آخر الأخبار

الثوريون يتساقطون الواحد تلو الآخر/ بقلم: رافي مصالحة

شارك

الثورة، في جوهرها، فعل نبيل. هي انتفاضة ضد الظلم، صرخة في وجه الطغيان، وحلم جماعي بالخلاص والعدالة. لكنّ هذا الحلم، حين يختطفه طامعون، يتحول إلى كابوس أشد قسوة من الواقع الذي ثار عليه الناس. فتغدو الثورة – بدل أن تكون مشروعًا لتحرير الجماهير – وسيلة لتحقيق المصالح الفردية، ومطية يمتطيها من أراد السلطة لا التغيير.
ليست كل الثورات خالصة النية. وبعضها يبدأ صادقًا، لكنه يُختطف في منتصف الطريق. ما إن يسقط النظام، حتى تنكشف الوجوه، ويظهر من كان يرفع الشعارات لأجل منصب، ومن كان يحرض الناس لا لرفض الظلم بل لحصد المكاسب. وعندها، تُستبدل أصنام الطغاة بأصنامٍ جديدة، وتُعاد صياغة القمع بأسماء مختلفة.
المشكلة ليست في الثورة، بل في من يستخدمها كأداة. حين تصبح الشعارات مجرد وسائل تعبئة، وحين يُباع دم الشهداء في سوق السياسة، يصبح الحديث عن المبادئ ترفًا لا مكان له. فالانتهازيون يتقنون ركوب الموج، يعرفون متى يصرخون، ومتى يساومون، ومتى يقلبون الطاولة ليجلسوا وحدهم عليها.
الثائر الحقيقي
الثائر الحقيقي ليس من يصرخ في الساحات فقط، ولا من يرفع القبضة أمام الكاميرات، بل هو ذاك الذي يحمل في قلبه شعلة لا تنطفئ، ويعيش المبدأ قبل أن ينادي به. هو من يرى في الثورة سلوكًا يوميًا، لا مجرد لحظة غضب. من يثور على الظلم في بيته كما يثور عليه في وطنه، على النفاق كما يثور على الاستبداد، على الكذب كما يثور على الفساد.
الثائر الحقيقي لا يبدّل قناعاته إذا تبدّلت مصالحه، ولا يتلون مع تقلبات المشهد. يبقى واقفًا، حتى حين تنحني الرؤوس من حوله. لا يساوم على دماء الشهداء، ولا يبرر للجلاد إذا ما اقترب منه كرسي أو جاه.
هو الذي يرفض الظلم ولو مارسه من كان يومًا حليفًا، ويقف مع الحق حتى لو جاء من خصمٍ سياسي. لا يحتمي بالشعارات، ولا يستخدم الثورة مطية، بل يعيشها ويجسدها. لذلك، هو دائمًا وحده أو في القليل، لأن كثرة الناس تنجذب للثائر الذي يعدهم، لا للثائر الذي يصارحهم.
الثائر الحقيقي لا يبحث عن صورة، بل عن أثر. لا يريد أن يُصفق له الناس، بل أن يصحوا من غفلتهم. هو الذي يعرف أن الثورة الحقيقية تبدأ من الداخل، من تحرير الذات من الخوف، من الطمع، من الأنانية.
وقد لا يُتوّج الثائر الحقيقي زعيمًا، ولا تُعلّق صوره في الميادين، لكنه يبقى، في الوجدان، رمزًا نقيًا. لأن الشعوب، وإن خُدعت مرارًا، لا تنسى من حمل قضاياها بصدق، ومشى وحيدًا في دروبٍ شائكة دون أن يطلب شيئًا لنفسه.
ذلك هو الثائر الحقيقي... نادر، لكنه موجود.

الثورة ليست مناسبة وطنية نحتفل بها، بل مسؤولية مستمرة. وإذا لم يتحصّن الوعي الشعبي ضد من يتخذ من الثورة سُلَّمًا، فإن كل تضحيات الناس ستُهدر، وسيجد الجيل القادم نفسه يثور من جديد، لكن هذه المرة على خيانة الثوار أنفسهم.
إنّ أخطر ما يُصيب الثورات ليس القمع، بل التوظيف. حين تُفرغ الثورة من مضمونها، وتُحوّل إلى بطاقة دعوة لامتيازات طبقية، أو غطاء لتحالفات انتهازية، فإنها تفقد معناها، ويصبح اسمها مجرد عنوان في كتب التاريخ، لا أكثر.
لهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل نجحت الثورة؟ بل: من استفاد منها؟.

في كل مرحلة من مراحل التاريخ، يبرز الثوريون كالشهب، يضيئون عتمة الظلم، ويعلنون التمرد على السائد. يحملون الشعارات، ويقودون الجموع، ويمنحون الجماهير أملاً بالتغيير. غير أن الزمن – كعادته – لا يرحم الحالمين. سرعان ما تبدأ تلك الشُعل بالتآكل، ويسقط الثائرون الواحد تلو الآخر، إما برصاصة العدو، أو بخيانة الصديق، أو – وهو الأدهى – بانقلاب القيم داخل أنفسهم.
كم من ثائرٍ دخل الميدان صادق النية، وخرج منه وهو يفاوض على فتات سلطة أو منصب ملوث؟ كم من قائدٍ هتف باسم الحرية، ثم صار في السلطة ديكتاتوراً يخشى الكلمة ويضطهد الفكرة؟ السقوط هنا ليس جسدياً فقط، بل أخلاقي وفكري. حين يصبح الثائر جزءاً من المنظومة التي خرج يوماً لهدمها، فقد سقط بالفعل، ولو ظل جالساً على عرشه الجديد.
الثورة الحقيقية لا تنتهي بإسقاط طاغية، بل بإرساء منظومة عادلة. غير أن معظم الثوار يسقطون في حفرة الذات، حيث تتحول الرسالة إلى وسيلة، ويغدو المشروع الجمعي مجرد درع لحماية طموح فردي. لهذا، يسقطون… الواحد تلو الآخر.
بعضهم يسقط قتيلًا، وتلك ربما أنبل النهايات. بعضهم يسقط في فخ الإعلام، يصبح صورة لا مضمون لها. وبعضهم يسقط داخليًا، حين يصمت عن الظلم الذي كان يومًا يصرخ في وجهه، إما خوفًا أو مصلحة.
الثورات لا تفشل بسبب الأعداء فقط، بل بسبب سقوط الثوار. لأن الثورة ليست لحظة، بل اختبار طويل للضمير والصبر والمبدأ. وحين يعجز الثائر عن اجتياز هذا الاختبار، يصبح مجرد اسم في ذاكرة منهكة، تنظر بحسرة إلى أحلامٍ تحطمت تحت أقدام من وعدوا بتحقيقها.
وهكذا، بينما تواصل الشعوب نضالها، يسقط الثوريون… الواحد تلو الآخر.
لكن الحقيقة تبقى: الثائر الحق لا يسقط، حتى لو هُزم، لأنه لا يساوم. أما من يسقط، فربما لم يكن ثائراً من البداية.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا