مصيدة مفاوضات التجويع والضم
امير مخول
لا تزال تتترد مقولات "هناك تقدم في مفاوضات" و"هناك تقديرات ايجابية" و"ستكون اخبار سارة خلال ايام". ومنذ بدء تكثيف هذه المقولات فقد الشعب الفلسطيني اكثر من ألفين من ابنائه وبناته المدنيين في غزة. ميدانياً اعلن الجيش عن توسيع عملياته في وسط قطاع غزة ومنطقة دير البلح، مسوّغا ذلك بإنضاج شروط صفقة التبادل فيما دعت الوزيرة اورسيت ستروك من اقطاب الصهيونية الدينية لتوسع العمليات حتى في المناطق التي وفقا للتقديرات الاسرائيلية يتم احتجاز الاسرى والمحتجزين فيها.
وفقا للمعطيات الاممية فإن ثلث سكان القطاع لا يتناولوا اي طعام على مدار أيام، وبأن المجاعة الناتجة عن سياسة التجويع باتت فتاكة وإبادية، وباتت غزة منطقة طاردة لكل مقومات الحياة الانسانية.
على مستوى الضفة الغربية يحذر رئيسا الاركان والشاباك من التنظيمات الارهابية اليهودية المسنودة حكوميا، وهي التنظيمات الساعية الى جانب منظومة الدولة للتطهير العرقي بروح ذهنية الابادة المعمول بها في غزة.
قراءة:
يكثر التساؤل حول مآرب رئيس الحكومة الاسرائيلي، ولماذا لا يبرم الصفقة ووقف اطلاق النار حتى وهو يردد بأنها صفقة جزئية تتواصل الحرب بعد مهلة الستين يوما. بعد عودته من واشنطن كرر التصريحات بالابرام السريع للفقة وبانهاء الحرب دون ان يحدد كيف بل اكتفي بربطها بتحقيق اسرائيل اهداف الحرب على غزة لكنها كانت اول مرة يتحدث عن انهاء الحرب.
هناك تفقديرات بأن نتنياهو قد يبرم الصفقة ووقف النار نحو السابع والعشرين من الجاري او بعده حيث تخرج الكنيست الى عطلتها الصيفية لغاية اواخر اكتوبر. فيما تزداد المؤشرات بأن انتخابات الكنيست ستجري في ربيع العام 2026. وهناك من يشكك في ذلك اذ لا تخلو التقديرات من احتمالية تأجيلها الى ما بعد موعدها القانوني وذلك بسبب الحالة الامنية.
ينعم نتنياهو بمساحة من الراحة السياسية اذ لا يوجد تهديد لحكمه حاليا وحصريا بعد 27 الجاري، فلا المعارضة بقادرة على اسقاطة ولا تشكيل بديل حاكم لائتلافه، وان كانت احتمالية لسقوط الحكومة فهي من داخل مركباتها، ويبدو من قبل نتنياهو بنفسه حيث يحدد الموعد المناسب له سياسيا لاجراء الانتخابات وبذلك يسيطر على جدول اعمالها ايضا.
على الرغم من ان التوتر الحقيقي مع الحرديم قد يدفع الى القطيعة وحصريا مع يهود التوراة، فإن ذلك ليس كافيا لاسقاط الحكومة دونما انضمام حزب شاس للمبادرة. وفقا لصحيفتي معريف ويسرائيل هيوم فإن استطلاعات غير منشورة اجرها كل من حزبي الليكود وشاس، فإن جمهور هذه الحركة يميل للانضمام الى الليكود او التصويت له والانسلاخ عن شاس، باعتبار ان هذا الجمهور يميني كهاني لكنه ليس حريديا وفي غالبيته يخدم في الجيش بخلاف موقف قياداته الروحية. فيما كانت التهديدات على تماسك حزب شاس لغاية الان تتأتى من حزب القوة اليهودية برئاسة بن غفير، يتضح الان بأن الانزياح الاكبر سيكون باتجاه الليكود بقيادة نتنياهو. وفقا لذلك فإن خروج شاس من الائتلاف سوف يكشف هشاشتها وتراجعها وقد تصبح هامشية.
تتواصل مساعي نتنياهو لخلق الانطباع وحصريا امام الادارة الامريكية بأنه في ضائقة سياسية تهدد حكومته في حال ابرام الصفقة، وهو يدرك ان لا احد من مركبات الحكومة يريد اسقاطها فعلا. الغاية من خلق هذا الانطباع هي ضمان تفهم امريكي لوتيرته البطيئة قصدا، ما يعني ضوءا اخضر لمواصلة الحرب الإفنائية في غزة، استغلال انشداد انظار العالم نحو التجويع كي تقوم المليشيات الارهابية بالتطهير العرقي في الضفة الغربية في خدمة مخططات حكومية ووفقا للخطوط العريضة للحكومة منذ 28 ديسمبر 2022 وحصريا الاتفاق الائتلافي بين الليكود والصهيونية الدينية.
