تسير إسرائيل، تحت قيادة بنيامين نتنياهو، نحو مشهد مشحون بالتصعيد والمواجهات التي تبدو وكأنها لا تُدار بعقلية رجل دولة، بل بعقلية رجل ملاحق قضائيًا يسعى لتثبيت بقائه السياسي بأي وسيلة. فوسط أزمات داخلية خانقة، وعلى رأسها محاكمات فساد واحتجاجات شعبية، يتخذ نتنياهو من الجبهات العسكرية ساحة لتصدير أزمته نحو الخارج، كأنه يفتعل الحرائق في الإقليم ليشتت الأنظار عن الحريق المشتعل في الداخل.
في غزة، أثار قصف كنيسة في حي سكني موجة تنديد عالمي، ليس لأنه الحدث الأول، بل لأنه جاء بعد سلسلة طويلة من الاعتداءات على المساجد خلال أوقات الصلاة، وعلى المستشفيات ومراكز الإسعاف. هذه الاستهدافات، رغم خطورتها ووضوحها، لم تكن كفيلة بتحريك الرأي العام العالمي، الذي بدا متسامحًا أو خاضعًا لمنطق تبرير القوة. لكن استهداف الكنيسة حمل رمزية دينية وإنسانية دفعت كثيرين لإعادة التفكير في حدود ما يمكن السكوت عليه في سياق صراع لا يفرّق بين مقدّسات وأبرياء.
في سوريا، أرسلت إسرائيل طائراتها لتقصف قوافل عسكرية ومواقع قيادية للجيش السوري قرب السويداء، بزعم حماية الطائفة الدرزية. لكنها لم تتوقف عند ذلك، فامتدت الغارات إلى مقارّ للقيادة العامة ومناطق محاذية للقصر الرئاسي. التصعيد جاء بعد زيارة نتنياهو لواشنطن ولقائه ترامب، إلا أن الإدارة الأميركية فوجئت بحجم الهجمات التي بدت غير منسقة، وأثارت حفيظة كبار المسؤولين، حيث وصف أحدهم نتنياهو بأنه "يتصرف بجنون... يقصف كل شيء وفي كل وقت". بينما قال آخر: "ما الذي يجري بحق الجحيم؟".
هذه التصرفات دفعت إلى تزايد المخاوف داخل البيت الأبيض من أن نتنياهو لم يعد حليفًا منضبطًا، بل أصبح يشكل عبئًا على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، خصوصًا بعدما ساهمت واشنطن في ترتيب هدنة في سوريا، لتأتي الضربات الإسرائيلية فتنسف ما تحقق من تهدئة. ورغم امتناع ترامب عن انتقاد نتنياهو علنًا، فإن المؤشرات القادمة من واشنطن توحي بأن الصبر الأميركي بدأ ينفد، وأن التحالف الذي كان يُنظر إليه على أنه وثيق قد يواجه لحظة اختبار حقيقية قريبًا.
وفي الضفة الغربية، تشهد المدن والمخيمات الفلسطينية تصعيدًا ميدانيًا مستمرًا، يبدو أنه تجاوز الطابع الأمني التقليدي ليصبح استراتيجية ثابتة، تهدف إلى تفجير الداخل الفلسطيني وتقويض أي إمكانية واقعية للتعايش أو إطلاق عملية سياسية جديدة. الاقتحامات الليلية باتت نمطًا شبه يومي، تتخللها اشتباكات دامية واعتقالات جماعية، بينما يستمر توسيع المستوطنات بوتيرة متسارعة تتحدى القانون الدولي، وترسخ واقعًا جغرافيًا يصعب تغييره في المستقبل.
