموت: كيف تحوّلت غزة إلى مختبر لصراع بلا نهاية

بقلم: محمد دراوشه

في غزة، لا تُقاس الكارثة بعدد القتلى فقط، بل بعدد الأطفال الذين ينامون جوعى، والمرضى الذين ينتظرون دواءً لن يصل، والعائلات التي تودع بعضها تحت الأنقاض. الحرب هناك لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل تحوّلت إلى هندسة دقيقة للدمار، تُدار من غرف السياسة الإسرائيلية، حيث تتقاطع مصالح الأحزاب مع أطماع الاستيطان، وتُغيب فيها كل معايير الإنسانية.

تقرير القناة الإسرائيلية 13 كشف أن الوزيرين من اليمين المتطرف، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتش، عطّلا التوصل إلى صفقة تبادل أسرى خمس مرات على الأقل. هذه ليست مجرد خلافات داخل الحكومة، بل تعكس توجّهًا سياسيًا واضحًا: إبقاء الحرب مشتعلة، ورفض أي مخرج إنساني أو تفاوضي يمكن أن يُخفف من وطأة الكارثة في غزة. كما أشار التقرير إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أبلغ واشنطن بأن الحرب على غزة “قد تستمر لعقود”، وهو تصريح لا يُقرأ إلا كإعلان نية لإدامة الصراع، لا احتوائه. في هذا السياق، تصبح الصفقة الجزئية المحتملة مجرد أداة لإدارة الحرب، لا لإنهائها. يتم التلاعب بها لتأجيل الحسم، وخلق بيئة تسمح باستمرار الحصار، وتعميق المجاعة، وتوسيع نطاق الدمار.

ما تكشفه القناة 13 ليس فقط عن عرقلة صفقة، بل عن عقلية سياسية ترى في استمرار الحرب مكسبًا داخليًا، يُرضي القاعدة اليمينية، ويُبقي على تماسك الحكومة، حتى لو كان الثمن حياة آلاف المدنيين. هذه العرقلة الممنهجة تفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، منها التهجير والاستيطان، وتُغلق في المقابل كل نوافذ الأمل أمام أي حل إنساني أو سياسي.

لفهم هذا السلوك السياسي، لا يكفي أن نستنكر أخلاقيًا، بل يجب أن نقرأه ضمن نظرية إدارة الصراعات في العلاقات الدولية. هذه النظرية لا تسعى إلى إنهاء الصراع، بل إلى التحكم في مستوياته، وتوجيهه بما يخدم مصالح الأطراف الأقوى. فبدلاً من السعي إلى تسوية عادلة، تُستخدم أدوات مثل الحصار، والمفاوضات المجزأة، والتصعيد المحدود، كوسائل لإبقاء الصراع تحت السيطرة، دون حله جذريًا. إسرائيل، وفق هذا المنطق، لا ترى في إنهاء الحرب مصلحة استراتيجية، بل تعتبر استمرارها وسيلة لإعادة تشكيل الواقع السياسي والجغرافي في غزة. إدارة الصراع تسمح لها بتأجيل الضغوط الدولية، وتفادي التنازلات، وخلق واقع جديد على الأرض، بينما تُستخدم المعاناة الفلسطينية كأداة تفاوض، لا كأزمة إنسانية تستوجب الحل.

على الحدود، تتكدّس شاحنات الغذاء، لكن الجيش الإسرائيلي يمنع دخولها. هذا الحصار الغذائي لا يمكن فهمه إلا كأداة حرب، تُستخدم لتجويع المدنيين، وكسر إرادتهم، ودفعهم نحو الانهيار. في الأسابيع المقبلة، قد يتوسع نطاق المجاعة ليشمل كل فلسطيني في القطاع، في ظل غياب أي تحرك دولي فعّال. في هذا المشهد، تغيب الإنسانية تمامًا. لا صوت يُسمع للضحايا، ولا اعتبار يُعطى للأطفال، ولا احترام يُظهر للكرامة البشرية. تُدار الحرب وكأنها لعبة مصالح، حيث يُستخدم الجوع والدمار كأدوات تفاوض، وتُختزل حياة الملايين في بنود سياسية لا تُنفذ.

العرقلة المستمرة للصفقات، ورفض إدخال المساعدات، وغياب أي أفق سياسي، كلها مؤشرات على أن الهدف ليس فقط القضاء على فصيل مسلح، بل تفريغ الأرض من سكانها، وتهيئة الظروف لسيناريوهات تهجير واستيطان جديدة. ما يحدث في غزة اليوم قد يكون مقدمة لسياسات توسعية تتجاوز حدود القطاع. الحرب على غزة كشفت عن أزمة أخلاقية عالمية. حين يُستخدم الجوع كسلاح، وتُمنع المساعدات، وتُعطّل الصفقات لأسباب حزبية، فإننا لا نتحدث فقط عن صراع سياسي، بل عن انهيار في القيم الإنسانية. في هذا الزمن، يبدو أن السياسة انتصرت على الضمير، وأن المصالح الحزبية طغت على حق الحياة.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا