بقلم: محمد دراوشه
يشهد الملف الفلسطيني تطورات لافتة في الخطاب الدولي، وسط تصاعد الزخم الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال منذ 77 عامًا. أبرز معالم هذا التحول جاءت هذا الأسبوع في تصريحات لافتة لكل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، عبّر فيها الزعيمان عن قلقهما العميق من السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة والضفة الغربية، ما يعكس يقظة ضمير أو على الأقل لحظة تقييم عقلاني للمصالح السياسية والاستراتيجية.
في غزة، تتّبع إسرائيل سياسة خنق ممنهجة تحوّلت إلى نمط يومي للحياة تحت الحصار، يُحرم فيها السكان من الغذاء والماء والكهرباء والدواء، في ما يرقى إلى عقوبة جماعية بحق المدنيين. هذه الممارسات تُنفّذ دون رقابة دولية فعلية، وتستهدف ليس فقط إنهاك المجتمع الفلسطيني، بل تحطيم بنيته الاجتماعية والاقتصادية، حتى باتت غزة توصف بأنها منطقة منكوبة دائمة.
أما في الضفة الغربية، فتسارع وتيرة التوسع الاستيطاني يُمثّل وجهًا آخر للسيطرة، إذ تعتمد إسرائيل على بناء المزيد من المستوطنات لفصل المدن الفلسطينية عن بعضها، وتفتيت النسيج الجغرافي والديمغرافي بشكل متعمد. هذا المخطط لا يُظهر رغبة حتى في الحفاظ على “الوضع القائم”، بل يسعى إلى محو فكرة الدولة الفلسطينية نهائيًا، وفرض واقع سياسي يُكرّس الاحتلال كحل دائم وليس مؤقتًا، الأمر الذي يُناقض كل القرارات الدولية المتعلقة بحق تقرير المصير وسيادة الأرض.
على مدار سنوات، اعتُبرت فرنسا وبريطانيا من أبرز حلفاء إسرائيل في أوروبا، وشاركتا في تبرير سياساتها تحت ذرائع أمنية ودبلوماسية. هذا التواطؤ التاريخي لم يكن عرضيًا، بل جاء امتدادًا لإرث استعماري وسياسي طويل، حيث لعبت بريطانيا دورًا محوريًا في صياغة الواقع الفلسطيني منذ وعد بلفور عام 1917، ومرورًا بحقبة الانتداب البريطاني التي أسست فعليًا لانطلاقة المشروع الاستيطاني الصهيوني. أما فرنسا، فقد جمعت بين دعمها العسكري لإسرائيل في مراحل مفصلية، وبين محاولة الحفاظ على دورها كوسيط في الشرق الأوسط، لكنها غالبًا ما كانت تميل إلى الرواية الإسرائيلية تحت ضغط التحالفات الدولية وسياقات الحرب الباردة.
هذا الاصطفاف لم يتوقف عند المواقف الرسمية، بل انسحب على آليات التصويت في المؤسسات الدولية، حيث غالبًا ما اتسم التصويت الفرنسي والبريطاني إما بالامتناع أو المعارضة لقرارات تدين الاحتلال، وسط ادعاءات متكررة بـ”الحيادية” التي فُهمت فلسطينياً بأنها شكل جديد من أشكال الانحياز غير المباشر.
إلا أن المتغيرات الجيوسياسية الأخيرة، وتراجع النفوذ الغربي في المنطقة، وصعود قوى إعلامية وشعبية تُسلّط الضوء على المعاناة الفلسطينية دون تصفية أو تحيّز، دفعت هذه الدول إلى مراجعة تدريجية لمواقفها. وربما تكون تصريحات ماكرون وستارمر لحظة أولى تعكس هذا التغيير، ليس بالضرورة بدافع التعاطف، بل كنتيجة لإعادة ترتيب أولويات استراتيجية ومواجهة ضغط داخلي متزايد من الناخبين والبرلمانيين الذين باتوا أكثر جرأة في نقد إسرائيل.
مقارنة بالموقف الأمريكي، الذي لا يزال يقدم دعمًا سياسيًا وعسكريًا غير مشروط لإسرائيل، فإن لندن وباريس بدأت تبتعد تدريجيًا عن الانفعالات السياسية وتقترب من خطاب عقلاني يدرك أن استمرار هذا النزاع دون حلول عادلة سيؤثر على مصالح أوروبا، وعلى قيمها التي تدّعي الدفاع عنها عالميًا.
التحدي الحقيقي أمام هذا التحول يبقى في ترجمة التصريحات إلى سياسات فعلية على الأرض: كدعم قرارات أممية لوقف الاستيطان، دفع إسرائيل لاحترام القانون الدولي، والمساهمة الجدية في إعمار غزة وإعادة الحقوق لأصحابها. وحدها المواقف العملية ستثبت ما إذا كانت تصريحات ماكرون وستارمر لحظة رمزية، أم بداية كسر احتكار الرواية الإسرائيلية في الغرب.