في قلب تل أبيب، داخل أروقة المحكمة، تُكتب فصول جديدة من قصة العلاقة المعقدة بين السلطة السياسية والقضاء في إسرائيل. قرار المحكمة بتكثيف جلسات محاكمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى أربعة أيام أسبوعيًا، ثلاثة منها مخصصة للاستجواب المضاد، ليس مجرد إجراء تقني، بل هو إعلان واضح بأن زمن “العدالة حسب الطلب” قد انتهى.
لسنوات، بدا أن نتنياهو ومحاميه، عميد حداد، يتحكمون بإيقاع المحاكمة، يطلبون التأجيلات، ويقلصون عدد الجلسات، وكأن المحكمة تعمل وفق جدول أعمال رئيس الحكومة. هذا الواقع لم يكن فقط مهينًا لمبدأ المساواة أمام القانون، بل كشف عن خلل عميق في توازن السلطات، حيث بدا القضاء مترددًا في مواجهة رأس الهرم السياسي.
لكن قرار القضاة الأخير، رغم تأخره، يعيد شيئًا من الهيبة للمؤسسة القضائية. فالمحكمة، التي كانت تتعامل بحذر مفرط مع طلبات الدفاع، قررت أخيرًا أن العدالة لا يمكن أن تُدار وفق رغبات المتهم، مهما علا منصبه. هذا التحول، وإن جاء متأخرًا، يحمل رسالة مهمة: لا أحد فوق القانون.
رد فعل المحامي حداد، الذي هدد بالانسحاب من القضية بسبب “العبء غير المحتمل”، يعكس منطقًا مقلوبًا. فبدلًا من أن يُنظر إلى تكثيف الجلسات كخطوة نحو تسريع العدالة، يُصور الأمر كتهديد لحقوق الدفاع. لكن القانون واضح: المحامي لا يملك حقًا مطلقًا في الانسحاب، بل يحتاج إلى إذن المحكمة، التي يجب أن تضمن استمرار الإجراءات دون تعطيل.
هذه القضية تثير تساؤلات أعمق حول طبيعة الديمقراطية الإسرائيلية. هل هي ديمقراطية حقيقية عندما يُعامل رئيس الوزراء كـ”ضيف شرف” في المحكمة؟ وهل يمكن الحديث عن استقلال القضاء في ظل هذا التردد المزمن في مواجهة السلطة؟
إن محاكمة نتنياهو ليست فقط اختبارًا قانونيًا، بل اختبار أخلاقي لمجتمع يدّعي احترام القانون. وإذا كانت المحكمة قد بدأت أخيرًا في استعادة زمام المبادرة، فإن عليها أن تواصل هذا النهج بحزم، دون أن تخضع للضغوط السياسية أو الإعلامية.
في النهاية، العدالة ليست امتيازًا يُمنح لمن يملك السلطة، بل حق يُصان لكل فرد، مهما كان موقعه. وإذا أرادت إسرائيل أن تحافظ على ما تبقى من صورتها كدولة قانون، فعليها أن تثبت أن رئيس وزرائها يُحاسب كما يُحاسب أي مواطن آخر.