اللافت ايضا هو سلوك ادارة ترامب، فهي تتحدث عن ضرورة انهاء الحرب على غزة تبدأ بصفقة تبادل "تعيد المحتجزين الاسرائيليين"، كما وتمتنع عن فرض قرارها على نتنياهو وحكومته بهذا الصدد، بل تتيح المجال لمفاوضات تجري على نسق التنقيط البطيء، فيما ميدانيا تمد اسرائيل بكل ما تريده من آلة دمار شامل ومحو للوجود الفلسطيني، ومؤخرا وصلت عن طريق البحر شحنة ضخمة من الجرافات العملاقة من طراز دي 9 الاحدث والمدرعة، والتي كانت ادارة بايدن قد جمدتها في حينه لاسباب قانونية وسياسية. وهي الاليات التي تقوم بهدم كل بناية او بيت او مرفق لم تطله التفجيرات في القطاع. كما وتمنح ادارة ترامب لنتنياهو الفرصة بعد الفرصة في اطالة امد المفاوضات من خلال تبطيء وتيرتها، وبالتزامن تسريع وتكثيف عملية احتلال كامل القطاع وافنائه عمرانيا وسكانيا ومن كل مقومات الحياة.
وفقا لمعظم التقديرات الاعلامية والاممية الانسانية فإن التجويع هو الاداة الاستراتيجية الاسرائيلية الراهنة، وقد باتت الغايات مكشوفة وتتم فعليا دونما اية كوابح أو مواربة. التجويع هو العقاب الجماعي الوجودي للفلسطينيين لكونهم لم ينزحوا الى خارج حدود القطاع لاجئين في انحاء العالم. ان النوايا بجعل القطاع خاليا من سكانه بالكامل ومن الارض الصالحة ومن المأوى تتطلب ان تكون اداتها التطهير العرقي سواء بالابادة التحويعية ام بالتهجير. كما سيبحث الكنيست بعد عطلته الصيفية مخططا عمرانيا للقطاع قدمه اقطاب الصهيونية الدينية (تسفي سوكوت وليمور سون هارميلخ) يقضي باستخدام كل الردم الناتج عن هدم كل شيء في غزة، في بناء بنية تحتية لمنطقة تجارة حرة عالمية في القطاع. والى تحويل القطاع الى جزء من النقب الغربي والى حديقة تكنولوجية ومركزا استيطانيا معتمدا على الذكاء الاصطناعي. لا تبدو احتمالية لمثل هذا المشروع، لكن وضعه على جدول اعمال الكنيست في حال تم، يؤكد ان مخطط التطهير العرقي يتسارع.
في المقابل بدأت ملامح شرخ في المجتمع الاسرائيلي بصدد التجويع والصور المنبعثة للعالم، جزء منه هو نتيجة المواقف الدولية وقد كان وقعٌ كبير للبيان الصادر عن الدول ال26 المطالب بالمساعدات ووقف الحرب فورا وبحل سياسي يشمل الضفة والقطاع. كما يسود اسرائيليا شعور بالخوف من حملات الملاحقة والمقاطعة، فقد طالب رئيس نقابة الاطباء في اسرائيل 22/7 بادخال المساعدات الطبية والمنقذة للحياة فورا الى قطاع غزة، وبدأ الاعلام الواسع بنشر تقارير بالتزامن مع ملاحقة جنود اسرائيليين قانونيا وقضائيا في دول مختلف بتهمة ارتكاب جرائم حرب. هذا بالاضافة الى كم كبير من مقالات الراي التي تدعو الى وقف الحرب نهائيا والى التوقف عن سياسة التجويع التي سوف يتحمل مسؤوليتها ليس فقط الدولة بل كل جندي وفقا للمساءلة الدولية. فيما يدعو انصار التطهير العرقي الى مواصلة وتكثيف سلاح التجويع الابادي، واحتلال كامل مساحات القطاع حتى ولو على حساب ارواح الاسرى والمحتجزين الاسرائيليين كما تطرح الوزيرة اوريت ستروك.
في الخلاصة فإن وتيرة المفاوضات البطيئة هي مصيدة سياسية متوافق عليها كما يبدو اسرائيليا وامريكيا، وذلك بخلاف التصريحات الامريكية العلنية. ومن الواضح ان مفتاح الحل في السياسة الاسرائيلية هو بيد نتنياهو ومفتاح الحل الرئيسي لايقاف الحرب هو بيد ترامب الذي يمتنع عن فرض الحل ويمنح نتنياهو المزيد والمزيد من الوقت لمواصلة التجويع الابادي في القطاع. فيما خطاب "التقدم في المفاوضات" بات تكرارا لعدم التقدم، في حين ان عدم ابرام الصفقة هو ليس نتاج اختلافات في الراي او سوء تفاهم، وانما نتاج قرار سياسي يريد الحديث عن المفاوضات ويريد مواصلة حرب التجويع وتكثيفها.
الموقف العربي بامكانه توجيه الضغوطات النافذة دبلوماسيا على الموقف الامريكي والدولي من خلال اعتبار غزة منطقة فلسطينية والتصرف وفقا لذلك في مسألة المساعدات الانسانية ووقف الحرب. وما لم يحصل هذا التحرك العربي الهادف، وما لم تفرض ادارة ترامب وقف الحرب يبدو ان العوامل المحلية والاقليمية وحتى الدولية غير مؤاتية لوقف الحرب في حين ان غزة تموت وبتسارع.