احتلال غزة والقضاء على الحدود
بقلم: خالد خليفة
لا يمكن اعتبار القرار الأخير لحكومة بنيامين نتنياهو، بشأن احتلال قطاع غزة، قرارًا استثنائيًا أو منفصلًا عن السياق؛ فهو امتداد لسياسات الاحتلال المستمرة منذ أكثر من عامين، والتي فشلت خلالها إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية رغم حملتها المكثفة على القطاع منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، بحيث كان قد صرّح قبل ذلك بأن احتلال معبر رفح سوف يحسم المعركة، وأن احتلال خان يونس أيضا سيكون الشأن الحاسم، كما قال إن خطة الجنرالات والقضاء على البنية السكانية في شمال غزة سوف تجلب النصر المؤكد لإسرائيل في هذه الحرب. ويأتي إعلان حكومة نتنياهو باحتلال غزة مشابهًا لمثل هذا السياق. وبات من المؤكد أن هذا القرار يعكس انتقال الحكومة الإسرائيلية من مرحلة العمليات العسكرية المحدودة، والتي أودت بحياة أكثر من 60 ألف مدني فلسطيني، إلى محاولة فرض سيطرة كاملة ومطلقة على غزة، في خطوة اعتبرها كثيرون يائسة بعد الإخفاق في تحقيق الأهداف الاستراتيجية المعلنة منذ عامين من هذه الحرب.
ومن اللافت بأن هذا القرار جاء على خلاف توصيات بعض الدوائر العسكرية الإسرائيلية، وعلى رأسهم قائد الأركان الجنرال إيال زامير، التي أبدت تحفظًا على جدوى التورط في عملية برية شاملة بهذا الحجم، لكنه مرّ بإصرار وبضغوط واسعة النطاق من المستوى السياسي، وعلى الرغم أيضًا من رفض أهالي الاسرى وأطراف واسعة من الراي العام الاسرائيلي. ووفقًا للخطط المعلنة، تسعى حكومة نتنياهو وكاتس إلى دفع أكثر من مليون فلسطيني من مدينة غزة باتجاه خان يونس ثم رفح على حافة الحدود المصرية، تمهيدًا لعملية تهجير أوسع نحو خارج القطاع، وهو ما قد يشكل أخطر مراحل المشروع الإسرائيلي الجديد المتعلق بالترانسفير والتطهير العرقي على مرأى ومسمع من الرأي العام العالمي.
ولتطبيق هذه الخطة، قامت الحكومة الإسرائيلية باستدعاء أكثر من 90 ألف جندي احتياط، ليصل العدد الإجمالي للقوات الإسرائيلية داخل القطاع إلى نحو 250 ألف جندي موزعين على خمس فرق عسكرية، في محاولة لفرض السيطرة الكاملة على القطاع. ومن المتوقع أن تتم العملية على مراحل: تبدأ بمحاصرة مدينة غزة، يليها قصف مكثف، ثم إصدار أوامر للسكان بمغادرة المدينة نحو المناطق الحدودية مع مصر ، تحت ذريعة "القضاء على حركة حماس".
ويحظى هذا القرار بدعم أمريكي مباشر من إدارة دونالد ترامب، بحيث تتماشى هذه الإدارة مع التوجه الإسرائيلي وتوفر له الغطاء السياسي والدبلوماسي والعسكري، فيما يلقى أيضًا تأييدًا في بعض الأوساط الأمريكية المؤثرة، الأمر الذي يساهم في تعزيز موقف حكومة نتنياهو في المضي قدمًا بهذه الخطوة رغم مخاطرها الإقليمية والإنسانية.
وكما يبدو، فإن المقترح المصري الأخير الذي وافقت عليه حركة حماس، والمتعلق بتحرير عشرة أسرى إسرائيليين أحياء وثمانية عشر أسيرًا من القتلى، لم يلقَ قبولًا لدى حكومة نتنياهو. وقد حظي هذا المقترح بتأييد بعض الأطراف مثل ويتكوف، إلا أن نتنياهو بدأ يغيّر مواقفه ويطالب بصفقة شاملة تشمل الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين الخمسين، دون أن يدفع الثمن المطلوب المتعلق بانسحاب كامل وإطلاق سراح عدد كافٍ من الأسرى الفلسطينيين، وبدون القبول بوقف الحرب أو إنهائها، وهو ما ترفضه حماس. في المقابل، ترى حماس أن أي صفقة يجب أن ترتبط بوقف لإطلاق النار لمدة ستين يومًا، يمكن بعدها مناقشة آفاق إنهاء الحرب، بما قد يقود إلى إعادة إعمار غزة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب. وتوافق في نفس الوقت على تسليم السلطة الفلسطينية مقاليد الحكم في قطاع غزة وبدعم مصري إلا أن إسرائيل وحكومة نتنياهو لا تقبل بذلك.
لكن نتنياهو يبدو عازمًا على المضي في مشروعه الاحتلالي، معلنًا بشكل صريح أمام وزير دفاعه ورئيس أركانه أنه سيواصل عملية السيطرة الكاملة على غزة. هذا التوجه يكشف أن أهدافه الحقيقية تتجاوز "القضاء على حماس"، لتشمل القضاء على أي وجود فلسطيني سكاني منظم، سواء في غزة أو الضفة الغربية. ويظهر ذلك جليًا من خلال قرار حكومته في الإعلان عن بناء 3400 وحدة سكنية استيطانية في منطقة "E1" قرب معاليه أدوميم مع حدود الضفة الغربية، الأمر الذي يمنع قيام كيان فلسطين في هذه المنطقة، إلى جانب إعلان ضم مناطق واسعة من الضفة بدعم أمريكي.
إن هذا المسار يضع المنطقة أمام احتمالات وسناريوهات خطيرة: حرب طويلة قد تستمر لسنوات، مجاعة وأزمات إنسانية كبرى في غزة، وجرائم ترقى إلى مستوى التطهير العرقي. أما على المستوى الدولي، فلا يزال الموقف مترددًا، في حين يُتوقع أن يزداد الغضب الشعبي على إسرائيل عالميًا، خصوصًا في أوروبا وآسيا والعالم العربي، ضد السياسات الإسرائيلية. في النهاية، قد يحقق نتنياهو بعض المكاسب الأيديولوجية والسياسية التي ترضي تيار اليمين المتطرف في إسرائيل، لكنه يغامر في المقابل بإغراق المنطقة في صراع دموي طويل الأمد، لا تُعرف نتائجه وعقباه ولا حدود آثاره.
إضافة إلى ذلك، فإن نتنياهو لا يأخذ بالحسبان الآثار المدمرة لمثل هذه الحرب، والتي بطبيعة الحال سوف تودي بحياة الأسرى الإسرائيليين والتي تدعي فيها إسرائيل بأنها تحارب كل تلك الحرب من أجلهم، كما أنها وعلى الرغم من الدمار الشامل التي توقعه في الفلسطينيين، فإن ذلك سيكلف وحداتها العسكرية ضحايا ضخمة يمكن أن تكون نتيجة لحرب عصابات تستمر طويلا. والأهم من ذلك بكثير هو سمعة إسرائيل عالميًا، والتي يمكن أن تتحول الى دولة ونظام مارق، كما تحولت دول قامت بمثل هذه الأعمال في التاريخ الحديث، مثل ما فعلته سريلانكا مع السكان التاميل وبورما مع المواطنين المسلمين. على أن إسرائيل هي أيضًا دولة تختلف عن هذه الدول لأنها محاطة بعالم عربي يمكن أن يتأثر مباشرة وبشكل سريع من عمليات الإبادة، القتل والتهجير العرقي.