سياسات التهجير الناعمة أيضًا باتت أداة مفضلة للحكومة الإسرائيلية، من خلال مصادرات الأراضي، وهدم المنازل، ومنع تصاريح البناء للفلسطينيين، ما يؤدي تدريجيًا إلى خنق التجمعات السكانية وفرض بيئة طاردة. هذه الإجراءات ليست معزولة، بل تُنفذ ضمن رؤية أيديولوجية تعتبر الضفة أرضًا قابلة للضم الكامل، أو على الأقل للسيطرة المنفردة، دون شراكة فلسطينية في المصير السياسي. وفي العمق، يُلاحظ أن هذه السياسة لا تسعى فقط إلى تقويض السلطة الفلسطينية أو منع تشكل دولة مستقبلية، بل تهدف إلى توليد حالة دائمة من الإحباط والغضب الشعبي الفلسطيني، يمكن استخدامها لاحقًا كمبرر لتوسيع العمليات أو قمع الانتفاضات. وفي ظل هذا الواقع، تبدو الحكومة الإسرائيلية وكأنها تكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الصراع، يعتمد على فرض الأمر الواقع بدلًا من التفاوض، وعلى الإملاء بدلًا من الحوار، في مشهد يزيد من عزلة إسرائيل الدولية ويُضعف موقفها الأخلاقي والسياسي على الساحة العالمية.
وعلى الحدود اللبنانية، تتكثف الاستطلاعات الجوية والتحركات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك غارات محدودة تُنفذ بين الحين والآخر، وسط تصاعد حدة الخطاب السياسي والتهديدات المتبادلة. هذا النشاط لم يُفسر حتى الآن كإجراء احترازي أو دفاعي مرتبط بتهديد مباشر، بل كجزء من سياسة "إشغال الجبهة الشمالية" في محاولة لتخفيف الضغط الداخلي الذي تواجهه حكومة نتنياهو، خصوصًا في ظل محاكمات الفساد والاحتجاجات الشعبية المتواصلة.
المناورات الإسرائيلية الأخيرة، إلى جانب بناء الجدران الذكية ونشر بطاريات الدفاع الجوي، تُعطي انطباعًا بأن إسرائيل تسعى إلى تهيئة مسرح عمليات مستقبلية، أو على الأقل إرسال رسائل ردع لحزب الله وحلفائه. لكن في الوقت ذاته، يرى مراقبون أن هذه الخطوات تنطوي على مخاطر حقيقية، كونها قد تُفسر في بيروت وطهران على أنها مقدمة لتصعيد فعلي أو حتى حرب خاطفة، خاصة إذا تم استغلال أي حادث حدودي لتبرير رد عسكري واسع.
في هذا الإطار، يرى كثيرون أن نتنياهو لا يتحرك وفق منطق استراتيجي طويل المدى، بل وفق منطق سياسي قصير الأجل، يهدف إلى صرف الأنظار عن أزمة الحكم في تل أبيب. فتح جبهة مع حزب الله، أو حتى التلويح بها، قد يكون وسيلة لشد الصفوف الداخلية أو لإرباك خصومه السياسيين، لكنه في المقابل يضع المنطقة على فوهة بركان، لأن أي خطأ في التقدير أو تصعيد غير محسوب، قد يفضي إلى مواجهة غير مسبوقة تؤثر على لبنان وإسرائيل والمنطقة بأكملها.
وسط هذا المشهد، يظهر تساؤل مصيري: إلى متى سيبقى ترامب حاملًا لعبء نتنياهو؟ وهل نقترب من لحظة تتحول فيها العلاقة بين الطرفين من تحالف استراتيجي إلى عبء سياسي؟ مع تزايد الانتقادات داخل الإدارة الأميركية، ومع شعور بأن قرارات نتنياهو تخرج عن المألوف وتُربك الحسابات الأميركية، فإن احتمال فكّ هذا الارتباط لم يعد مستبعدًا. وإذا ما تحول نتنياهو من حليف إلى مصدر إزعاج سياسي وأمني، فقد يضطر ترامب إلى إعادة النظر في هذا التحالف، خصوصًا إذا باتت تداعياته تهدد مصالح واشنطن الإقليمية أو تضعف حضورها الدولي.
وهكذا، يتضح أن إسرائيل في ظل هذه القيادة لا تتحرك وفق رؤية استراتيجية تخدم شعبها والمنطقة، بل تتحرك وفق حاجة شخصية للنجاة السياسية. وهي حاجة، إن تُركت تتحكم في القرار، قد تجرّ المنطقة إلى فوضى شاملة يدفع ثمنها الأبرياء من كافة الأطراف، بينما تبقى الأزمة الحقيقية دون مواجهة داخلية حقيقية.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com